Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

ليس بعجيب ولا هو عندي بغريب أن يقال إن الشعب المصري شعب متدين بطبعه، لكنها عبارة قد يقولها العالم وقد يقولها الجاهل الذي لا يعلم مصدرها في مسار التاريخ ولا مبعثها في تيار الحضارة، وقد يستوي العلم مع الجهل في غياب هذا المصدر واختفاء ذلك الباعث الذي يقرّرها كحقيقة واقعة ملموسة لا ينقضها شهود العيان، فتدُّين الشعب المصري حقيقة ملموسة بين يدي الواقع المشهود، لا نكران فيها ولا خلاف عليها، لكن العالم حين يعلم هذه الحقيقة غير الجاهل حين يرددها دون أن يقف فيها على الفحوى والمعنى والدلالة في مسار التاريخ.

ومع ذلك؛ فقد يكون الرجل البسيط أصدق شعوراً وأخلص سجيّة وأقدر تبعة من أعلم العلماء فيما يحمله من حبّ لوطنه وقدرة على الزود عنه من كل مكروه، وهو ولا شك يعطينا أبلغ الأدلةً أمثلة ظاهرةً من الواقع المشهود على تلك الوطنية المتجذرة في أعمق أعماقه وأنفذ طواياه؛ فإن اتصاله بالأرض وعبادته للشمس وتعلقه بنسيم بلاده على الأصالة منذ فجر حضارته الأولى لأمور كلها تؤكد في المصري وطنيته المستقرة على الولاء، فما بلغ من بلغ منه إلا وهو متصل بالطين المصري، ولا ولاء له على التحقيق بل الولاء لحكمة البقاء في قلب التاريخ.

والإيمان بالروح: فلسفة الأمة المصريّة في تاريخ الحضارة ممّا لا شك فيه، فالأمة المصريّة من أقدم عصور التاريخ كانت تؤمن بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب وغلبة الخير على الشر وخلود الروح. وهذه مؤهلات الإيمان بالوجود الروحي المُقدّم على الوجود المادي، والذي يُمثّل ركناً أساسياً يشهد على أن الوجود المحدود، وإن طال بصاحبه، لا يستعمل للحقائق الباقية ولا يجيز البقاء فيها بوجه من الوجوه.

ولعلّ هذا السّر هو سبب نشوء الحضارة والإشادة بتأسيس علم المصريات منذ فجر التاريخ، ولم تكن الدنيا تعرف عن الحضارة إذ ذاك شيئاً، ولم يكن يعنيها أن تعرف عن ميادين الفن والدين والثقافة شيئاً قبل أن يعرفها المصريون بقرون طويلة؛ فالمصري أستاذ الحضارة والثقافة بإطلاق، من حقه أن يفخر بهذا على الدوام وأن يحفظ تلك الأستاذية في نفسه مع تقلب الأجيال، وهو أول من نقش المعابد، وأول من علّم الإنسان الكتابة، وأول من أجاد فنون التعبير، وأول من تديّن وأول من تثقف وأول من آمن بالبقاء.

مصر التي تبدو وكأنها مجمع النقائض ومُلتقى الأضداد؛ لهي هى مجلى الحضارة في بطن التاريخ؛ لأنها مجلى الله في أرضه. الأرض الوحيدة التي تجلّى الله فيها فكلّم الأنبياء ولم يتجل في أرض غيرها، هى مصر. ولم يكن العالم كله إذ ذاك قد خرج عن جوف العدم، ولم تكن الدنيا باصرة للشهود العيان، إذ كانت مصر أستاذة الدنيا راقية بثقافتها، مستقرة بهياكلها ومحاريبها، متبتلة في معابدها وعقائدها الدينية وآدابها وفنونها، قدوة ومثلاً أعلى تعلّم العالم بما تبدعه من ألوان الفنون وصدارة العقائد ونشوء الفلسفات.

لمّا كان الشاعر اليوناني “هوميروس” ينظم ملحمته “الإلياذة” لم يكن للأمة الرومانيّة وجودٌ على البسيطة، على حين كانت مصر، أستاذة الدنيا، قد أمضت من تاريخها أربعين قرناً تنشئ أدباً وتبدع شعراً وتنظم للناس خُلقاً من طريق الديانة. هى إذن أم الدنيا حقيقة لا مجازاً، من يقولها وهو يعلم تاريخها، يقولها وهو يقدّم حقيقة ولا يقول مجازاً بعيداً عن الحقيقة في شئ : أم الدنيا واقع في التاريخ وأصالة بالحقيقة في سبق الحضارة.

نشأ الدين في مصر ولم ينشأ في بلاد غيرها، وسكن المجد مصر قبل أن يكون للعالم وجود. هى إذن أمُّ الدنيا بغير خلاف. ولم يستطيع أحد كائناً ما كان أو من كان أن يقول غير هذا أو يدّعي غير هذا، لأن الدعوى ممجوجة ممّا لا يقوم عليها دليل تصبح خارج نطاق التاريخ.

ولم يكن بُناة العُلا الذين سكنوا القصور الفارهة والقلاع المُحصّنة والمعابد الغاصّة بترانيم الأناشيد الخالدة، المُطرّزة بالذهب والفضة كهؤلاء الذين سكنوا الجحور وناموا في خواء العراء.

ولم تتشابه قط الفاقة النفسيّة والماديّة مع التقدُّم الروحي والإيمان بالخلود لا في مطلب ولا في غاية ولا في قيمة واحدة من قيم الرقي الحضاري على وجه الزمان.

مصر التي ذُكرت في القرآن واقترن اسمها بالأمن والأمان؛ لهي هى البلد الذي تتقدّم فيه قيم الوجود الروحي وتنغرس فيه قيم الإيمان بالله، أصل الدين ومنبع التديّن.

حين تزوج إبراهيم الخليل عليه السلام، أبو الأنبياء، من السيدة سارة ولم تنجب، تزوج بعدها هاجر المصرية، فأنجبت له إسماعيل عليه السلام، خير أبناء الدنيا طاعة لأبيه، ومن ذريته جاء العرب، فلمّا تملكت الغيرة من السيدة سارة، أمر الله نبيه إبراهيم بعزل السيدة هاجر عنها، وأسكنها بوادٍ غير ذي زرع، ثم أنجبت السيدة سارة – على كبر – ولدها إسحاق، ومن ذريته جاء بنو إسرائيل؛ فمصر موجودة قبل العرب وقبل بني إسرائيل .. هى إذن أم الدنيا على الحقيقة بغير مجاز، وليست من الدعوى في شئ.

وإذا كان العرب الحاليون هم أبناء إسماعيل، فبنو إسرائيل هم أبناء إسحاق ومن بعده يعقوب، ولكن السيدة هاجر المصريّة كان وجودها قبل إسماعيل وقبل إسحاق. ولم يكن خروج السيدة هاجر مع زوجها لتسكن بوادٍ غير ذي زرع، ولتنجب إسماعيل عليه السلام إلا لحكمة إلهية يُقوّمها تشريع إلهي يكوّن أمة ويشرّع منسكاً من مناسك الحج، لتكون المصريّة هى نفسها رمز الحياة، إذ جعلت من الصحراء الجدباء أمّاً للقرى ومقصد القاصدين لزيارة بيت الله الحرام.

وتتشابه هذه اللقطة التاريخية مع ما سيتلوها من زواج السيدة ماريّة القبطية، رضوان الله عليها، بخير خلق الله، صلوات الله وسلامه عليه، لتنجب له ولده إبراهيم، وليكون للمصرية شأنٌ في بيت النبوة لم يعرف له شأن في أمة من أمم الحضارة.

مصر أم التاريخ غير منازع؛ لأنها قبل التاريخ بغير خلاف!

والبلدُ التي تكون قبل التاريخ يتخذ التاريخ منها مدده في الثقافة والنظام والاقتصاد والعلم والمعرفة وسبُل الحضارة، والقيم الوجوديّة النافعة للناس بإطلاق.

وإذا وجد من بين المصريين من لا يعرف لبلاده قيمتها، ولا يقدر لها دورها، ولا يحفظ لها تاريخها، فليس بينهم من يتشدّق بما ليس فيها؛ لأن ما هو فيها أظهر من أن يخفى، وأقوى من أن يكون داعية للتشدُّق المرذول، وبخاصّة حين تكتمل الصورة لتكون ضمن العقائد المنزلة لا ضمن التصورات المزعومة، فمصر الدولة وجدت في الواقع الفعلي قبل أن يوجد التاريخ، وكان اقترن اسمها بخزائن الأرض في القرآن، واتفق أن يكون شعبها موصولاً بمباركة الله في الإنجيل.

ولم يكن سيدنا إدريس أول من خط بالقلم في التاريخ إلّا ذلك المصري الذي علّم العالم الكتابة، وهو أعرف العارفين بصيرورتها في مسار الحضارة.

وإذا كان النُّبيُ إدريس أول من كتب بالقلم وبذر الفكرة في رحم العقل المصري؛ فإن نوحاً عليه السلام أوّل الرسل وأول من دعى لمصر فذكرها بالثناء وقال عنها: “أمُّ البلاد وغوث العباد” .. هى إذن أمُّ الدنيا بالحقيقة التي لا ينطق فيها أحدٌ عن دعوى أو عن هوى فوق ما نطق الأنبياء.

وقد تعدّدت الديانات على الوجدان المصري، ولم يُر إلا الحق الناصع ليلتمسوه، فاعتنق المصريون اليهودية، إذ كانت رسالة موسى عليه السلام جاء من عند الله بالحق، واعتنقوا المسيحية لأنهم رأوا الحق ظاهراً فيها مع بشارة عيسى عليه السلام ابن السيدة مريم العذراء، ودانوا بالإسلام لأنه الدين الحق يوم أن فتح عمرو ابن العاص مصر وحرّرها من طغيان الرومان.

الدين في الوجدان المصري مُحققٌ على الأصالة، ولم يكن تدينه إلا الأصالة التابعة لهذا الشعور العميق الفياض: قصدها سيدنا إبراهيم من ظلم أهله، وتزوج السيدة هاجر المصرية، وأنجب سيدنا إسماعيل أبو العرب جميعاً، ولجأ إليها سيدنا يعقوب وأخوات يوسف من المجاعة، وظلت مصر مأوى السيدة العذراء والسيد المسيح عليه السلام، ثم استوطنها آل البيت النبوي الشريف بعد طول العذاب والطرد والتنكيل بهم في بلاد الجوار، وأن السيدة زينب دعت لمصر وشعبها بهذا الدعاء الشهير ” يا أهل مصر، نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، قد جعل الله لكم من كل مصيبة فرجًا ومن كل ضيق مخرجاً “.

ولم تكن دولة بين الدولة يُوصي بها وبأهلها النبي، صلوات الله وسلامه عليه، خيراً على الصراحة إلّا مصر. فالدّين فيها مُحقق على الأصالة، وليس بحاجة إلى أن يجهله المصريون أو يذكرونه؛ ليتشدّدوا فيه لأنه ضمن نسيجهم الفعلي وتكوينهم الحيوي الطبيعي.

مصر: الدين، والتديُّن، والوطنية، ثلاثة محاور لا ينفصل بعضها عن بعض، ويضم بعضها بعضاً في إطار من الوحدة الممزوجة التي لا خلاف عليها إلا خلاف النشاز الملفوظ والنتوء الغريب عن تكوين الطبيعة؛ فالدين في الشعب المصري أصالة كما تقدّم. والتديُّن طبع محكوم بنسيج هذا الوجدان الذي جعل من الدين قنطرة العبور من الدينا إلى الآخرة بل لم يكن يفرق بين الحالتين تفرقة فاصلة إلا من الوجهة الاعتبارية لا الحقيقية.

أمّا الوطنية؛ فتتأسس على هذا الدين وذاك التدين المعتدل وتستند عليهما في شعور المصري وتستقر عليه، فإذا ضرب الإرهاب اليوم مصر فعرضٌ طارئٌ ليس يقوم عليه من الحضارة ولا من التاريخ ما يؤيده كطبيعة عنيفة لا تتفق مع قيم الوجدان المصري بإطلاق. ولن يستغرق هذا من عمر التاريخ المصري الوطني سوى لحظة عارضة تتسرّب في غفلة من الزمن كأنها هُنينة زائلة لا تذكر مع قوة هذا التاريخ وعظمته، وعظم من صنعوا وأبدعوا في صنعه مجداً دائماً لا يزول.

تحية لك يا بلادي .. تحية لجهادك السّرمدي من أجل البقاء وفي البقاء .. تحية لجنودك البواسل وأبطالك الشرفاء، تحية لشهدائك الذين فدوك بالدم وأحسنوا الفداء .. تحية للذين يعملون إرضاءً لله فيك رغم قسوة الظروف وشدة الأيام وعسر الأحوال، لكنك يا بلادي أنت أنت الحياة، أغلى عندهم من أي حياة، وكل حياة.

ولتحيا مصر على الدوام في قلوب المُخلصين من أبنائها الشرفاء.

بقلم :
د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *