Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

سألتُ نفسي في لحظة تأمل : فيما تفكر؟ وبعد برهة ليست بالطويلة تداعت معها خواطري تترى، تتابعت وتشاكلت وتشابهت مع المقروء، ثم انفعلت به، لتجيب : أفكرُ فيما يثيره عندي هذا المقال، وهو شئُ جديرُ بالوقوف حقيقٌ بالإثارة، وتلك هى علامة الكاتب المبدع : أن يثير فيك حفيظة التفكير لتوافق أو تعارض، سيّان. المهم إنك تفكر فيما تقرأ، وأن يقودك التفكير دوماً إلى الإثارة المعرفيّة.

وبما أن فريضة التفكير خاصّة عقلية في الإنسان على التعميم، تقتضي التنبُّه الدائم واليقظة الفاعلة في معقول ما يُفكر فيه، فلا شئ يقدح زناد شعلتها وينبّه إلى نشاطها غير قوة الفكر وصياغته في لغة تناسب تلك القوة وتلائم توجُّهاتها العلويّة وآفاقها النظريّة سواء.

أنا هنا لا أتحدّث عن وفاق أيديولوجي بيني وبين الكاتب من جهة العقل، ولا عن محبّة قديمة من جهة القلب، ولكن أتحدّث عن “خصيصة معرفيّة” قد لا تتوافر لدى الكثيرين ممّن يسوّدون صفحات بيضاء.
كنتُ أقول لنفسي : كم منهم ممّن قرأت وتابعت، أثار فيك حفيظة التفكير والمعرفة، وجعلك تمسك بقلمك لتعلق رافضاً أو موافقاً، مختلفاً أو متفقاً، ليس هذا هو المهم مع أنه من الأهمية بمكان، ولكن المهم هو أنك أُثرت، فانقدحت لديك مشاعل التفكير.
ليت شعري، ألم تكن هذه الإثارة الباطنة هى نفسها علامة صقل الكاتب ورسوخه فيما يكتب من غير أن يفرض عليك قناعاته؟

الإجابة عندي، نعم ! بالطبع هذه الإثارة الباطنة علامة نفاذ الكاتب إلى العمق؛ لتكون كتابته خالية من التسطيح فضلاً عمّا يتغشّاها من صدق مُخلص فيما عساه يرى من مقبول الآراء. أمّا القناعات، فهي شئ آخر، إن تكن ماثلة مع الوفاق الأيديولوجي غير أنها تخاطب فيك سلامة الذوق وسلامة الإحساس واتساق الفاعلية العقلية.

ربما تجد إنّك بحاجة إلى قراءة الموضوع مرة بعد أخرى لتُرسّخ عندك جمال العبارة ولتتذوق حيوية الفكرة، بعكس ما تقرأه لغيره ممّن يكتبون بغير صدق وبغير تعميق، هنالك في التيه المترامي لست تنتهي إلاّ إلى ما هو أقرب إلى التسطيح، ما تلبث أن تقرأ وتمضي في القراءة أشواطاً حتى تتمنى أن تُنهى ما تقرأه لكي لا تعلق بذهنك تفاهته، أو يرسب بعقلك ضعف مستواه، ناهيك عن افتقار الإثارة المعرفية مطلقاً، إن في الشكل وإن في المضمون، إن في المبنى وإن في المعنى. فالفرق جدُّ كبيرٌ بين العمق هنا والضحالة هناك.

ومن ذلك الفرق الهائل بين الضحالة والعمق، أقول تعليقاً على ما أثاره المقال عندي، والحقيقة أنه لم يكن مقالاً واحداً بل عدّة مقالات مرتّبة فكرتها العامة في سياق دلالي هادف، تجمعها دراسة كلية تحت هذا العنوان (الديمقراطية بين الممارسات والشعارات في ثقافتنا العربية) للصديق الدكتور “عصمت نصّار” أستاذ الفلسفة والكاتب المرموق والباحث المُدقق والمفكر الأصيل، مجموعة ضمن كتابه الصادر هذا العام بعنوان “من التقليد إلى التبديد”، لتختط طريقها المنهجي نحو (إشكالية المفهوم – أوهام الديمقراطية – بين مصطلحي الديمقراطية والحريّة – الديمقراطيّة ومعوقات تطبيقها) من (ص 127 – إلى ص 141) من الكتاب المذكور.

إنه؛ إذا كان يحدّثنا عن عبادة البطل وتقديس الحاكم باعتباره هو المسئول وحده عن تسيير الحياة السياسية وضبط إيقاع المجتمع في شتى نواحيه، لينحدر ذلك الوهم من موروثاتنا الثقافية التي تجعل الحاكم هو ظل الله على الأرض، وأن جلوسه على كرسي الحكم قدر لا فكاك منه. أقول؛ إنه إذا كان يحدّثنا عن أحد أعمدة المربع الوهمي الافتراضي لغياب الديمقراطية ويختار فكرة تقديس الحاكم أهمها وأولاها؛ ليبدأ بتعرية الوهم الناشئ عنها، فإنّ عبادة البطل وتقديس الحاكم، خصوصاً في ثقافتنا المصريّة، تمتدُ لجذور عريقة ترجع إلى أقدم الحضارات.

لقد كان الفرعون يمسح أثار الماضي البغيض ممّا توصّل إليه سابقه بممحاة سوداء، لكأنها تشبه قطعة من الفحم كيما لا يراها أحد، إنه ليقطع التواصل الذي يحكم به منطق التاريخ لينسب لنفسه فضل صناعته، ثم يبدأ كفاحه الجديد وكأنه هو الأوّل والأخير على وجه الأرض (أنا ربُّكم الأعلى) ثم يأتي الفرعون اللاحق له فيمسح ما تركه الأول بنفس القطعة الفحميّة، وهكذا دواليك بغير انقطاع.

ثقافة المسح وإلغاء السابق، أو إن شئت قلت : ثقافة المسخ لا فرق ! هى الثقافة العريقة في الوعي المصري. نقدّس حكامنا إلى درجة العبادة لا بل نعبدهم بالفعل، ونخشاهم بالفعل، فنضطر إلى تملقهم ونفاقهم بغير أن نصارحهم أو ننصحهم، أو يكون لنا عليهم حق المعارضة والاختلاف.

لو كان الأمرُ متصلاً بعامة الناس لهان الخطر وخفّ البلاء، ولكن أمر العبادة هذا، يتجاوز رجل الشارع ليلحق بالمثقفين والكتّاب وأولي الرأي في بلادنا؛ فإن الخضوع للحاكم والتذلل لسلطته آفة العقول التي تقترب منه بوجه من الوجوه، وهى آفة لا تكاد تتعدى حدود العبادة بمعناها الشرعي الديني، فكل سلوك أو عمل منمّط وفق هذا الشعور الديني المنظور إليه كسلطة عليا ترهب وتخيف، هو عبادة قائمة على السخرة والخضوع لا على المحبّة والموالاة.

فليس يكفي أن يكون الحاكم في الموروث الشعبي ظل الله في الأرض، وبمجرد جلوسه على سدّة الحكم يكون قد أخذ حقه البطريركي، لا ليس يكفي هذا، ولكن أيضاً “تجب طاعته، والانصياع إلى أوامره، والدعاء له من فوق المنابر عقب كل صلاة. أمّا مناقشته أو مراجعته أو عصيانه فجريمة آثمة تصل إلى حدّ المروق والعصيان أو الخيانة والكفران”.
أفتح إن شئت أية صفحة رأى في أي جرنال، فماذا تجد في الأغلب الأعم غير كمّ هائل من النفاق المُزرى للقائد الزعيم مع أن الزعامة والقيادة لا تحتاج إلى مثل هذا النفاق الموبوء؟ الزعامة تحتاج إلى وعي الشعب بحقوقه ومسؤولياته كيما تتقدّم وتمضي في طريقها على ثقة واطمئنان، ولا تحتاج الى التطبيل الذي يضرها ولا ينفعنا، ويعوق سيرها النافع للبلاد والعباد.

أكثر الناس إسهاماً في صناعة البطل وبالتالي غيبة الديمقراطية هم الكتّاب المنافقون، والأدعياء المزيفون، والمثقفون المغيبون، والإعلاميون المأجورون؛ فلئن كان عليهم عبء درء التخلف ومواجهة المزالق الخطرة ومحاربة المفاسد المستشرية، فإنهم لا يملكون ضمائر حيّة توقظ وتنشط ولا تدعو للغفلة والنعاس.

اليوم قرأتُ مقالاً لأحدهم هو رجل عاش في زمن العمالقة – وفي زمن العمالقة يختفي الأقزام – أيام الفتوة الفكريّة على عهد المرحوم د. زكي نجيب محمود، وهو الآن يعدُّ من كبار المُنظّرين للوعي المصري خاصّة، بل والوعي الحضاري على التعميم، يُرجع إليه المرجع الأصيل للفصل فيما هو قائم، لكنه في زمن زكي نجيب محمود لم يكن في عداد الطائفة المثقفة التي يناط بها عبء النهوض بمستقبل ثقافي لهذا البلد، والبلاد التي تجاوره وتتشارك معه في الخصائص والسمات.

هذا المُنظّر الكبير يقول في مقال طويل هو تلخيص لبحث ألقاه بالمملكة العربية السعودية في إطار المشاركة بفاعلية دعم الحوار وتشجيعه، إذ يبدأ مقاله بتلخيص فكرة البحث عن الحوار وسمة المجتمع المدني، وبعد أن يتكلم عن الحق البطريركي، كما تصوّره السير روبرت فيلمر كنظام مؤسس عن الحق الإلهي للملوك، الأمر الذي يجعلهم لا يطيقون فكرة خلعهم من عروشهم؛ لأنهم يستمدون هذا الحق من وجودهم المقدّس باعتباره إلهيّاً، يروح فيعرض لما تصوّره “جون لوك” للمجتمع المدني ممّا هو يأتي على الضد من فكرة روبرت فيلمر.
بالطبع؛ هذه الفكرة تجئ على النقيض من فكرة المجتمع المدني كما يراها جون لوك؛ إذ الإنسان في رأيه يولد حراً، وهذه الحرية تحوطه بالمسؤوليات وتفرض عليه التبعات. ومن ثم؛ فإن أي نظام حُكم يلزم بالضرورة أن يستند إلى عقد اجتماعي معتمد من جماعة بشريّة لتأسيس مجتمع يكون من صنع سلطة العقل، وليس من صنع سلطة دينية.

ولا شك في وضوح الفكرة ولا غبار عليها، لا سيما وقد وجدت لدى “كانط” الفيلسوف الألماني، في كتابه مشروع السلام الدائم، ووجدت من قبله عند الفارابي الفيلسوف الإسلامي في “آراء أهل المدينة الفاصلة “، ولكن وجه الاعتراض هو : بافتراض أن الذي يمنع المجتمع المدني من التدهور ويمنع كونه مجتمعاً مدنيّاً مستمراً على هذا النحو دون تحوّل، هم، في رأي كاتب المقال، جماعة المثقفين ! تلك كانت هى فكرة “المثقف العضوي” كما جاءت لدى مؤسسيها الاشتراكيين، وخصوصاً “أنطونيو جرامشي”.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو : ما معنى الزّج بهذه الأفكار اليوم، مع قدمها، ومحاولة الضغط بها على المثقفين، والمثقفون معزولون رغماً عنهم أو باختيارهم عن الواقع الفعلي؟

عندي أن قياس الديمقراطية في الشعب لا تقيسها نسبيّة الثقافة، ولكن يقيسها المواطن العادي أو قُل رجل الشارع إزاء ما ينعكس عليه من معطيات الحياة اليوميّة إن سلباً فسلب، وإن إيجاباً فإيجاب، فهل تحققّت لرجل الشارع حياة كريمة على أرض الواقع تحت ممارسة حرة أم لم تتحقق؟
ودع عنك، من بعدُ، أي نظام، وكل نظام، حتى ولو كان شعاراً لا يمسّ الواقع في شئ.
هذا هو “الهامش” الذي كنتُ أفكر فيه، وجاء صدى للدراسة أو المقال الذي كتبه الدكتور “عصمت نصار” (بتاريخ 13/10/2018) بنفس العنوان.

ولكن عليّ قبل المُضي قدماً في دراسة الموضوع بتفصيلاته أن أختط لنفسي – عامداً متعمّداً – خطتها في نقطتين : الأولى، أن أحفظ حرف الكاتب كما هو دون التصرُّف فيه إلاّ قليلاً، وأن أبقيه خالياً من التدخل من جانبي كيما أحتفظ بالصياغة الذاتية للفكرة موجّهةً في قالب نقدي نحن أحوج ما نكون إليه. وسبب ذلك عندي هو : كشف تنويعات المستوى الدلالي الصادر عن البنية العميقة للخطاب لا البنية السطحية، فليس أسهل من أن يتم تلخيص الفقرة بكلمة أو كلمتين أو التعقيب عليها بما يناسبها من دلالة أو مفهوم، لكن هذا لا يكشف عن البنية العميقة لكاتب النص ولا يبقي أثره حياً فاعلاً في هامش القارئ، ومقصودي هو إثراء الهامش المعرفي بإثارة الدلالة الخفيّة.

أمّا النقطة الثانية : فهى تتعلق بالمنهجية النقدية، إنه مادام النقد التحليلي باقياً في صلب الموضوع حاضراً في أجزائه، فلسنا بحاجة إلى إبراز ما هو بارز أو إظهار ما هو ظاهر، وإلّا كان الأمر مُجرّد تحصيل حاصل لا مزيد عليه، وليس الشأن – في تقديري – هو الموافقة أو المعارضة، وإنمّا الشأن هو استجلاء “الهامش” الذي تتركه في الذهن عملية القراءة نفسها، وتبقيه يقظاً فاعلية الإثارة المعرفيّة في إطارها النقدي.

فالديمقراطية في بلادنا شعار لا ممارسة – كما قال الدكتور عصمت نصّار – شعارٌ يرفعه الشباب في تظاهراتهم الساخطة على كل أشكال الاستبداد والقمع والقرارات والقوانين التي تحد من حرية الأفراد والجمعيات المدنية، وتحول بين المبدعين والمفكرين والبوح بتصوراتهم وآرائهم، باسم (الحفاظ على العادات والتقاليد تارة، وحماية الأصول العقدية تارة ثانية، والعمل على الاستقرار واستتباب الأمن تارة ثالثة). أضف إلى ذلك، أحاديث الإعلاميين عن حرية النقد والمناظرة باعتبارهما من أهم آليات الإعلام الثوري الرامي إلى إيقاظ الرأي العام وتنويره، وردع السلطة القائمة للحد من إساءتها وجورها للشعب والكشف في الوقت نفسه عن مواطن الفساد الذى استشرى في كل نواحي حياتنا اليومية”.

إذا كانت الديمقراطية بهذه المثابة : مجرّد “جهود نظرية” وغايات مأمولة للدفاع عن الحرية كمطلب إنساني وحق مشروع، غير أنها تعدّ في رأي “عصمت نصار” مجموعة من الأفعال التي لا تعدو أن تكون مجرّد دعوات غوغائية تتشدق بشعارات غير واضحة المعالم على أرض الواقع، لا حظ فيها من العقلانية أو العمل الجاد الساعي إلى تحقيق الرغبات وتفعيل الأماني في حياتنا العمليّة. ومن أجل ذلك، وجبت لديه دراسة الموضوع دراسة فلسفية وفق منهج يراه الكاتب “منحازاً إلى المنطق في الاستدلال وإلى الممارسة في المحاجاة وبسط الأدلة”.

وكان من البديهي أن يبدأ البحث بتحديد المصطلحات ليتم عرض الإشكالية بموضوعية وحياد بعيداً عن التهم التي تلقى جُزافاً في غير تحقيق، فكان السؤال الفلسفي هنا من الأهمية بمكان؛ لتقويم أركان المناقشة للموضوع وترقية منهجيته العملية بفرض الفروض اللازمة لمعنى الديمقراطية واستخلاص المفاهيم المُساغة لتطبيقها.

وعليه؛ فأول سؤال يطرح نفسه – سؤال المفهوم – : هل مصطلح الديموقراطية الذى أضحى شعارًا قد خرج من بين سطور القواميس والمعاجم السياسية وصفحات فلاسفة السياسة القدماء والمعاصرين إلى دنيا الممارسة؟ وهل هذا مصطلح متفق عليه أو مجمع على دلالته التطبيقية بين ممارسيه؟

وبعد طرح السؤال بتلك الكيفية الدلالية لإزالة اللبس عن الاصطلاح، يروح “عصمت نصار” فيجيب عن التساؤل المفهومي في إطار العنصر الذي بدأ به دراسته عن “إشكالية المفهوم”؛ ليرى أن ” أن معانى الديمقراطية التي وردت في المعاجم السياسية هى نظام سياسي يكون فيه للشعب نصيبٌ في حكم الدولة بطريقة مباشرة أو شبه مباشرة. وقد أجمع التطبيقيون على أن الصيغة الديمقراطية المباشرة (الشعب يحكم نفسه بنفسه) لا يمكن تطبيقها إلا في نطاق ضيق كأنظمة (الأسرة، المؤتمرات، الإدارات، داخل الأحزاب والمؤسسات، أو المدن الصغيرة من حيث المساحة وعدد المواطنين) وبهذا، تصبح الديمقراطية صورة ليس إلاّ، تصبح شكلاً بلا مضمون.

أمّا الديموقراطية شبه المباشرة، فهى التي يشترك فيها الشعب عن طريق ممثليه يختارهم بالانتخاب أو الاقتراع ويعرف ذلك النظام بالديمقراطية النيابية. ويعرّف الليبراليون الديمقراطية بأنها تلك التي تقوم على البرلمان أو المجلس النيابي المنتخب من قبل الشعب، وتتلخص وظيفته في : (التشريع وسن القوانين، ومراقبة الحكومة، وحماية القضاء، والتأكد من إخلاص ووطنية وولاء الممارسات الحزبية القائدة).

أمّا الاشتراكيون والماركسيون فيرون أن ديمقراطية الغرب زائفة، لأنها تحمل بين طياتها الفروق الاجتماعية والطبقية الجائرة (سادة رأس المال، وعبودية الفقراء) بجانب فساد البرجوازية واستغلال الإقطاعية، ومعنى ذلك أن الديمقراطية الأمريكية والأوروبية مجرد شعارات وهمية تُخدع بها الشعوب.
والحقيقة أنها لعبة لا يملك قواعدها إلا من يمتلك الدولارات والمصانع ودور الصحف؛ فجميعهم هم أصحاب القرار الحقيقيين.

وبما أن الديموقراطية الحقّة هى التي تعبّر عن مصالح الجماهير الكادحة وتمثل الصيغة السياسية للدولة الاشتراكية، فإنها لا محالة تحمى حقوق الشعب في تطبيق العدالة والمساواة والرعاية الصحيّة والاجتماعية، وتصبح الحكومة في ظل هذا النظام خادمة للشعب وساعية إلى تحقيق حقوقه في العمل والإسكان والتأمينات وحرية التعبير والنشر، وهى التي تسعى دوماً إلى سعادة ورفاهية المواطنين دون أدنى تفرقة بينهم، طبقية كانت أو عرقية أو دينية، شريطة أن تطلع بهذه المهام الآتية: (تنظيم الأسواق وحماية المواطنين من الاستغلال، الضمانات الاجتماعية والتأمينات المعيشية، إيجاد تعليم حكومي راق يعمل على تلبية احتياجات المجتمع وتقدّمه، نظام ضريبي تقدمي).

تلك كانت أهم المفاهيم التي صيغت تحت ظلال الديمقراطية اصطلاحاً وإجراءً، لتحدّد معانيها وتبيّن دلالاتها، ولكن هذا البعد المفهومي ولا شك هو بعدٌ يُخرّج مفهوم الديمقراطية بما يتناسب مع واقع المجتمعات التي تتخذها، إمّا شعاراً وإمّا ممارسة، فليست كل المجتمعات بقادرة على قبول تطبيق المفهوم منها من حيث كونها دلالة على الممارسة واقعاً محققاً بالفعل. وكما تكون الممارسة جديرة ببعض النظم السياسية والتطبيقية في بعض المجتمعات المتقدّمة، يكون الشعار هو الأغلب الأعم في الدول النامية أو في المجتمعات التي لا يتوافر فيها قبول الفكرة من حيث كونها واقعاً أو تطبيقاً، لفرط استبداد أنظمتها وترهل قياداتها، ولشدة مفارقة النظرية للتطبيق في واقعاتها الحياتية والمعيشة، فالفيصل إذن هو مدى قبول المجتمع للفكرة، وتنزيلها من يوتوبيا النظر إلى دنيا التطبيق، من الشعار إلى الممارسة.

ويتساءل الدكتور “عصمت نصار” – وهو كثير الأسئلة الفلسفية، دقيق الإجابة عليها، محيط بالمأثور الذي يقرر أن طرح السؤال الفلسفي أبلغ من محاولة الإجابة عنه – يتساءل في مقدّمة دراسته بعد أن طرح المنهجيّة وحدّد المفهوم وقيّد الاصطلاح وعرّف الإجراء ليقوم بتوظيف ذلك كله على واقع سياساتنا العربية، فيقول : فإلى أي نوع من أنواع الديمقراطية ننتصر وندعو ونطالب؟ وهل لدينا من الوعى ما يمكننا من التفرقة بين الأشكال العديدة لتطبيقات الديموقراطية؟ وهل عندنا أحزاب حقيقية تمتلك رؤى وتصورات واستراتيجيات ثوريّة بديلة أو انتقادات واعية لما هو قائم بالفعل أو تعديلات مبررة لقرارات الحكومة أو سياسات للمؤسسات؟ وهل ندرك البون الشاسع بين النظر والتطبيق في تصريحاتنا السياسية وخطاباتنا الحماسية وترشيحاتنا لتولى المناصب والمهام؟

أسئلةٌ في غاية الأهميّة مطروحة في ظل واقع يعترك بالمتناقضات السياسية، وكلها أسئلة تبدو من تنوع سياقاتها رفض ممارسات الواقع السياسي العربي الراهن، ورفض المحاولات التي تتشدق بما كان يحدث في العصر الذهبي للسياسة المصرية، وهو يعني بذلك تلك التجربة الحزبية الثانية من عام ١٩١٩م إلى ١٩٥٣م، الحقبة التي شهدت أقطاب التنويريين يحكمون ويشرّعون ويدافعون عن الحقوق ويحترمون القانون وينتقدون السلطة الملكية والحكومة، ويعارض بعضهم البعض، ويتساجلون تساجل الأيقاظ الأصحّاء دون أدنى مساس بمصلحة مصر. فإن مثل هذه المظاهر غابت تمامًا عن المسرح السياسي الراهن.

وليس يخفى أن فقدان الوعي السياسي مدعاة إلى النكوص والتردي للمشاركة في العمل السياسي، وفقدان الفاعلية التي تلزم عنها الممارسة كما يلزم عنها التطبيق. ولا خفاء كذلك في أن فقدان الوعي السياسي ينجم عنه بالبداهة فقدان الأيديولوجية، والعكس صحيح كذلك، فإن فقدان الأيديولوجية سببٌ لفقدان الوعي السياسي بداهةً؛ فلا طلاب المدارس، ولا عمال المصانع ولا الحرفيون ولا الموظفون والفلاحون، ولا كل هؤلاء أو بعضهم كانوا تدرّبوا في السابق على العمل السياسي ليمارسوه، وإذا لزمت ممارسته فلربما عادت لا إلى القناعة بالفكرة بادي ذي بدء، ولكن إلى العصبية القبلية أو العرقية أو الطائفية أو الدينية أو إن شئت قلت إلى الأيديولوجية، وهى مفقودة كما تقدّمت الإشارة اليه أو تكاد، لفقدان الوعي السياسي الذي ينشئها وتتولد عنه كما تتولد الأفكار المستنيرة من رحم العقول المفكرة.

ومن المؤكد أن فقدان الوعي السياسي على الجملة فضلا عن التفصيل، لم يكن عاملاً من أهم العوامل يترتب عليه انهيار المؤسسات القومية القادرة على صناعة الرأي العام وصناعة قادته وأعلامه فحسب، ولكنه كان العامل المانع، بحكم ضعف هذه المؤسسات، من الترشح لعضوية الأحزاب والبرلمان واللجان المختلفة في المحليات.

إنه، إذا غاب الوعي السياسي وفُقدت الأيديولوجية، غاب المفهوم التطبيقي للديمقراطية المعاصرة، وبغيابها تتحقق الفوضى لتكون معالم بارزة في الحياة اليومية، يصفها كاتبنا بأنها غدت، أي الديمقراطية المعاصرة، (إحدى أركان مربع وهمى افتراضي يشغل الدين، والدولار، والدمار باقي أركانه، أما مركزه فشاغل بكائنات لا تُرى، تروح وتغدو بين أطراف هذا المربع لتصطنع أوهاماً تصدرها للمواطنين .. إنّ الديمقراطية المعاصرة أضحت أيديولوجية يفرضها الأقوياء على الضعفاء، فتقوم الحروب باسمها ويتآمر بها الأذكياء على الأغبياء، فتنشب الثورات وتخرج المظاهرات لقلب الأنظمة وإحداث الفوضى، ويُنظر إليها على أنها ضد الدين وسلاح العلمانيين، ومن ثمّ يجب أن يجيش ضدها الجيوش وتسفك من أجلها الدماء. وفى كل الأحوال يقف العقل ساخراً على زاوية الفوضى، تلعب الدور الرئيس على رقعة الشطرنج التي لا معالم لها ولا قطع تتحرك وفق قانون ثابت فيها).
المربع الوهمي بأضلاعه الأربعة : تقديس السلطة الحاكمة، والمتاجرة بالدين واستحالته – مع التوظيف – إلى سياسة، واستحالة السياسة إلى عقائد دينية، وعبادة الدولار واستغلال الأغنياء للفقراء المعوزين، ثم الدمار اللاحق على هذا كله، والذي هو ثمرة ونتيجة لانتشار تلك العوامل في مجتمع لا تقوم له في الواقع قائمة لهو هو مربع السقوط يقابله مربع آخر يترادف معه. والمقصود به الوقوف على جوهر الديمقراطية بمراعاة أهم أركانه المقابلة (الحريّة الواعية، المعتقدات والأعراف، المال والثروة، الاستبداد والعنف) بشرط إزالة أوهام الديمقراطية من العقل الجمعي عن طريق تنظيف مرآة الوعى والنقد والإصلاح. ثم استواء العلاقة المتبادلة بين الحاكم والرعية؛ فتقديس الحاكم، كما سبقت الإشارة، والتملق له أو تضليله أو تعجيزه أو التمرُّد عليه بغير حق من قبل الرعية يؤدى إلى استبداده وتجبره وانفراده بالرأي أو كذبه وخداعة للرعية وخيانة الأمانة، هذا من جهة السلطة الحاكمة، ومن جهة أخرى، جهة الرعيّة؛ فإن آفة التواكل والتقاعس عن المشاركة الجادة في مجريات الأمور من قبل المجموع، سوف تؤدى حتماً إلى نفس المصير، كما أن إهمال الحاكم تعليم الرعية وتثقيفهم وتوعيتهم ورعايتهم اجتماعيًا وصحيًا سوف يخلق من أفراد المجتمع جماعات فاسدة ومتطرفة في ميولها إلى العنف أو الاستسلام ، كما سيخلق تباعاً مواطنين غير منتمين، مغتربين ويائسين أو أنانيين جشعين، لا ولاء لهم لقيمة أو دين أو وطن أو مجتمع أو سلطة حاكمة.

وبذلك كله تصبح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية، مجرّد شعارات أو أكاذيب يتلفظ بها المنتفعون لتخدير الشعب، فتستحيل إلى دين فاسد أو إلى “أفيون للشعوب”، ثم تستحيل على يد الحكام إلى يد باطشة بالشعب، فتهدر كرامتهم وتسفّه أحلامهم وتضيّع حقوقهم، جزاءً عادلاً لاختيارهم الخاطئ.

ومثل هذه المجتمعات لا مصير لها إلا الدمار – وهو الزاوية الرابعة من المربع الوهمي الافتراضي – وعليه؛ فالدرس الأوّل الذى يجب فعله هو اقتلاع ذلك الوهم من العقل الجمعي، وإقناع الجمهور بأن أي حاكم أو مسئول ما هو إلاّ موظف عند الشعب، ومن هنا وجب التنبيه على أن إهمال محاسبة الحاكم ونقد أفعاله وسياساته وتقييم ما حققه من المهام التي كُلف بها يجب أن يكون المعيار الأول لانتخابه أو تنصيبه من قبل الشعب الذى يتحرى الدقة في استقصاء بياناته ومعلوماته، كما أن الروح السلبية اليائسة من التغيير وإهمال الحق في المشاركة في الانتخابات يعد تنازلًا حقيقيًا عن تلك الغاية أو عن ذلك الشعار، فالتصريح بالرأي هو الأساس الأول الذى تبنى عليه لبنات ممارسة الديمقراطية.

كان ذلك هو الوهم الأول من أوهام الديمقراطية العالقة في تشبث عجيب بذهنيّة العقل الجمعي. أمّا الوهم الثاني الذي يجب اقتلاعه من ذهن العقل الجمعي، فهو النظر إلى أوروبا باعتبارها الممثّل الحقيقي للديمقراطية والنظر إلى المجتمعات الشرقية بعامة والعربية منها بخاصّة، على أنها شعوب وليدة ثقافة استبداديّة جُبلت على التبعية والتسيس بمنطق العصا والجزرة، فمثل ذلك الوهم يُثبط الهمم ويثبّت العقول ويغلّها بأغلال التخلف، ويخلق رأيًا عامًا عاجزًا عن اتخاذ أي قرار إصلاحي أو يقتل أي رغبة في التغيير. وتشهد الواقعات والدراسات العلمية المعاصرة أن ذلك النموذج المُتوهم (الديمقراطية الأورو أمريكية) أبعد ما تكون في الممارسة والتطبيق عن المقصد المنشود من الديمقراطية وحقوق الإنسان”.

وثالث أوهام الديمقراطية، أي جوهرها الذى يحوى بين طياته العدالة والحرية، هو مُفارقة المفهوم عن التطبيق، فبالنظر إلى فلاسفة السياسة والأخلاق ندرك أنهم أكدوا أن ذلك الجوهر من اليوتوبيات التي يحلم بها الشعب دوماً في كل المجتمعات، وذلك لأن كل نظام يتوهم أنه يحقق العدالة تبعًا لوجهة نظره وخدمة مصالحه. ومن ثمّ ليست هناك حرية مطلقة ولا مفهوم للعدالة متفق على صحته، الأمر الذى يستوجب تفعيل ذلك الجوهر في حياتنا بدايةً من الأسرة وتربية الصغار دون أدنى تقليد لعوائد غريبة عن مشخصاتنا أو السير في ذيل المجتمعات المغايرة، فالديمقراطية فعل وليست خطاباً، شأنها شأن الحداثة لا تتحقق بالخطب أو الشعارات بل هى وليدة الفعل والممارسة.

ثم يعرض “عصمت نصار”، لإمكانية الممارسة الديمقراطية في الحياة الأسريّة، في إطار المساحة المخصّصة بين توافق الديمقراطية مع الحرية وانسجامها مع الغاية المقصودة، ويواجه بالنقد والتفنيد كل الظروف التي تحيط بتلك الحياة بدايةً بولاية الأب واعتباره هو الحاكم الأول والأخير لا لشيء إلا لأنه ينفق ويعول ويدبر شئون الخاضعين لولايته، ومع أن المرأة تشاركه في عين المهام الأسرية، ولكنها لا تلقى الدور الذي يلقاه الرجل، لأن المجتمع عموماً ينظر إليها كتابع ناقص الأهلية لا يحق لها، من الأسرة أو من المجتمع، المطالبة بالعدالة والمساواة، ومن ثم صارت مسألة تمكين المرأة، فضلاً عن كونه وهماً يطعن في ذهنية العقل الجمعي ولا يكفل للمرأة تحصيل حقوقها، فهو أيضاً يُضاف إلى جملة الأوهام التي تعوق تحقيق الديمقراطية على مستوى الأسرة والتربية وتأهيل الأفراد الصالحين في مجتمعاتنا. وعليه؛ فاقتلاع هذا الوهم المعشعش في جوف العقل الجمعي هو أول الأولويات التي تنشئ الأجيال على أسس من الحرية والبعد عن العبودية والاسترقاق (ولاية الأب والأم) وإزالة الفوارق بين الذكور والإناث، وتحقيق أكبر قدر من الحرية والمساواة والعدالة باعتبارها القيم التليدة التي ينبغي أن ينشأ عليها الجميع، وبغيرها لا تقوم للديمقراطية قائمة من دلالات الفعل والواقع.
وفي الحق أن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والعقدي أبعد ما يكون عن الجانب الإيجابي الذى يجب أن يشغل المساحة الفاصلة بين هذه الحدود في مركز المربع والفراغات المحايثة لرؤوسه.

ولذلك، كان ضرورياً حصر جميع السلبيات، وهو ما فعله عصمت نصار، التي تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق الديمقراطية، وهى في الحقيقة سلبيات ناشئة عن لوثة المفاهيم، وعن التربية والتعليم لا عن الحقائق المصفاة؛ فمبدأ الشورى مثلاً قد يبرر قبوله من قبل عقولنا التي فطرت على أحادية الرأي والتبعيّة والاستبداد المبرر بالهيمنة والسيطرة. وربما ترجع إلى الأساطير التي شغلت حيزًا كبيرًا من مقدساتنا؛ فالحاكم الظالم قدر وابتلاء، والأمم المتخلفة سنة كونية، وفساد الحياة الزوجية نصيب، والشقاق والصراع من فعل الشيطان. تلك كانت مبررات اتكالية غير مدروسة ولا معقولة تفت في عضد الاستقامة والاستقلال على جميع المستويات الفكرية النظرية أو العملية التطبيقية؛ فلا نخالها إلا الأوهام القادحة في التطبيق والتحقيق فضلاً عن قدحها سلفاً في النظر والاعتقاد.

ثم إننا إذا انتقلنا، حسب نصّار، من التعميمات ودائرة التنظير إلى استقراء مجهر التطبيق على منطق الحوار، فهل ما يجرى بيننا على كل الأصعدة، وفى كل الميادين، يتسم بجوهر الديمقراطية الذى يعترف بالمخالفة واحترام الرأي الآخر، وهل نحن ممّن نمارس التفكير الناقد في محاججاتنا؟ – هكذا يتساءل عصمت نصار – والإجابة لديه بالقطع لا، وإذا كانت الإجابة بالنفي، فلها كذلك ما يبررها ويعطيها حق التبرير بالقطع الذي لا مرية فيه بشواهد من الواقع وأدلة من المحسوس؛ فباستعراض خطاباتنا المُرسلة سواء في التخطيط أو الإدارة أو المؤتمرات المنعقدة وإقامة الندوات أو الإعلام، أو في غيرها من الميادين المتعددة التي تجري فيها ناشطةً كافة الخطابات المُرسلة، فإن شدّة تشريح بنيتها الداخلية وتركيبها في ذهن المجموع بهذه الطريقة التفصيليّة التي يصوّر مشخّصاتها ويجسد سلبياتها قلم الدكتور “عصمت نصار” تصويراً وتجسيداً ربما يتبادر للقارئ للوهلة الأولى فيهما : الخروج عن الواقع والجنوح إلى المثال، ولا هكذا تكون الديمقراطية مع كل عيوبها ومثالبها، وخلوّها في الغالب من ثمرات المثاقفة والتفكير الناقد، لأنها مجرّد نظام. أمّا سلوك الأشخاص فهو أخلاق، فالنظام من الدولة والمؤسسات، والأخلاق من القطاعات العريضة للجماهير، ولكي تتحقق الديمقراطية لابد من موافقة الأخلاق للنظام، ولا يُقال إن الأخلاق الفاسدة لا تؤهل النظام للاستقامة إلا كما يقال إن النظام الفاسد لا يهيئ الأخلاق للحضور أو للتحقيق.

فلئن كانت قنوات التعبير عن قيم الديمقراطية في ثقافتنا العربية مجرّد صيغ إنشائية وعبارات فضفاضة أقرب إلى لغة الخطابات المُرسلة منها إلى المشروعات المعّدة للتطبيق؛ فلأنها (أولاً) مفقودة الموافقة بين النظام والأخلاق، ولأنها (ثانياً) ينقصها الدُّربة على التخطيط، والدراية بفنون التناول للرؤى الإبداعية الحرة، يظهر ذلك كُله مشخّصاً – كما يرى كاتبنا – في الحوارات الإعلامية بداية من جهل الطرفين بآداب الاختلاف وأخلاقيات طرح الرؤى وتعصب المتحاورين لآراءٍ أنتحلوها أو مذاهب آمنوا بها أو أيدلوجيا انضووا تحتها دون استيعاب لمقاصدها أو مآلاتها أو أقوال مسيسة كُلفوا بترديدها، ومرورًا بالأكاذيب المدسوسة والمغالطات المقصودة والتدليس المتعمد وانتهاءً بعداء في متنفس من العنف، وكل ذلك بالطبع يبعد تمامًا عن الديمقراطية التي نطالب بتطبيقها، بل إنه يعكس منطق الاستبداد والرجعية والسلبية، وكلها من الآفات التي تلعب دورًا كبيرًا في تزييف الوعي العام. ولعلّ أفلاطون (عاش ٤٢٧ ق.م – ٣٤٧ ق.م) كان مصيبًا عندما نادى بضرورة استبعاد أولئك الذين يقودهم الهوى وتعوذهم الحنكة والدراية عن المسرح السياسي، وذلك لأن كثرتهم الجاهلة أو اندفاعهم وراء شهواتهم لا يعود بالنفع على المجتمع من تطبيق مثل هذه الديمقراطية الضالة، ويرى أفلاطون أن استبداد النخبة العاقلة أنفع لتسيس المجتمع من الكثرة المضللة التي يقودها التعصب لشعارات أو أوهام فتفرضها على المجتمع فيؤدى ذلك إلى دماره. والحق أن أفلاطون – كما يرى عصمت نصار – كان محقًا في ثلاثة من طعونه على الديمقراطية : أولها، أن السياسة من العلوم العمليّة التي لا تكتسب إلا بالممارسة ومن ثمّ يجب على من يريد اللعب على المسرح السياسي أن يكون ممارساً لها منذ صغره، وثانيها: أن القول بأن النظام الديمقراطي يتيح لكل الأفراد التعبير عن آرائهم الحرة ورغباتهم الحقيقية زعم يحتاج مراجعة؛ لأن معظم العوام تنقصهم القدرة على المفاضلة بين الرؤى وتمحيص الآراء ثم الانتصار لواحد منها بمحض اختياره، وثالثها : أن الجماهير التي تمارس الديمقراطية بغير استحقاق يقعون فريسة لأيديولوجيات سماسرة العمل من المأجورين.

ويؤكد أرسطو (٣٨٤-٣٢٢ ق.م) أن الحاكم الغيور على مصلحة بلاده عليه أن يبذل قصارى جهده لتحرير شعبه من سجنين، هما : الفقر والجهل، فكلاهما يحول بين المواطن وممارسة حقوقه الديمقراطية. فالعوز يدفع المرء للتنازل طواعية عن رأيه لمن يدفع الثمن، والثاني يجعل من المواطن مجرد دمية تتحرك بمقتضى إرادة الأغيار، فعقله العاجز لا يقوى على فضح مكائد من يتعمدون اللعب به على المسرح السياسي. وعليه لا ينبغي على أي حاكم الفرح بتأييد الجماهير، الذين تقودهم عواطفهم أو حماستهم، فإن ذلك الدافع سرعان ما يتبدل أمام الإغراءات المادية أو الوقوع في شَرَك شعارات عقدية أو أيدولوجية.

وماذا بعدُ؟ فهل لنا أن نسائل الدكتور عصمت نصار : مثل هذا التنظير الفلسفي كما ورد عند أفلاطون وأرسطو هل يوافق أو يخالف واقعاتنا الحياتية في زمن غير الزمن وحياة دون الحياة، أم أن الأفكار الحيّة، لا وطن لها ولا حدود لأزمنتها ولأمكنتها، تجاوز بفعل طلاقتها العقلية حدود الزمان والمكان لتفعل في الواقع المعيش أفاعيل الحضور والتلقي بل والفاعلية المرهونة بغايات التطبيق؟!
وربما كانت هذه النقطة الأخيرة هى عينها نقطة انطلاقه تماماً كما تكون هى نفسها نقطة انطلاق كل تنظير فلسفي، يرجع دوماً إلى الأصول الفلسفية، ويرد الفكرة الأصيلة إلى ينبوعها الحيوي ومصدرها الفكري الثري.

واتساقاً مع تحذير الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم (1711-1776) من الديمقراطيات الفاسدة ينطلق عصمت نصار لمعالجة الدرب الثاني الذى يحول بيننا وبين ممارسة الديمقراطية في مناقشاتنا أو محاوراتنا، وهو الذي يراه متمثلاً في ادّعاء أحد المحاورين بأنه يمتلك من الحقائق فصل الخطاب، حيث لا يمكن الشك فيها، الأمر الذى يدفعه إلى اتهام محاوره الذى يخالفه الرأي بالجهل والتخلف والتنقيص وهو ما يتشدق به غالباً من لم يدركوا مسئولية تطبيق الديمقراطية، فليس هناك أسوأ من غلبة الجهلاء، أو كثرة الحمقى عند التشاور أو اتخاذ القرار أو تقييم الأفكار، تلك التي تعبر عن ديكتاتورية عصبة الكثرة.

والصواب لإصلاح هذين الدربين من الاستبداد هو تفعيل الديمقراطية الحقيقية أي أن تصبح قراراتنا الاستراتيجية وخططنا التكتيكية وليدة حوارات ومناقشات بين علماء متخصصين لا مجال في موائدهم للمجاملة أو المداهنة أو التحزب أو الاتفاقات المبرمة قبل التصويت عليها لتطبيقها وتنفيذها. فإن مثل ذلك الفعل سوف يجعل كل المشاركين في الرأي مسئولين مسئولية كاملة عن المقاصد والمآلات ويختفى المثل القميء الشائع (اربط الحمار كما يريد صاحبه)، ويمنع صاحب السلطة من الانفراد بالرأي ويعّوده في الوقت نفسه على دراسة الآراء المتباينة وتمحيصها بمنطق العقل الجمعي، والإيمان بأن النقد والمعارضة من سبل الإصلاح والبناء وليس الهدم. وعلينا كذلك الالتزام بمعايير التناظر بداية من اختيار المتناظرين والصفات والسمات التي يجب أن تتوفر فيهم”.

ومع ملاحظة هذا التنوّع المعرفي في زوايا التخريج بالنسبة للعلاقة بين الحاكم والرعية، أقول مرة أخرى : هذه مثالية تتقرر وسط الأفكارّ ولا تتقرر في الواقع العملي، ويكتبها المفكرون الأحرار في حالات الصفاء بأبراجهم العاجية، فإذا انتقلوا إلى الواقع الفعلي أصابهم ما أصابهم من العزلة التي تفرضها الهوة السحيقة بين النظر والتطبيق، فيستعبدهم الواقع السفلي بمنغصاته السوداء، لكأنما ينزعهم نزعاً من الحرية المنشودة إلى واقع الاستعباد والاسترقاق. فهل تحققت مثل هذه النظرات المثالية وإن جاءت في حلة فلسفية وثوب قشيب يوماً من الأيام في زمن من الأزمنة أم الغالب أن الفكر في عزلة عن الواقع، وأن التنظير شئ والفاعلية الواقعية شئ آخر؟!

حقيقة؛ كلما طرحت على نفسي تلك الأسئلة وواجهتها بما أقرأ من سطور الدكتور عصمت نصار اتهمتها بالتشاؤم الذي يقوّض دعائم الآمال، وحمدت صنيع عصمت نصار؛ لأن التفاؤل يحدوه، والأمل المنشود يظهر تحت سنان قلمه الناصع الأبيض الشفاف.
واذا كان الفكر السياسي الإسلامي له دوره في هذه الشئون، وله رأيه كذلك، فقد اشترط توافر العديد من الخصال والسمات في متخذي القرار وأهل الشورى وأرباب التناظر وأطلق عليهم أهل الحلّ والعقد، ومن ثم لا تجوز المشورة أو الديمقراطية إلا في وجودهم.

ولا يشك عصمت نصار قيد أنمله، ولسنا معه من الشاكّين، في أن التشاور والنقاش والتثاقف من أهم تطبيقات الديمقراطية التي ننشدها، ومن أجل ذلك يعود فيطرح السؤال نفسه : هل نحن ديمقراطيون في دور العلم وحلقات البحث؟ وعنده إن الواقعات تشهد بالنفي، فدروسنا في المدارس والجامعات المصرية تسير وفق نهج تلقيني استبدادي سلطوي، فالمعلم يلقى الدروس على طلاب المدارس وفق مقررات دراسية لم يشارك في وضعها ومن ثم فهو مكلف بتوصيلها لعقول الطلاب دون قيد أو شرط، وعليه تصبح وظيفة الملقن هى حشو أدمغة الطلاب بالمعارف المكتوبة دون مناقشتها من حيث القيمة والغاية والمقصد ومدى الاستفادة منها في الحياة العملية. غير أنه يتابع نقد هذه الظاهرة نقداً منهجياً لا يقف عند القشور القاحلة بل يتوغل للأعماق حتى ليكاد يقتلع جذور الآفات اللاحقة عليها، وإنه ليستغرب من أن “جل المشتغلين بالعملية التعليمية والمناهج التربوية – في مصر على وجه الخصوص – يعلمون أن مثل هذه الطرائق التلقينية قد ثبت فشلها في التطبيق فعجزت عن صناعة العقول وتنمية المدارك وعصف الأذهان، بيد أن الواقع يشهد بأنهم مصرون على هذا النهج الخاطئ، فلا نكاد نلمح في برامجنا الدراسية ساعات أو حصص للمناقشة الحرة بين المعلم والتلاميذ، ولم نسمع كذلك عن تلاميذ أعادوا صياغة ما يدرسون من معارف بأساليبهم وتعبيراتهم الخاصّة ولم نقف أيضًا على ضروب من الأسئلة أو الاختبارات تخاطب المهارات الإبداعية أو العقليات الناقدة، بل جميعها ينشد ما اختزنه أذهان الطلاب من معلومات بغض النظر عن كونها معارف مشوشة تفتقر إلى الدقة أو مشوهة تعوزها البساطة ويعوزها الوضوح”.

وليس يخفى على القارئ عموم مثل هذه النزعة الإصلاحية في جميع مرافق الحياة، ومحاولة تطبيق مبادئ الديمقراطية عليها لتستقيم، وفي حالة نزع تلك المبادئ منها تعوج وتنحدر على التعميم. والمرفق الحياتي الأول الذي تظهر فيه نزعة الإصلاح هو التعليم؛ وبما أن النزعة الإصلاحية في السياسة والاجتماع تجمع الخيوط المتلاقية بين الأصالة والحداثة وتحفظ هُويّة المتعلم من جهة وتُقدره على الابداع ومواكبة عوارض التقدم والتجديد بخصوصية هويّته من جهة أخرى؛ فالتربويون والمفكرون وقادة الرأي والإصلاح كانوا جميعاً يجمعون على تلك النزعة الإصلاحية التي عمادها التجديد ومتكأها النقد المنهجي وغايتها التطهير والمراقبة وإشاعة التنوير بين أبناء العربية.

وليس عصمت نصار (طهطاوي هذا العصر) بأقل منهم حرصاً على الإصلاح وأخذاً بدعائمه التأسيسية، فجميع مفردات الإصلاح، مفردة، مفردة، تتواجد بلا مبالغة في منهجه النقدي العام. فليس يغفل تطبيق هذا المنهج الإصلاحي على مشكلات التعليم، وإذا أراد أن يربطه بالديمقراطية قال : إنّ نهج المعلم في إلقاء الخطاب المعرفي على التلاميذ له عظيم الأثر في تربية أذهانهم وتعويدهم على ممارسة الديمقراطية من عدمها، فإذا كان حديثه أدنى إلى صيغ الأمر والانفراد بالرأي وإيهام سامعيه بامتلاكه لب الحقيقة التي لا تقبل الارتياب أو المناقشة ولا التقويم، يكبر التلميذ على رفض كل شكل من أشكال الاختلاف وكل درب من النقد وتعدد الرؤى، وينعكس ذلك بطبيعة الحال على حياته وتصرفاته فيخرج من استبداد الأب إلى استبداد المعلم معتقداً أن في طاعتهما النجاة من شر العقوق أو الخسران والرسوب في الامتحانات. ويتلقف “المتلاعبون بالعقول” هذه الذهنية في سن المراهقة – وهو المرحلة العمرية الأخطر من حيث تأثيرها في تكوين الشخصية وطرائق التفكير بوجه عام – فيطبعونها تبعًا لأهوائهم ومنازعهم ومعتقداتهم، مؤكدين بذلك آفة التقليد والطاعة التي حملها المقلدون منذ نعومة أظافرهم فيقضون تمامًا على بذور الحرية والتقويم عندهم، ويتخذون من الموروث والدين والمأثورات من المحفوظات وما خفى عن هاتيك الأذهان من معارف ومعلومات وآليات للسيطرة عليها. أما الفارون من شَرَك القولبة والتبعية يظلون عاجزين عن التعبير عن آرائهم، وذلك لأنهم لم يمارسوا هذا الدرب من دروب التعلم، وهذا الخلل نجده واضحًا تمامًا بين طلاب الجامعات الذين يصرون على ضرورة السير على نهج المدرسين : التلقين ثم التلقين، ومن المؤسف أن نجد نفرًا غير قليل من الأساتذة يخضعون إلى رغباتهم فتستحيل الجامعات إلى مدارس تلقينيه وليست قاعات للتثقيف والتنوير والبحث العلمي”.

فمثل هذه الفقرة البيانية الفاصلة، فضلاً عن توظيف عملية النقد المنهجي، توضح فقدان الحرية الفكرية والأخذ بمنطق التلقين في التعليم سواء في المدارس أو في الجامعات، وهو مع هذا كله لا يلقى بالتبعة على الطلاب ومعلمي المدارس وأساتذة الجامعات وحدهم، وإنما يأخذ في الاعتبار (أعداد التلاميذ، وفساد الدورات التدريبية لرفع كفاءة المدرسين، ووجود معلمين غير مؤهلين لحمل الرسالة، ولا يقدمون الالتزام بأخلاقيات المهنة على مصالحهم الشخصية)، وذلك لأن المنظومة التعليمية بكاملها تحتاج إلى تقويم وإعادة بناء، كما أن البيئة الجامعية أضحت للأسف معقلًا لسجن العقول.
ولا يكتفي عصمت نصار بإلقاء القول على عواهنه مرسلاً غير مقيد بواقعات التفكير الفلسفي كما يفعل أدعياء البحث والمثاقفة بل يسوق إشارات بهذا السياق من فيلسوفين مختلفين الاتجاه متباينين النزعة، أحدهما روحي والآخر علمي هما : “هنري برجسون” (١٨٥٩-١٩٤١ م)، “وكارل بوبر” (١٩٠٢-١٩٩٤ م) فقد ذهب كلاهما في حديثهما عن الثقافات المغلقة والثقافات المفتوحة، فالأولى تسجن الأذهان داخل نموذج واحد مستمد من الموروث والمعتقدات بحجة أنه السبيل الأوحد للسعادة، وتحرّم عليهم إعمال العقل فيما يتعلمون أو يوجهون إليه بحجة أن الشك فيما يقدم لهم باعتباره ثوابت سوف يحرمهم من الأمن وراحة البال، التي يطمح إليها المواطنون في المجتمعات المغلقة دون المجتمعات الحرة التي تعلى من شأن العقل لاختيار الأنسب والأفضل من النظم والقيم والمعارف والسياسات”.

وكما كانت العلاقة وثيقة بين الحياة السياسية والأخلاق، تكون العلاقة أوثق بين غياب الديمقراطية في المؤسسات التعليمية وحياتنا السياسية، ويضرب صوراً من الأمثلة عديدة (عدم تشاور المعلمين مع آباء التلاميذ خلال مجالس أولياء الأمور، انعدام الوعى السياسي تبعًا لإهمال تدريس التربية الوطنية، فشل نظام الانتخابات في الحياة الجامعية سواء على مستوى الاتحادات الطلابيّة أو اختيار القيادات في الكليات والمراكز البحثية)، فكل هذه الصور ما زالت تحكمها الشللية والمنافع الخاصّة، والفساد بكل أشكاله بما في ذلك لجان التعيينات والترقيات واختيار القيادات”.

وربما كانت تلك الصور المرسومة حقيقةً هى صور واقعية كدرة تجري في الواقع الفعلي بلا شك، يصدقها ما وصلت إليه الأحوال العامة المترهلة في حيوات التعليم، حتى أضحى التعليم في بلادنا مفرخة الإرهاب؛ فالتلميذ في المدارس الإبتدائية والإعدادية والطالب في المرحلة الثانوية والجامعية عرضة لظاهرة بشعة هى ظاهرة الدروس الخصوصية في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي، وظاهرة توزيع المذكرات وإرهاب الطلاب وتهديدهم بالرسوب في الامتحانات بالنسبة للتعليم الجامعي، ففي حالة العزوف عن شراء المذكرات اضطهاد للطلاب من قبل الأساتذة الذين يأكلون السحت ويقدسون المال ويمتصون دماء الفقراء، ويدهسون القيم العلوية بأقدم النعال، الأمر الذي يتولد عنه نفسيّاً إرهاب خفي غير معلن يتفاقم مع الأيام ليكون ضرراً يلحق بالمجتمع في صور انتقامية مرهبة لا تعرف الولاء للأوطان ولا القيم ولا للمجتمعات ولا للأديان.

ثم ينتهي إلى القول بعد بحث مستفيض وإطلاع واسع وحيويّة تنقل معرفي يكاد ينقطع معها في هذا الزمن النظير : فالديمقراطية التي ينشدها كاتبنا المفكر وثيقة الصّلة بالأخلاق التطبيقية، وقد أكد على ذلك معظم فلاسفة السياسة بداية من أفلاطون، الماوردي (٩٧٢-١٠٥٨)، ابن حزم (٩٩٤-١٠٦٤)، جوسيا رويس (١٨٥٥-١٩١٦)، جورج برنارد شو (١٨٥٦-١٩٥٠)، برتراند راسل (١٨٧٢-١٩٧٠)، هارولد لاسك (١٨٩٣-١٩٥٠)، إريك فروم (١٩٠٠-١٩٨٠)، مايكل أوكشوت (١٩٠١-١٩٩٠)، حنة آرنت (١٩٠٦-١٩٧٠)، ديجون رولس (١٩٢١-٢٠٠٢)، ميشيل فوكو (١٩٢٦-١٩٨٤)، وغيرهم وغيرهم ممّا لا يتسع المقام لذكرهم وعرض آرائهم، كل أولئك أكدوا على أمر�

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *