Share Button

بقلم ا.د/إبراهيم محمد مرجونة
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية-رئيس قسم التاريخ
كلية الآداب بدمنهور
الطيبون هم الذين يجعلون حياتنا أجمل وأسهل وأكثر قبولا للعيش. هم بفطرتهم يصبغون علينا حنانهم ونقاءهم. يجعلوننا نستعيد الإنسان في داخلنا. يفتحون لنا بوابات الأمل، يقودوننا إلى مرافئ التفاؤل والفرح. هؤلاء الأشخاص مثل الأشجار الوارفة، يتحملون حرارة الشمس الحارقة لأجل أن يمنحنونا الظلال الآمنة.
في حياتنا أشخاص قلائل تعودوا أن يكونوا العطاء بدون منَة. هم الحب دون انتظار المقابل. كرماء في معادنهم، أنقياء في قلوبهم، راقين في تعاملهم. وكم نحن نظلمهم، وننسى أنهم أشخاص مثلنا، فليس لأنهم اعتادوا العطاء نعتقد أن هذا قدرهم، و نتعامل مع هذا الواقع كمسلمات. حينما نفترض أننا نأخذ لأنهم دائما يبادروننا بالعطاء فإننا نمارس أنانية مفرطة وانتهازية مغلفة.
يترفع هؤلاء الأشخاص عن الدخول في المعارك الانتهازية ويمدون نظرهم لأبعد من لحظتنا الآنية. وتجدهم متصالحين مع أنفسهم، مقتنعين بواقعهم، متفائلين بغدهم. بينما الشخص الانتهازي مخادع يحاول أن يظهر بألف صورة مختلفة ما عدا صورته الحقيقية لأنه لايثق بها. ولديه قناعة بأن الغاية تبرر الوسيلة أيا كانت. هؤلاء النماذج يربحون ربما على المدى القصير، لكنهم يخسرون على المدى البعيد. على الأقل أنفسهم. يجهلون أن حقيقة السعادة المشاركة، أما الاحتكار فهو كمن يضحك وحده في قاعة سينما كبيرة.
دعونا نتذكر سويا أحد أصحاب القلوب النقية التقية الطيبة وهوالمسحّراتي فهو صورة لا يكتمل شهر رمضان بدونها، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بتقاليدنا الشّعبية الرّمضانيّة، فقبل الإمساك بساعتين تقريبا يبدأ المسحّراتي جولته الّليلية في الأحياء الشّعبية موقظًا أهاليها للقيام على ضرب طبلته، وصوته الجميل يصدع بأجمل الكلمات مما يضفي سحرا خاصّا على المكان، ومن العبارات المشهورة للمسحراتي قوله: (اصحى يا نايم وحد الدايم..رمضان كريم).
مع تقدم الزمن وتطور المجتمعات، وبعد انتشار وسائل الإعلام وخاصة التليفزيون بقنواته الأرضية والفضائية التي لا تنام، بدأت هذه المهنة في الانقراض، واختفى المسحراتي من معظم الحارات والأحياء، بعدما كانت عادة مشهورة ومتداولة بقوة في معظم الدول العربية.
وفي عودة تاريخية لبداية المسحراتي دعونا نرجع إلى عهد رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان(بلال بن رباح) أول “مؤذّن في الإسلام” ومعه(ابن أم مكتوم) يقومان بمهمّة إيقاظ النّاس للسّحور، الأول يؤذّن فيتناول النّاس السّحور، والثّاني يعلن الإمساك عن تناول الطّعام.
أول من أيقظ النّاس على الطّبلة هم أهل مصر، أما أهل بعض البلاد العربيّة كاليمن والمغرب فقد كانوا يدقّون الأبواب بالنبابيت (العُصي)، وأهل الشّام كانوا يطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان والطّنابير وينشدون أناشيد خاصّة برمضان، أما أهل المغرب العربي فكانوا يستخدمون المزمار في إيقاظ الناس لتناول السحور.
ومن المعروف أن المسحّراتي لا يأخذ أجرا مقابل هذه المهنة وإنما يقدمها متطوعا، وكانت من أبرز الأغنيات التي ارتبطت بمهنة المسحراتي:
(مسحراتي مصر البهية، اصحى وصبّح رب البرية، مشيت أرتّل وأنشد وأجوّد، وصوتي يجري بين النواصي.. اصحى يا نايم)
فهل مازال للمسحراتي الطيب النقي الناصح دون مقابل، الذي يحذر ويدق ناقوص الخطر حتى يوقظ الجميع قبل فوات الأوان وانقضاء الوقت أهمية في حياتنا؟ أم ضاعت نغماته ودقاته واهازيجه واغانية وسط ما نحيا فيه من ضوضاء وتدخل الأصوات وانعدام الرؤى، لماذا لم نعد نسمع صوت طبول المسحراتي الناصح الأمين.
وهل نحتاج في حياتنا بالوقت الراهن الي المسحراتي الذي يذكر ويوقظ ضمائرنا يرتل وينشد لكي نستفيق؟ فليراجع كل منا نفسه ويوجد لها المسحراتي صاحب الطلبة الذي يقرع بين الحين والآخر حتى نصحح المسار
فمن الغباء ان تكون في كل مرة نفس المدخلات وننتظر مخرجات مختلفة، حسن من مدخلات حياتك، أبحث عن الحلول من داخلك، و ابتعد عن المغالاة في العطاء والمنع فالزيادة في الشئ تساوي النقصان فيه.
لحظة صدق مع الذات وحالة صحوة ضمير تجعلنا نراجع حساباتنا، ونرى الأشياء بحقيقتها. في حين أن تحاشي رؤية الأشياء لا يعنى عدم وجودها. بل هو يكشف ضعفنا.
حب الأنا المفرط مقدمة لمشاعر الإحباط والكآبة. مع أن الحياة أبسط بكثير. فكونك تعيش بمشاعرك وصدقك، وتحب للآخرين ما تحب لنفسك، ويكون صوت الضمير لديك عاليا، بل وحاكما، تستطيع حينها أن تكتشف إنسانيتك. الفلاشات السريعة عمرها قصير. الحقائق تدوم إلى الأبد. ولابد ان تسمح لأذوينك أن تسمع صوت المسحراتي.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *