Share Button

للكاتب في استخدامه اللغة طريقته في التفكير والتعبير، ولا يوجد كاتب يمنع بسطوته الأدبية ونفوذه الفكري حظوظ كاتب آخر سواه في طريقة التفكير والتعبير. كان هناك “طه حسين” وهو أديبُ كبيرُ من حملة الشهادات الكبرى، وكان هناك “عباس العقاد” وهو أديبُ كبيرُ ولم يحصل من الشهادات إلا على الابتدائية؛ فما منع طه حسين حظ العقاد، ولا استطاع العقاد أن يمنع حظ طه حسين، لكن قبول القارئ للكاتب يتوقف على فضيلة روحيّة يستشعرها القارئ بين سطور كلمات كاتبه. هذه الفضيلة الروحية والفكرية ترتد إلى الإخلاص في استخدام اللغة إذا حسُن بها التعبير عن طوايا النفس وخفايا الوجدان وسرائر المعارف الظاهرة والباطنة؛ بما من شأنه أن يمتع الذوق والفكر ويرقي الإحساس.

هذه الفضيلة الرُّوحيّة الفكرية التي ترتد إلى الإخلاص المحض الذي لا تشوبه شائبة، يراها القارئ ذات دلالة كريمة إذا هو تلمَّس آثارها فيما يلمسُه دوماً في طريقة الكاتب في التفكير والتعبير. يراها إذْ ذَاك بلا ريب في فضيلة الصدق والإخلاص ومخاطبة الناس من ذات النفس الصادقة ومن قرارة الضمير المخلص.

وما دمنا ذكرنا مراراً وتكراراً كلمة “الصدق” هذه؛ فعلينا أن نفرق بين نوعين من الصدق، وأن نحدد مدلولهما فيما يمكن أن نستخدم الكلمة في سياقاتنا المعنية. فالنوع الأول: هو الصدق الاعتقادي؛ المفهوم فيه ديني لا عقلي. الصدق فيه صدقُ وجداني، قلبي، عقدي، إنساني: فيه كل معاني الصدق بالمفهوم الديني، ومرجعيته مرجعية دينية. ومستوى الإدراكات فيه قلبية وذوقية وليست هى بالعقلية وكفى.

أما النوع الثاني: فهو الصدق المعرفي؛ المفهوم فيه نظري، يجيء على مستوى المعرفة النظرية، ليس شرطاً فيه أن يكون كله صدقاً بل ربما يجيء الكذب من مهامه الأساسية في عملياته الإدراكية، فينقلبُ الكذب صواباً يقتضيه منطق العقل الصوري أو منهجيته الصورية، فمدى الصحة المنطقية هنا مُقدَّمة على الصحة الواقعية. المفهوم فيه عقلي لا ديني؛ وبالتالي فالمرجعية هنا عقلية نظرية وليست دينية، هنا يكون الصدق الاعتقادي شيئاً آخر غير الصدق المعرفي. ونحن نستخدم الصدق بمعناه الأول غاضين النظر عن النوع الثاني.

الصدق الاعتقادي هنا ليس هو الصدق المعرفي. الصدق المعرفي شيء، والصدق الاعتقادي شيء آخر.. لماذا ..؟ لأن الاعتقاد يلزم عنه العمل بالضرورة وليس الصدق المعرفي بلازم عنه العمل ضرورة؛ فمعيار هذا غير معيار ذاك. إذا نحن أدخلنا النظر فيما عَسَاه يمضي بالمعرفة إلى التحقيق؛ فلا العمل هاهنا ولا النظر طريق يؤدي إلى الصدق الاعتقادي مادامت طرق الصدق تحول بين المعتقدين في جوانب الحق.

ومن علامات الصدق الاعتقادي أن نقول:” من لم تكن طريقته (أي معرفته) تصلح لإنقاذ نفسه من شرور نفسه، من براثن الوقوع في محظورات الرزيلة، فكرية كانت أم خُلقية, فقلَّ أن ينتفع بشيء مما يفعل أو يقول، فنفعه لنفسه كان الأحرى والأوْلى، فضلاً عن نفعه لغيره!”. أو نقول:”المعرفة التي لا نفع فيها خيرٌ منها عدمها؛ لأنها في هذه الحالة لا تصبح معرفة بمقدار ما تصبح عبثاً للعقل وطريقاً لتضييع المعقول”.

وعليه؛ فإنّ إنقاذ النفس إنما يكون بالمعرفة وبتطبيقها ينتفع المرء بها في حياته، أي المعرفة التي يتوافر فيها عنصر “الصدق الاعتقادي”، وليس “الصدق المعرفي” وكفى. الصدق المعرفي لا يكفي لإرشاد العقل إلى الحقيقة الدينية، أو لاتخاذ مواقف وجودية ترشد إلى المعرفة الرَّبَّانيَّة.

واقع الصدق الاعتقادي يتجسَّد في حياة الأنبياء والأولياء. وواقع الصدق المعرفي يتجسد في حياة الفلاسفة والعلماء وذوي البحوث النظرية المصروفة عن التطبيق العملي للأفكار المطروحة؛ فليس مطلوباً من الفيلسوف ولا من المفكر التنظيري أن يعتقد الصدق الاعتقادي وهو يبحث عن المعرفي؛ أي يروم من الناحية المعرفية الصحة المنطقية الصورية وكفى. وليس مطلوباً من رجل الدين أن يعتقد كما يعتقد الفيلسوف أو المفكر التنظيري الصحة المنطقية دون السلوكية أو العملية. هذان واقعان مختلفان ومقرران على مستوى المعرفة وعلى مستوى الإدراك العقلي المحدد بصورة كل إدراك على حدة.

تجدر الملاحظة أيضاً أن المدركين للصدق الاعتقادي غير المدركين للصدق المعرفي من ناحية أن البناء العقلي الذي يتوافر عليه أصحاب الإدراك الأخير لا يجعلهم يعطون أهمية قصوى للصدق الاعتقادي، وقد لا يطيقون الكلام فيه أو عنه؛ فيحاولون جادين سَدَّ باب الحديث عن درجاته أو عن أي شيء يمس شيئاً فيه. أما الخلفية الأخرى؛ أعني خلفية الصدق الاعتقادي، فهى خلفية ذوقية شعورية توَظف حسب مقتضيات الشعور الديني وتستند إلى مدركات القلب. ومدركات القلب، ذوق وشعور وحساسية وجدانية، وحماسة روحية، وليست هى بالعقل والبرهان والمنطق والصورية. ومن هنا فالصدق الاعتقادي قلبي، والوعي فيه وعي قلبي، فيه التصديق والتسليم أوفر وأقرب مما سواهما؛ فالمدركون من ثمَّ للصدق الاعتقادي غير المدركين للصدق المعرفي؛ فإذا كان الأولون قلبيين؛ فالآخرون عقليون برهانيون، يهمهم المعرفة الصورية؛ فالصدق المعرفي صورة، لا يعول عليها، وليس واقعاً حقيقيَّاً، ولا هو بالطريق الذي يمضي في هذا الواقع؛ ليعزز الإدراك الواثق بقِيَمِهِ في شيء.

* * *

أجمع العرفاء من الصوفية على أن “الطريق لسان صدق”؛ لا يتبادر قيد أنملة إلى أذهان أصحابه كذب أو بهتان، ولا ترتقي إليه المطاعن والأدران، ولا يتطرق إليه بُعْدُ عن الحق المنشود في تقرير ما عَسَاهم ينشدون، فعباراتهم دالة أكملُ ما تكون الدلالة في مستوياتها الإدراكية: الخفية المستترة أو الظاهرة البادية، حتى إذا ما كانت الدلالة بمفردها تعطي الصورة الوافية لمثل هذا الإدراك الباطني في العملية الإدراكية للمعاني المنبعثة عن العبارة؛ صارت بالضرورة بموجب هذا الإدراك توحي بما لا يدع محلاً للشك بأن “الطريق لسان صدق”؛ ومعنى أن يكون الطريقُ لسانَ صدق؛ أي أنه يعطي من ذاته التَّصور الأوفى صدقاً في جميع الأقوال والأحوال والأفعال بما ليس يتبادر الكذب مطلقاً على لسان أصحابه أو يخطر لهم على بال.

وإنه ليُخَيَّلُ إليَّ أن جميع الذين يدركون منه بالمعاناة مصداقيته على اختلاف مستويات إدراكاتهم قد لا يلتفتون أحياناً كثيرة إلى ما عَسَاهم يدركون من طريقة إدراكهم تلك؛ ولذلك لأنهم في غيبة حتى عن إدراك العبارة حين تجيء على مثل هذا المستوى الدلالي لتلك المعاني ومدركاتها الجُوَّاِنِيَّة الباطنة؛ أعني المستوى الدلالي من حيث كونه مفهوماً يُسْتَقَى من البنية العميقة – لا السطحية – للعبارة، يدركها مُتَلقيها حين يقولها العارف المخلص الخالص، أو حين يفهم القارئ منها هذا المستوى أو ذاك. لكأنما الوعي هو الذي يحركها فتتحرك من أعلى إلى أدنى، أو من باطن إلى ظاهر، أو من لا مرئي إلى مرئي، أو من خَفي مستتر إلى مجلوّ مشهود.

غير أنه وعي مخصوص بجهة مخصوصة؛ إذْ الوعي الصوفي هو في الأساس “غيبة”! غيبة تحدث في حال الفناء؛ أو تتحرك العبارة بمقتضى الوعي في جميع الجهات كأنها حركة دائرية يتوتر فيها الباطن بفاعلية الوعي في مستوى الدلالة المُوحِية، بطريقة يَنْفَرد بها الإدراك داخل الذات العارفة تعبيراً عن عرفان صاحبها بمستوى معين يتخذ أشكالاً عديدة من التنوِّع المعرفي يصعب معها الوصف في الغالب؛ وأحياناً كثيرة يستحيل التعبير.

وخيرُ مثال على ذلك شذرة قصيرة قالها النفَّريِّ:”… النَّظر ربَّما خَاطَبَ النَّاظر بما لا تَنْقَالُ به عبارة، ولا تحمله ترجمة”. والمقصود بالنظر هنا ليس هو النظر العقلي ولكنه نظر المشاهدة الكشفية: الرؤية الشهودية الفاعلة في الوعي الصوفي على التحقيق. تأمل النّفَّريِّ حين يقول:”العِبَارةُ ستر فكيف مَا نُدِبَتْ إليه”؛ تجده يتحدَّث عن مستوى دلالي نعم؛ لكنه خَفيُّ غير ظاهر للعيان، مستور من العبارة في بطن الإشارة، حتى إذا ما كانت العبارة ستر فكيف بما هو مندوبة للتعبير عنه وهو غاية الغايات في التكتم والاستتار.

المستوى الدلالي؛ يتجاوز السطح البرَّانيِّ ليَغُور في العمق الجوَّانيِّ، ويأخذ من أدنى الخطاب ليعطي أعلى الإشارة؛ فهو – من أجل هذا – يُعَدُّ أرفع المستويات في العملية الإدراكية (الذوْقية) مع عزتها وندرتها؛ لا لشيء إلا لأنه أرفع المستويات الناهضة في جانب العمل التطبيقي الذي يخرّجها أي (الخبرة الروحيّة)، فيظهرها في مستوى جدير بالإدراك لمن شاء أن يدركه على صفته المنوطة به مشروطة على شرطه هو لا على شرطٍ سواه. وشرطه هو الذَّوْق المُدْرِك والاستبصار المشهود، ورعاية المثل الأعلى في مطالب الجمال الفني والذوق القويم.

إنما العبارة ذات المستوى الدلالي تُعْطينا تصوراً تنفرد به الخصائص البادية في كل حركة إدراكية داخل الذات العارفة إدراكاً ذوقياً قائماً في بطن صاحبه بمقتضى العرفان؛ ليجيء الإدراك لمقومات الطريق مَوصُوفَاً بالصدق لا لشيء آخر غيره. وليس يخفى أن الإدراك المقصود هنا لهو إدراك الذات العارفة المدركة حتماً من طريق ذائقتها وإنْ لم يكن يكفي محصولها اللغوي بالوفاء بما لديها، ولكن لا تنفصل الذات عن إدراكاتها بكل صورة من صور إدراكاتها الداخلية المغمورة في جوف صاحبها، والمبطونة في تلافيف وعيه الغائر السحيق العميق. ولكننا مع ذلك كله نتساءل: هل كانت كل الطرُق التي يُتَوَصَّل إليها بمثل هذا اللسان الصادق- لا بعينه! – موصوفة بالصدق بغير خلافه، حالاً وقولاً وفعلاً؟
والجواب بالطبع لا. ليست كل الطرق بطبيعة الحال فيها – على ما يبدو – مثل هذا الصدق، ولا هى فيها مثل هذا الإدراك؛ إذْ من الصدق ما هو برَّاني لا يعبر عن الحقيقة الباطنة الخفية ولا يعطي النظر الأوفى لسماحة المثل الأعلى فيما تطلبه آفاق الإنسانية، فضلاً عن أن يصيبها من أقصر الطرُق أو من أطولها، وهو مع ذلك يُسمى الصدق بالمعيار لا بالعمل والانفعال.

فمن الصدق الذي حدَّدناه ننطلق، فنعوِّل هنا بالقطع على الصدق الديني الاعتقادي؛ لنقول: مِن الطُرُق ما لا يمكن الوصول إليه مطلقاً بغير هذا النوع من الصدق. والصدق كما تقدَّم على وجوه: أهمها هنا الصدق في الأقوال والأفعال مشروطاً بفعالية الإخلاص. والصدق في الأقوال مَدْعَاةٌ إلى الصدق في الأفعال ومترجم عنها؛ فالقول الصادق مؤسس على الفعل الصادق.

والذين يَصْدقون في الأقوال يستطيعون أن يتكشفوا من ذواتهم هذا الإدراك العلوي فضلاً عن الوقوف عليه طريقاً للإدراك. إنّ إدراكه إدراكاً مباشراً لا ريب فيه هو من جنس “الذات العارفة” المبدعة عملاً في كافة الأحوال (كأنه السليقة المطبوعة يشع منها الإيمان كما يشع النور من الكوكب الساطع، أو كما يشع العطر من الزهرة الزكية، مثلما وصف “العقاد” خُلق شاعر الهند الأكبر رابندرنات تاجور).
الصادقون صدقاً اعتقادياً هم أكثر الناس إدراكاً في العملية الفاعلة للإدراك الذوقي وهى التي يعزُّ علينا – نحن الناظرون – إدراكها إذا لم يكن الطريق لدينا كما كان لديهم بالفعل لسانَ صدق.

* * *

ومن الصدق الذي حددناه مرة أخرى ننطلق وعليه نعوِّل؛ لتجيء الكتابة هنا إحساساً صادقاً ليس إلا، أي نعم! تكاد تكون الكتابة في غير إحساس صادق نكاية على الكاتب، ونكاية على القارئ سواء بسواء. فأما الكاتب؛ فلأنه يخدع قارئه بما ليس فيه، ولا يرشده إلى حقيقة ما يدَّعيه، يتجرَّد إلى غاية ما يصل إليه من تجرد فلا يصدّقه قارئه، ولا يقدر أن يمضي معه إلى حيث يريد في ظلمات ليس فيها نور من عين القلب ولا بصيرة من بواطن الضمير، يتعالى عليه في غير سمو فيما يقول، ويعطيه أشياء غيره، ولا يعطيه أشياؤه هو، إذْ ليس عنده ما يعطيه:”وفاقد الشيء – قالوا – لا يُعطيه” !

وأما القارئ؛ فلأنه لا يمضي طويلاً مع كاتبه، ولا يصبر عليه، إنْ طال بقاؤه معه، حتى يدرك كذب الكاتب عليه، وانخداعه بما كان قاله له أو بما يريد أن يقوله. وفي هذه وحدها؛ أعني في غياب جهة الصدق، غياب للوعي بين المرسل والمستقبل، أو بين القائل والمتلقي، وإذا حلت الغيبة المفقودة لقناة روحيّة من الاتصال حلَّ الملل والسأم والضيق لافتقار المصداقية. وافتقار المصداقية لفقدان “الصدق” بداية.

ألا.. فكم هى قليلة لحظات الصدق في وعي الإنسان؟ أتدري ما هو وعي الإنسان؟ هو لحظة انفجار قوة باطنة مشمولة بالإحاطة الكاشفة، ليست هذه اللحظة هى العقل، وليست هى واقع حسيِّ يمكن أن تقرأه أو تتنبأ به أو تتكشف خباياه، لا بل هو شيء يفاجئك بغتة ويحيطك فجأة ويشملك من جميع أقطارك ويستولى عليك كليةً: هو عبقرية الوعي الإنساني الذي يطمح فيه المرء في هذه الحالة حتى لكأنه في طموحه يحتاج إلى عنف شديد كيما يستطيع أن يتعامل مع الواقع، فيخضع واقع النفس للتجربة، بمقدار ما يخضع إليها واقع ما هو بإزائه على مستوى ما يُفكر فيه. ومن هنا افترقت الدلالة فأصبح لكل مستوى دلالته.

هذا الوعي من المؤكد أنه شديد دَفَّاق، عالي وليس بالعادي، لدرجة لا يمكن احتمالها، ربما لا يمر على الإنسان في حياته كلها – مع التجربة – مثلما تمر عليه تلك اللحظات، حتى لكأنه لا يمكن أن يكون المرء خلاله قانعاً بما في خطورة وعيه من مدارك هذه اللحظات. قد يكون طموحاً، ربما، لكنه مع كل طموح من هذا النوع، يعطي الحقيقة الباطنة في مجموع ما يدرك وفي مجموع ما يرى. غير أنه في الواقع لا يجد سوى رؤية، هى في الغالب ينظر إليها نظرة ضيقة شديدة الضيق؛ لتتأكد لديه الرؤية؛ وليعطي في تقديره حكمة هو يريدها في أشق اللحظات ولا يريد سواها، هو يحتاج إلى شيء تستند إليه تلك القوة التي تلازمه ساعة أن ينفذ ببصيرته في جميع ما يدرك، إنّ وعيه في هذه الحالة من الأكيد يتلاحق على الفور ليعطي الصورة الدائمة كشفاً للإدراك القادر على التحقيق.

لا جَرَمَ أن الطريقة التي ينجم فيها الوعي بهذه الدرجة لهى الطريقة المُتَفَرّدة يظهر فيها الفكر المتميز والتفرد النادر، مع الشعور، مع الإحساس، مع التأمل مع جميع ملكات الإنسان الظاهرة والباطنة؛ لتصف الإنسان كله من بعدُ بأوصاف لا يقتدر هو نفسه على تصديقها أو تصويرها للغير في صورة كلامية مفهومة أو مقروءة: هو هو الكيان الآدمي كله، الكينونة الباطنة التي يصفو فيها الواقع صفاءً بلا حدود، ويعطي فيها الواقع (أعني واقع التجربة الإنسانية) عطاءه للتفكير الذي ينشده بعض الخُلَّص مِمَّن يَعُونَ مثل هذا الوعي؛ هنا مستوى ما لا يمكن وصفه، مستوي العمى اللُّغوي: فقدان اللغة تماماً، إذْ الوعي في هذه الحالة عالي وليس بالعادي. واللغة تستمد مددها من الوعي العادي، أعني وعي العقل الشارح للوعي العالي بعد التجربة لا فيها ولا معها. إنّ الحالة التي تكون بمثابة هذا الإدراك مصاحبة؛ لهى عينها العبقرية السامية: الحالة التي تعطي حظها من المدارك العليا النافعة للإنسان ولبني الإنسان، ولا تقاس بمقدار ما لا تعطي له مدارك أخرى أدنى ما شاء لها أن تعطي مما لا نفع فيه، و لا ذكر، ولا وعي، ولا إحسان ولا تجربة حقيقة بالممارسة والشهود.
فإنـَّا لنجد “أصل الكتابة” على هذا الذي تقدَّم، في الإحساس الصادق “وعياً” ولا يزيد، لا في الإدعاء الكاذب الذي لا يفيد. أكتب ولا عليك فيما تكتب، أكتب لا عن فكر وكفى، ولكن عن فكر ممزوج بإحساس؛ عن تجربة ومعاناة، وبمقدار ما يفتح الله به عليك تكتب، هنالك يكون الإحساس معيّة، وما دون ذلك هو في الواقع مجرد خيالات تَوَهميِّة لا يمكن أن تقترب من الحقيقة في شيء.

هذا هو بالضبط، أعني هذا الذي هو دون ذلك، ما تؤكده وقائع الكاتبين ويصدق عليهم في كثير من الأحيان صدقاً ليس يمكن أن ينصرف إلى ما سواه. ثم هنالك من يَدَّعُون ويستطيلون إلى أقصى حدود الاستطالة والإدعاء؛ لكأنهم يمتلكون “قلم القدرة”، يكتبون به في غير تواضع وفي غير تفهيم؛ فإلى هؤلاء الذين يكتبون بقلم القدرة، عليهم أن يخففوا الوطء شيئاً فشيئاً؛ فهناك في بعض خلق الله عقول لا تعرف سوى طاقتها، عليهم أن يدركوا أن ليس كل أحد بمقدوره أن يعرف مثل هذا الطريق الذي يكون فيه المرء قادراً على أن يفهم ما عَسَاه يصدر عن “قلم القدرة”! عليهم أن يخففوا من غلواء دعواهم شيئاً فشيئاً.

إنّ قلم “القدرة” كقلم العجز؛ كلاهما سواء فيما لو انطمست البصائر، وعميت المدارك، وفقدت التجربة، وضاقت العقول عن الفهم وغابت عن تفهيم الناظرين.

الواقع يشهد بالصلة القريبة بين الاعتقادات المختلفة على حسب تقديرات المقبول منها أو على حسب ترجيحات المرفوض فيها؛ فكُلُّ يعتقد الرأي ويعتقد نقيضه إنْ لم يكن في نفس الوقت؛ ففي وقت قريب أو بعيد نسبياً، وكثيراً ما تقترب الخلافات البعيدة لتتوحد مع سلامة النية وسلامة المقصد، وإذا توحَّدت المصادر تلاشت الخلافات؛ فما يبدو ظاهراً على الأسطح البرانيّة من خلاف بين بعض الكاتبين هو خلاف اعتباري يزول بزوال العوارض المرجعية. وبمقدار ما يتصل الوعي بالتأكيد على الصفة المثلى المنشودة والتي تناط بتقديرات هذا الواقع يمكن أن يكون المعنى المراد ذا صلة بمفهومه وبمفرداته. قد تكون هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان ممن يدركون واقع الكتابة وتجارب الكاتبين. الكتابة إحساس صادق من الكاتب إزاء ما يشعر به من تبعات، والتبعة شعور أخلاقي؛ لأنها شعور إنساني. والشعور الإنساني هو الذي يطلعك على أفضل الفضائل العظيمة تثبت أمام النظر؛ لأنها تثبت أمام العقول المفكرة على آماد الزمان. (وللحديث بقيّة).

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏نظارة‏‏‏

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *