Share Button
بقلم : د. مجدي إبراهيم
سؤال يتردد عبر أجيال وليس له من جواب: أننا بإزاء طريق مغلق، إذا نحن صرنا نحو التقدم والظفر بمكانة بين الأمم فكأنما فكرة التقدم أضحت سراباً في سراب؛ إذ كيف ينفتح أمامنا هذا الطريق، ونحن في الأصل منغلقون في الباطن، مطموسون في رؤية الوعي الداخلي بذواتنا، فلا نتحرك؛ فلكأننا لا نريد التغيير، ولا تدفعنا هذه “الذوات” إلى الأمام بل هى نفسها العراقيل الحاجبة التي من شأنها أن تعوق تقدّمنا وتحجز ظفرنا بالسيادة فيما لو أردناه، تماماً كما أعاقت آباءنا، وحجزت ظفر أجدادنا في العهد القريب.
صحيح أن الطريق إلى التقدَّم (والتقدّم الفكري خاصّة) مرهونٌ بالثورة الروحية الداخلية، تثور في الحق والصدق من أعمق الأعماق؛ لتفتح مغاليق تلك الطلاسم الإنسانية الموجهة نحو غايات ترابية ليس إلا, ليتجاوز الإنسان بمقتضى الثورة فيه مقررات الرؤية السطحية إلى الأمور، إلى العمق الجُّوَانيِّ الغائر الدفين. وبمقتضي الثورة الروحية تصبح الوحدة أفعل فينا وأقدر، والاتحاد عاصم لنا من الفرقة والشتات. ولكن من جهة أخرى، لن تقوم لهذه الثورة الروحية قائمة؛ ونحن مسلطون بعضنا على بعض، ناظرون على الدوام إلى ما من شأنه أن يشبع فينا البطون والأبدان؛ لكأننا خلقنا في هذه الحياة لنهيم فيها هيام السَّوَائم على غير هداية من معنى الوجود والكرامة، وتحقيق القيمة بالفعل في هذه الحياة.
ومن المحقق عندنا أنه بغير الفضيلة الروحيّة الباقية وتذكية الوعي الإنساني في دخائل الإنسان العربي لن تستقيم طريقة واحدة من طرق الإصلاح الذي نزعم أننا نرجوه محققاً في الداخل؛ وفي الداخل فقط، ونرفضه بالقطع إذا هو جاءنا من الخارج. كيف يقوم الإصلاح – كائناً ما كانت توجهاته – ونحن ممزقون مشرذمون لا نقوى على فعل الإرادة في مواجهة التحديات، ولا على احتمال ما يطرأ عليها من عوارض الهدم والانحلال. إنها آفة الإنسان المتخَلّف في كل مكان : ألَّا يقتدر، وألَّا يعتزم، وألَّا يصمد، وألَّا يتخلق بأخلاق الكرام، ثم يزعم – على البجاحة – أنه من أولئك المتميزين القدراء الأبطال !
للوقوف على مصدر القوة فينا ينبغي علينا إزاء التحديات التي تواجهنا أن ندرك أن القوة لا بد لها من “فكرة” موجهة تسيطر على الأذهان بمقدار ما تسيطر على الضمائر والقلوب. ولن تكون هذه الفكرة ببعيدة عن الوحدة والتضامن والانتماء للوطن والشعور الدائم بالمصير الواحد والوجود المشترك. إن القوة الروحيّة في الحق هى المطلوبة، لأن الحق قوة الإسلام وحضارة الإسلام.
ما في شك أن حضارة الإسلام تركز على أساس روحي غير الأساس الذي ترتكز عليه حضارة الغرب. ولن تكون هناك في الحق قوة غير مطلوبة ما دامت في ذاتها ساعية إلى تحقيق “الحق” الذي لا باطل فيه؛ إذْ القوة الخلقية التي ننشدها هى قوة الضمائر والقلوب، وهى قوة العزائم الماضية التي يقرَّ المرء بوجودها وفاعليتها في الدين والحضارة والقيم الإسلامية، ولا يتصور غيابها إلا وينتكص ويتردى إذا هو أراد لنفسه مكانة، ولأمته ريادة بين أمم العالمين. ولقد سعت جهود الكتاب والمفكرين في القديم والحديث إلى التنبيه الدائم على أن :”وما هو واقع اليوم خيرُ مصداق عملي على تلك السيطرة المادية وغياب تلك القوة الروحية، وغياب الأساس الروحي للحضارة الإسلامية؛ فالتنافس والنضال هما المظهر الأول للنظام الاقتصادي، وهو بدوره أول مظهر لحضارة الغرب. وما دام التنافس والنضال على المال هما جوهر الحياة، ومادام النضال بين الطوائف طبيعياً، فالنضال بين الأمم طبيعيُّ كذلك، وللغاية التي يقع من أجلها نضال الطوائف. ومن ثمّ كانت فكرة القوميات أثراً محتوماً بحكم الطبيعة لهذا النظام الاقتصادي كما يقول الدكتور هيكل في (حياة محمد). أمَا ونضال الأمم في سبيل المال طبيعيُّ، أمَا والاستعمار لذلك طبيعيُّ أيضاً (بشتى ألوان الاستعمار وبكل أشكاله الجديدة)؛ فكيف يمكن أن تمتنع الحرب ويستقر السلام في العالم؟! إنما السلام في عالم هذا أساس حضارته حُلم لا سبيل إلى تحقيقه، وأمنية معسولة، ولكنها سرابٌ كذوب) (أ. هـ).
تلك هى – كما ترى – ثمار الحضارة الغربية على طول تاريخها. وهذا هو الواقع الكدر اليوم كما كان بالأمس : طمع واستغلال ونكوص وسيطرة ونفوذ. وتلك هى ثمار غرسها وسيطرتها على أرجاء هذا العالم الحيران، تقوم على الأساس المادي، وتجعل النظام الاقتصادي أول المظاهر الذي يُحقق للإنسانية الخير والتقدُّم.
ولم تكن حضارة الإسلام تتأسس على هذا الأساس، ولم يكن تصورها يخرج عن حضور القرآن الفاعل فيها، أو يخرج عن حضور تعاليمه الخلقية والروحيُّة المقرّرة لربط الدين بالحضارة لا باتجاه النظر إليه معزولاً عن الفعل والعمل والتأثير، ولا عن المبدأ العقدي الموصول دوماً بتغذية قيم “الوجود الروحي” في الإنسان على التعميم.
من أجل ذلك؛ ينبغي أن تكون “القوة” هى هى الحقيقة بكل سلام نسعى إليه ظاهر أو مطلوب. قالها شاعرنا العربي الممرَّس على فن القول نقداً لسعي العقول العربية سعي التخاذل والنكوص؛ حكمة ما أحرانا اليوم إلى ترديدها وتمثيلها في زمن التخلف والانكسار والانهزامية والعدوان :
خلاصةُ القضية تُوجَزُ في عبارة لبسْنَا الحَضَارَة والرُّوح جَاهليَّة
أي نعم ! لبسناها قشرة خارجية لم تتغلغل فينا إلى الأعماق : تلك هى الحكمة التي تقرَّرت في وعي الأحداث بالعقول العربية : طبيعتها ومداركها وأصولها الثقافية والمعرفية، واهتماماتها الفكرية والحياتية ونبض الوقائع عليها؛ فهذه الحكمة – مما لا ريب فيه – هى التي تعكس وعي العقل العربي وطريقة تفكيره التي أثبتت الأيام قله نفعها أو بتعبير قدماء الفلاسفة مما ورد عن ابن رشد قلة “نزوعها إلى الصناعة”؛ وعدم جدوى تمثلها إلى القوة والمنعة والعدالة والإنصاف، ولو كان هذا العقل أمتلك بادئ ذي بدء قدرة على الفاعلية النقدية لطريقته في التفكير، ولآثاره في الصناعة التي ينزع إليها بمختلف ألوان النزوع على شتى طرق التحصيل يرومها من وراء العلوم والمباحث والنظريات؛ لكانت رؤيته الآن غير رؤيته في أزمنة مضت وأيام سلفت، ولكنه في الواقع عقل غير معقول الرؤية، يفتقر إلى معقوليَّة النظرة النقدية ومرجعية الإدراك، ويسمح بتداخل الأنماط اللاحقة عليه من مختلف نواحي النظر غير المعقول، لا لشيء إلا لأنه كان تعوَّد منذ البداية؛ مما كان قد لحقه من اختلاط القيمة بالنقيصة والرأي بالهوى، على لا معقولية النظرة المنصفة, تماماً كما تَعَوَّد أن يكون لإدراكه شيءٌ من العبث الذي يثقل كاهل العلماء والمفكرين بإزاحة أستاره من أجل وضوح الرؤية.
د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *