Share Button

التوحيد والمعرفة 


د. مجدي إبراهيم 

شواهد فكرة التطور في العقائد ملموسة في الوعي الديني. وكذلك تطورت فكرة العقيدة في الإله الواحد أو فكرة التوحيد؛ فلم تكن فكرة التوحيد مستقرة في القديم إلى الحديث وماضية على سياق متصل بغير تطور أو اكتمال يشئ بالترقية والكمال. ولكنها مرّت عبر الأزمنة بأطوار من الترقي بين عقائد الأمم البدائية الأولى إلى أن بلغت كمالها في عقيدة الإسلام؛ فقامت على هذه الفكرة الجليلة أصول تعبديّة صحبت أصل التوحيد وترقيه بين الأمم وتطوره مع تطور الشعوب حتى إذا نظرت في اعتقاد أمة من الأمم في التوحيد، تبيّن لك مدى العبادات التي تقوم عليه، ترتفع بارتفاعه أو تهبط بهبوطه.

ولم يكن هذا المدى بالذي يظهر عبر الزمن بعيداً عن الاعتقاد في فكرة الإله الواحد، بل في داخلها وبموجبها تظل العبادات في سائر الأمم تقوم على الاعتقاد في التوحيد، لكنه قيام لا يمضي على سياق موصول؛ بل يهبط تارة في أمة إلى درجة التجسيد القبيح؛ ويرتفع تارة أخرى بين الأمم بدرجات متباينة تتفاوت في ظلال الاعتقاد، تقيسها مستوى العبادة في الأمة الواحدة، كما يقيسها العمل بمقتضى العقيدة في جوانب السلوك الفعلي المقرّر بضوابط الاعتقاد.

والتوحيد في الإسلام محور العقيدة الإسلامية وشعارها وشغل رجالها ومفكريها منذ فجر الدعوة المحمدية. ولكن يلاحظ أن مباحث اللاهوت في الإسلام عند المعتزلة وعلماء الكلام والعقائد أو عند الأشاعرة والماتريدية خاصّة، أكتفت بمعالجة فكرة التوحيد من الناحية النظريّة فقط مستسلمة للإطار العقلي ومعطيات الجدل الديني حول مسائل الاعتقاد، في حين أن هذه المعالجة ذاتها ظهرت في حقل التصوف وميادين الأذواق الروحية بمثابة وعي شامل للوحدة الإلهية وشهادة صادقة عليها. ولم يكن من مبرر لهذا الافتراق بين حقل التصوف وحقل المعارف النظرية العقلية سوى فكرة التطور في العقيدة بملابسة التجربة الروحية والإحساس بالوعي الديني؛ لأن العقيدة حركة باطنة نحو المعرفة وبمقتضى تلك الحركة تتوحّد العقيدة مع المعرفة، ويظهر هذا خاصة في ميدان المعارف الذوقية ويتوحّد الكيان الإنساني كله في ذاته ولا يفترق ولا ينقسم على نفسه أجزاء متناثرة كل جزء منها يبحث عن إشباع حاجاته كائنة ما كانت تلك الحاجات سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو ما شئت أن تضيف، فيتشتت همُّ الإنسان وتتفرّق مطالبه؛ لا بل في ظل تطور الوعي بالعقيدة أصبح التوحيد توجهاً روحياً خالصاً نحو طلب الأعلى، متسامياً عن الدنايا، مرتفعاً بالمقاصد العليا إلى التعلق بالقيم الكبرى في إطار المبدأ العقدي الذي يحكمه ويدين له بالولاء.

 إذا خلت العقيدة من معرفة الله في كيان صاحبها أقفرت وأصبحت جدباء خاوية من الفاعلية والحركة النافعة. وإذا استولت على قلبه المعرفة، كان طلبها في ذاتها محاولة ناجحة لا شك فيها للعرفان. المهم أن يصدق الطالب يقيناً في طلبه، وأن تزول عنه عوائق ما يطلب، وأن يكون طلبه معرفة الله صادقاً على الدوام من جهة اليقين الذي لا يداخله شك. هنالك تصبح حركة السلوك الديني موالية للعقيدة التي يعتقدها في الإله الواحد ويدين لها بخالص الولاء، ولم تكن حركة بغير هدف قصدي؛ بل هدفها الأول والأخير المعرفة. 

وحين يستعرض الباحث نظرية التوحيد وتطورها في الفكر الإسلامي وخاصّة في الأوساط السُّنيّة، يجد أنها شغلت دوراً هاماً عند فرق ثلاث من الإسلاميين، وهم المعتزلة والسفلية والصوفيّة؛ فكل فرقة من هذه الفرق خلّفت حول نظرية التوحيد محصولاً فكرياً وعلميّاً يمتاز حقاً بالعمق والشمول والثراء.

كان رجال الاعتزال، على ما يظهر، أوّل من أثار مشكلة التوحيد في العالم الإسلامي، وجاهدوا في سبيل تطبيق مبدأهم التوحيدي على مسائل عديدة في الإلهيات والأخلاقيات والاجتماعيات؛ باعتبار التوحيد عندهم تنزيه الله المطلق عن صفات المخلوقين، وبالغوا في التنزيه إلى حد المفارقة وبلوغ التعطيل، وفقاً لمقتضيات العقل، فكانت مقالة التوحيد عندهم لها صلات وثيقة بمسألة خلق القرآن، ونفى الصفات عن الباري، وعدم إمكانية رؤيته في الدار الآخرة، كما ارتبطت بمقالتهم في العدل الإلهي وحرية الإنسان حتى أنهم لأجل ذلك عرفوا في الأوساط الكلاميّة بأهل التوحيد والعدل. هنالك أضحت فكرة التوحيد التي هي فكرة لاهوتية في جوهرها عند المعتزلة وغيرهم من المفكرين الإسلاميين، أساساً لحلول نظرية تتعلق بمسائل أخلاقية واجتماعية. كان فهم المعتزلة للتوحيد معلقاً على النظر العقلي لا يخرج عنه ولا يتسع للخروج عنه أو للبحث فيما فوقه، ولم يكن فهمهم لطبيعة الوحدة الإلهية سوى ما أطلقوه عليها بالمدلول الذهني وكفى.

وباتجاه النظر إلى جهود الاعتزال العظيم في ميادين الفكر والعلوم، والاعتراف بمجهودهم في الدفاع عن العقائد الإسلامية ضد منتقديها، فقد كان مثار اهتمام تفكيرهم المحافظة على الوحدة الإلهية في صفائها وقداستها، غير أن نظريتهم عن الذات الإلهية ووحدتها ظلت تتصف بالسكون (stillness) أكثر من اتصافها بالحركة (by movement) لأنهم أظهروا لنا بموجب منطقهم العقلي ضرورة إله كأنه مكبّل في قيود كماله.

وتشير الدراسات المعمّقة إلى أن نظرية الاعتزال إذا هي كانت فشلت في التوحيد في دائرة الإلهيات، فقد كتب لها النجاح تماماً في دائرة الاجتماعيات والأخلاقيات؛ تأسيساً على أن مقالتهم في “العدل” وهى متفرعة عن “التوحيد” كانت أساساً لرأيهم المتعلق بحرية الإنسان وتبعاته الدينية، وإقرار مسؤوليته الخلقية إزاء الأفعال التي يقوم بها.

وكما أعطى التوحيد اسمه للمعتزلة، نرى كذلك أن الحركة السلفية قائمة في الواقع على فكرة التوحيد. والتوحيد عند علماء السلف هو عقيدة وعبادة، فكرة وسلوك وهذا هو الجانب الإلهي من التفكير فيه. وكذلك هو في الوقت نفسه سلوك فردي، أي خلقي، ومعاملات اجتماعية، وهذا هو الجانب الإنساني فيه؛ وعليه يصبح التوحيد هو مبدأ إلهي من حيث العقيدة وإنساني من حيث التطبيق، يصبح فكرة دينية وزمنية في آن معاً. والتوحيد في نظر ابن تيمية (ت 728هـ) ذو مظاهر ثلاث : المظهر الأول للتوحيد هو ما يسميه بتوحيد الألوهيّة وهذا اعتراف بالوحدة الذاتية للإله الحق وإيمان عميق بها. والمسلم في هذا الموطن مكلف بأن ينفي الألوهية عما سوى الله. أمّا المظهر الثاني للتوحيد؛ فهو توحيد الربوبية وهذا إقرار من العبد بوحدة الربوبية أى وحدة الذات الإلهية في الخلق والتسوية والتقدير والهداية، فكما يكون التوحيد الأول إفراد الحق بالوجود المطلق ويخصه بالألوهية فكذلك هذا التوحيد يفرده بالربوبية ويُخصّه بكمال الإبداع والإرشاد.

وللحديث بقية

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

           

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *