Share Button

كتب /سليم النجار
فمن أين تأتي الرواية ؟ ليس سؤالا ساذجاً ؛ ولا غريباً ما قد يتهيّأ من بداهة جوابِه الظاهرية . يقتضي منطق الجواب عن أيّ سؤال أوّلاً إعمالَ الذهن فيه ؛ بتأمّله بُغيةَ فَهْمه ؛ ولفَهمْه ؛ إخضاعُه بدوره للسؤال ؛ أي هناك استدعاءً لما قبل ؛ ثمّ التفكير في سياق ذهنيَّ ؛ لابد سيُفضي إلى تصوّر بَعديَّ ؛ يخضع معه الجواب للمعقولية أوّلاّ ؛ ولقابلية تحقّقه راياً وفعلاً ؛ حسب مقتضى الحال . بذا ؛ فإن سؤالنا من تأتي الرواية ؛ : ( كان رجلاً كبيرًا هذا الشرطي الذي غزا الشيب مفرقيه … رسم على شفتيه ابتسامة ؛ وقال : كل يوم يحدث هذا .. كل يوم يلجأ إلينا في المخفر غريب يبحث عن غريب مثله .. ليَحْمِ الله أبناء الشعب الفلسطيني ويجمع شملهم ! .. ص٧١) .
وهو على بداهة النص وبساطته المطلقَتَيْن ؛ يتطلّب تأنَّياً واعتمادَ أكثرَ من مرجعٍ ومنطق لمحاولة بسْط محاولة جواب أوَّليٍّ له ؛ هذا لمَمنْ يحتاج عادةً إلى أجوبةً محدّدة لمسائل خارجَ الدّقّة الروائية ؛ : ( تحلق الشباب حولها ؛ فحدثتهم بصوت مرتفع ؛ وأخبرتهم ما حصل معها ؛ وهي غاضبة ؛ وتكاد تخرج عن طورها .. ثم مرت من أمامه ؛ وهي تحمل جواز سفرها ؛ وقالت له بالإنجليزية : لا تضعف أمامهم .. كن فلسطينيا حقيقيا ص٢٣٠) .
افترض أن كلمات رواية ” جنة ونار ” ؛ للروائي يحيى يخلف فيها كانت بريئةً ؛ بسيطة طاهرة ؛ لا خبثَ فيها ولامكرَ أو تلميحاً ؛ وهي عموماً قليلة في النص الروائي ؛ : ( أن تخلع جميع ثيابها ؛ فتعاركت معها ؛ فجاءت مجنّدات أخريات ؛ وأجبرنها على التعري ؛ وكن يسألنها عما إذا كانت تحمل رسالة من ” ابوجهاد ” إلى التنظيم السري في الجامعة ؛ فتَّشن ثيابها ؛ وحقيبتها ؛ وعرينها لكي يبحثن عن رسائل محتملة ومخبأة ؛ وبحثن حتى في أماكن حساسة من جسدها ؛ وعندما لم يجدن شيئا تركنها ؛ وأعدن لها ثيابها وجواز سفرها ص٢٣٠ ) .
فالمعنى هنا هو نتيجة للعملية التأويلية التي يستخلصها القارئ من النص عن طريق أليات معنية يجب ان تتوفر للعملية التأويلية ؛ وخصائص معينة للقارئ ؛ عند ذلك يقوم التأويل بدور مهم في استخلاص صورة المعنى المتخيل عبر سبر أغوار النص واستنطاق دلالاته والبحث عن المعاني الخفية والواضحة عبر ملء الفراغات للوصل إلى تأويل النص انطلاقا من تجربة القارئ الخيالية والواقعية . فالتأويل بعبارة بسيطة هو قراءة معينة ؛ واستدلالات على حالة فهم خاصة ؛ تؤدي إلى فهم خاص للنص . فالتأويل هو القراءة والمعنى هو الفهم الناتج عنها ؛ ويخلف كان يصطاد المعنى في روايته ” جنة ونار ” ؛ كصيّاد ماهر ؛ : ( أغلقت الست إنعام باب الغرفة وقالت :
– اطمئني يا بنتي .. أنا فلسطينية مثلك . اشرحي لي مشكلتك .. قررت سماء أن تقول لهذه السيدة كل شيء .. ولماذا تخفي المأساة ؛ حتى لو عرف أهالي المخيم ؛ وأهالي دمشق ؛ والعالم أجميع .. ما الذي تخشاه من الكلام ؟ ما الذي ينمع أن تطلق صرختها ؟ ص١١٨) .
إن المبدع عند كتابته للنص يرسم عالماً مشابهًا لعالمه ؛ أو يحاكي به العالم الحقيقي الذي يريد أن يعبر عنه ؛ مستخدمًا في ذلك اللغة بما تحمله من طاقة إيحائية هائلة ؛ فرواية ” جنة ونار ” تفترض بناء عالم ؛ ويستجيب أن يكون هذا العالم كثيفًا في أبسط جزئياته ويأتي دور المتلقي لكي يقوم برسم صورة مماثلة أو مشابهة للعالم الذي أراد يخلف التعبير عنه ؛ : – نمشي بشكل طبيعي ؛ ففي هذه المنطقة يتواجد عمال من عرب الداخل يعملون في الأراضي الزراعية ؛ ووجودنا لايثير الريبة ص٣٥٦) .
أي ان يحيى يخلف يمرُّ من خلال عالمه الذي يتجلى في الأفكار والمشاعر إلى النص ؛ ف” امتلاك الأشياء على وجود الكلمات” ؛ فيبني نصًا أدبيًا وهو في الحقيقة مرآة المبدع ومشاعره ومنها إلى عالمه الذي أراد رسمه ؛ : ( كان ضوء شحيح يتسرب من المصباح عبر النافذة . بدرية هدها التعب ؛ واستسلمت للنعاس . الأنجليزي ينام على رمال الشاطئ ؛ الطبيعة صامتة ؛ والليل ينشر عتمة فوق سطح البحيرة وأمواجها الهادئة . ونقاء يعم بعد المطر ص٣٦٥) .
الحاجة هنا في رواية ” جنة ونار ” فتّاكةٌ ؛ لا تشبه الفاقة في الشتات الفلسطيني رغم قساوته وجنونه ؛ لكن دائماً هناك إنسان في النص الروائي له إحتياجت حياتية تترواح بين التخّبط والمتطلبات القُصوى من مأكل ومسكن وزواج ونَسل ومشاعر يجب البوح بها ؛ ويخلف انحاز لرصد المشاعر وجاءت على الشكل التالي ؛ :قالت بدرية إنها تشعر بالوحدة بعد رحيل الجميع بالوحدة ؛ لكن هذا همّ ؛ ورحيل سماء وامّها خلسة والناس نيام ودون أن يودعاها هّم آخر ؛ واسهبت في شرح التفاصيل ؛ وعرّجت على ذكر السبب الذي تعتقد أنّ سماء غضبت من أجله ؛ وقالت إنّ نجيب لا يتمتع بالقوة والصحة الكافية ؛ للانصياع إلى مطلبها ص٣٣٦) .
مصحوباً بهذا الفهْم ؛ أحسب أن يخلف دَوّنْ أموراً لا ينبغي أن تفلتَ من حسّ الزمن ؛ وتطير من الذاكرة بسبب وطأة الأيام ؛ : ( وانتهى العزاء ؛ وعاد الجميع من حيث أتوا ؛ ما عدا بدرية التي قررت أن تبقى إلى جانب السيدة سميحة . بدرية التي واجهت أحلك الأيام وخرجت من حطام السنين شامخة على الرغم من الندوب التي ظلت ماثلة في ذاكرتها ص٢١) .
والمبدع البارع في استخدام المجاز يستطيع أن يصوغ نصّا بليغّا وموحيُّا ؛ فالمجازات تشكل شفيرة بلاغية ؛ كما فعل يخلف في روايته ” جنة ونار ” لكن مجازية خاصة تتناول الحالة الفلسطينية ؛ : ( تختلط بشباب وبنات المقاومة ؛ وتوزع معهم المنشورات ؛ وتثبت الملصقات على الجدران ..
كان الوالد يؤيد ” فتح ” ؛ لكنه يجاهر بحبه وإخلاصه للحاج أمين .. كان على صلة دائمة معه ؛ يزوره بين حين وآخر في بيته في الجبل ؛ ويحتفظ بالمجلات والبيانات التي كان رئيس الهيئة العليا يصدرها .. ص٨) .
فالرمز هنا طاقة إيحائية تولد معانٍ خفية تحتاج إلى قارئ واعٍ يفك شفيراتها ؛ لأن اللغة الرمزية التي تقوم عليها المعاني الإيحائية تُعَدُّ في ذاتها لغةً مضاعفةً تمتلك نظامًا عالي التشفير كما فعل يخلف في اختياره عنوان لروايته كعنوان ” جنة ونار ” ؛ : ( عندما أفاق ” أبو حامد ” من غيبوبته كان البيت ساكنا وصامتا ص٥) .
واكرر ما قاله أمبرتوإيكو” بائس وبائس ذلك الذي لايعرف كيف يخاطب قارئ المستقبل ” ؛ وهذا ما فعله الروائي يحيى يخلف في ” جنة ونار ” ؛ انه خاطب قارئ المستقبل .

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *