Share Button
بقلم: د. مجدي إبراهيم

إذا نحن أرادنا تسليط الضوء على مفهوم التأصيل حقيقةً, فلتجدر الإشارة بدايةً, حسب ما نتصور, فيما يَخُص موضوعنا, إلى أن قلة الاكتراث بالقرآن تَعدُّ إسرافاً في الضمير الديني ليس له نظير؛ فالقرآنُ الكريم باعتباره ذكراً مفروض أن نحْيَاهُ ونتخلق به ونعيشه تجربة في حروفه وكلماته وفي إشاراته وموحياته, فكما كان القرآنُ الأصلَ والمصدرَ لمنطلقات شيوخ الصَّدْر الأول في الإسلام على التعميم, فينبغي أن يكون كذلك هو الأصل والمصدر لمنطلقات الفكر والعمل لدى من يقرأه على وعي وبصيرة في كل جيل, وتلك هى طلاقة النَّص القرآني في أبسط معانيها, تماماً كما هى بداهة التأصيل في معروف العقل ومعروف الوعي ومعروف الضمير : الرجوع بوعي المسلم إلى القرآن؛ فمن لم يعرف القرآن ويتدبر أسراره ويقيم علاقة روحيّة معه لا يَطْرُق باب التذوق لأسراره أبداً لا من قريب ولا من بعيد، وكذلك في حال التجريب معه وممارسته والانفعال به, فالأمر من ثمَّ لم يكن معرفة نظرية خارجة وكفى, ولكنه معاملة باطنة تستشعر ما في القرآن من حيوية وحياة وتوجُّه ليكون الإنسان هو نفسه القرآن من ناحية التخلق, ولنذكر قول السيدة عائشة رضى الله عنها عن الرسول صلوات الله عليه حين وَصَفَتْهُ بقولها أن: “كان خُلُقه القرآن”؛ ليتبيَّن لنا من بعدُ أن كلمات الله كانت تتحول في شخص الرسول صلوات الله عليه إلى عمل بمقدار ما كانت تتحول لدى أكثر المقبلين على الله من المخلصين إلى فعل يُسْلَك، وإلى حياة تُعَاش وإلى سلوك ينفعل بباطن تلك الحياة.
ودراسةُ كلام الحق جَلَّ شأنه فضلٌ من الله تعالى يؤتيه الله من يشاء حين يشاء من عباده, ولا يَدَعيه مُجَرَّد إدّعَاء فهماً ولا ممارسة كل من هَبَّ ودَبَّ. ولا بد ممَّا ليس منه بُدٌ: توافر عنصر الاصطفاء لهذه المهمة الجليلة. وليس يمكن لغير من أختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه, فأنت تستطيع أن تكون عالماً في أي ميدان تختاره, تستطيع أن تكون متكلماً أو فيلسوفاً أو نحوياً أو أدبياً أو ما شئت أن تكون إذا توَفَّرْت لذلك، وكان لديك استعدادُ ملائم, ثم خَصَصْتَ هذا الاستعداد بعنايتك. أما أن تكون مستنبطاً للإشارة المقصودة من العبارة القرآنية, فهذه خصوصية فريدة لا بد أن يسبقها اجتباء إلهي.
ومن هنا ظهر ما يُسمى بالتفسير الإشاري للقرآن الكريم قامت به على مر العصور طائفة من أتقياء المسلمين، وهو من الندرة بحيث نَخُصُّ منهم بعض أئمة صوفية الإسلام على التحديد, يقوم على استنباط الإشارة من العبارة, ولسوف نتحدث بالإشارة عنه لاكتشاف ما نسميه من جانبنا بــ “الذاتية الخَاصَّة للقرآن” تجيء كدعائم ومرتكزات يقوم عليها مع تحديد عناصر هذه الخَاصَّة الذاتية وأركانها التأسيسية كونها دعائم تأصيلية للتفسير الإشاري عَسَانَا نقف على منطلقاتها الحَساسة في العقل والشعور على وعي وبصيرة بالقرآن, لكأنما التفسير الإشاري قائم على تلك الذاتية الخاصَّة منذ البداية, ومؤسس على أركانها, ولكأنما كانت هذه الذاتية الخَاصَّة بمثابة الأصل الذي ينطلق منها فيُسْتَبْصر مقوماتها المنهجية وأسسها التأصيلية والتذوقية.
نعم! للقرآن الكريم خاصّة ذاتية لم يقف عليها إلا الموهوبون من طلاب الحقائق العليا ومريدي الثقة بطوالع الملكوت؛ أعني الحاضرون دوماً مع الله عبادة وتبتلاً. هذه الذاتية الخاصة للقرآن تقدح فيمن يتعامل مع القرآن ببصيرة مطموسة : يَتَعَبَّدُونَهُ باللفظ ولا يعرفون إيحاءاته ولا دلالاته ولا معانيه, ويقيدون الفهم من جانبهم فيقفون على الظاهر من الألفاظ وكفى ويعزلون اللفظ عن الدلالة وعن المعنى وعن الإيحاء ولا يكتفون بتلك العزلة الواصبة بل يعزلون القرآن كله عن روحه العام إن في آياته وإن في سوره وإن في مجمله على الصورة الكلية.
ومن هنا؛ فاهتمامنا سيَنْصَبُّ في هذا المقال والمقالات التي تليه، لا على التفسير الإشاري نفسه ولكن على الذاتية الخَاصَّة للقرآن بوصفها تشكل دعائم تأصيل التفسير الإشاري.
على أن القشيري يُجمل ذلك في مقدمة تفسيره الإشاري أو يُفَصِّله على نحو من الأنحاء ليُصَوِّر لنا كيف يكون التفسير عامة والتفسير الإشاري منه على وجه الخصوص؛ فإجمال ما تقدَّم مذكوراً عن الزَّرْكشِي والسيوطي والحارث ابن أسد المحاسبي إنما هو عند القشيري إشارة. حيث يقول إن الله :” أكرم الأصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف أسراره وأنواره لاستبصار ما ضَمَّنَه من دقيق إشاراته وخفيِّ رموزه, بمَا لوَّح لأسرارهم من مكنونات, فوقفوا بما خُصوا به من أنوار الغيب على ما أستتر عن أغيارهم, ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم : الحق – سبحانه وتعالى – يُلْهمَهُم بما به يكرمهم, فهم به ناطقون؛ وعن لطائفه مخبرون؛ وإليه يشيرون, وعنه يُفْصحُون, والحكم إليه في جميع ما يأتون به ويَذَرُون” (أ.هـ).
ويَتَبَيَّن من ذلك أن التفسير عامة؛ والإشاري منه خاصَّة, إنما هو تفسير إلهامي من فضل الله وتوفيقه, واصطفائه واختصاصه لمن شاء له من عبيده, لا بقدرة منهم أو حيلة أو اكتساب, ولا اقتدار من جانبهم على هذا الفضل أو ذاك التوفيق, ولكنه توفيق موهوب واختصاص من عند الله وكفى, لا يُقال في حقه سوى ذلك.
غير أن هذا اللون من التفسير الذي يتكلم عنه القشيري يَفْتَرَقُ عن سائر ألوان التفسير الأخرى, تماماً كما يفترق التفسير في مجمله عن سائر ألوان الفكر الإسلامي وذلك لشرط عنصر الاصطفاء من قبيل الله تعالى. فلئن كان أصل الوقوف على معاني القرآن التَّدبُّر والتفكر وهذا صحيح, فلا قيمة لهذا الأصل مُطلقاً بغير الشرط الذي أجمع عليه العلماء بالقرآن.
شَرَطَ “الذَّرْكَشيّ” في “البرهان في علوم القرآن”, والقشيري في “لطائف الإشارات” والسيوطي في “الإتقان في علوم القرآن” منقولاً عن الإمام أبي طالب الطبري, والمحاسبي في “العقل وفهم القرآن”، وصدر الدين القونوي في “إعجاز البيان في تأويل أمّ القرآن”؛ شرطوا شروطاً قاسية ليس فينا في الغالب مَنْ لا يخلو من وجودها فيه بوجه من الوجوه, وذلك لندرة من لا توجد فيه, ولكن ليس معنى وجودها فينا أن يتخلى المرء عن فضيلة الجهاد والتَّصْفيَة مُدَّعياً شدة هذه الشروط وقلة حظه بالمرة في تطبيق أضدادها بالوقوف على الجوانب الإيجابية المتسعة, فيروح فيعزف بالجملة عن مواجهة الذات الإنسانية بالقرآن على ما شرطوه.
شَرَطوا فيما يُشْبه الإجماع أن الخطاب الإلهي لا يفهمه ذو بدعة, ولا مَنْ هو مُصرٌّ على ذنب, ولا مُحب لدنيا, ولا مَنْ كانت في قلبه ذرة من كبر أو هوى, ولا من يكون غير متحقق الإيمان أو ضعيف التحقيق أو يكون مُقلداً في نظره، معتمداً على قول مُفَسّر ليس عنده من العلم سوى علم الظاهر أو يكون راجعاً إلى معقوله النظري؛ (أي الدعوى الفكرية والعقلية)؛ فهذه كلها حُجُب وموانع عائقة عن فهم معاني الوحي حقيقةً, حاجبةً عن أسرار العلم من غيب المعرفة, فمن كانت في نفسه صفة من تلك الصفات لا يَدَّعي مُطلقاً فهم الخطاب الإلهي، ولا ينبغي له، وليس بملزم لأحد أن يأخذ عنه في قول أو في دلالة.
ومن هنا يتجلى معنى التفسير الإشاري الذي يفترق عن سائر ألوان التفسير الأخرى, والذي قَدْمَهُ صوفية الإسلام عامة, والإمام القشيري بصفة خاصة، ويضاف إليه من قبل ذلك الإمام السلمي في حقائق التنزيل.
قَدَّمَ الصوفية منهجاً جديداً لفهم القرآن يقوم على الذوق الشعوري أسموه “الاستنباط القرآني”؛ (والاستنباط هنا: “استبطان”، واستخراج من الخفايا، وليس هو الاستنباط العقلي بحال)؛ ومعناه: أن يُردِّد الصوفي القرآن؛ مستغرقاً فيه, حتى تنفتح له المعاني الإلهية، ثم ينتقل إلى معاناة العبارة, يخلو بنفسه مع ربه بين مقامات يتردد فيها وأحوال يعانيها, حتى تنقدح المعرفة الإلهية فيه، أو تُلقى فيه إلقاءً؛ فيتذوقها.
لاحظ قوله تعالى:”لعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُوَنَهُ”؛ أي لعلمه الذين يجاهدون أنفسهم في فهمه ومذاكرته واستحضار رؤيته للخلق والكون والعالم والإنسان, لا الذين يهملونه أو يهجرونه أو يقرءونه على الغفلة والسَّهَيَان.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إشارة سريعة إلى بعض الدراسات المُهمَّة ذات الشأن الممتع المضيء للجوانب الكاشفة للقرآن من ناحية “علم الدلالة” (Semantics) ونعني بها دراسة المُستشرق الياباني “توشيهيكو إيزوتسو” بعنوان” الله والإنسان في القرآن : علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم” يوضح فيها مسألة العلاقة الشخصية بين الله والإنسان في الرؤية القرآنية للعالم, لكن من زاوية المنهج الدلالي للدراسات القرآنية؛ فإذا كان القرآن قابل لأن يُقارَب من وجهات نظر عديدة ومختلفة مثل اللاهوتية والفلسفية والاجتماعية والنحوية والتفسيرية, فهو من باب أولى في نظر المؤلف يُمكن أن يُقارَب من ناحية علم الدلالة ومنهجه التحليلي الحديث ومفهوماته المتعددة والمتباينة, لكن علم الدلالة عنده كما يُوحي به الأصل الاشتقاقي للكلمة هو: علم يُعني بظاهرة “المعنى” بأوسع معاني الكلمة.
ويُخَصص المؤلف جزءاً من كتابه عن التصوف ليتبيَّن له بعد بحث وتدقيق أن التفسير الصوفي (الإشاري) وفق المنهج الذي اختاره له أصحابه أن يكون؛ ذو أهمية وفائدة قصوى للمختص بعلم الدلالة”. هذه الإشارة السريعة إلى بعض الدراسات الدلالية الحديثة لا تكاد تطلعنا سوى على ما يعتمده الصوفية من منهج في التفسير الإشاري بصفة خَاصَّة, ولكن هذه الإشارة أيضاً رغم أهميتها ليست شيئاً بالقياس إلى حديث رسول الله؛ ففي الحديث أنه صلوات ربي وسلامه عليه قال:” القرآنُ ذَلُولٌ ذو وجوه, فاحملوه على أحسن وجوهه”.
يشرح السيوطي حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه الذي رواه أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس:” القرآنُ ذَلُولٌ ذو وجوه, فاحْمِلُوهُ على أحسن وجوهه”. يشرحه لفظة لفظة ويُبَيّن مقاصده في دلالة كلماته فيقول: “ذلـول”؛ يحتمل معنيين, أحدهما أنه مطيعُ لحامليه تنطقُ به ألسنتهم. والثاني: أنه مُوَضِّح لمعانيه حتى لا تُقْصِّر عنه أفهام المجتهدين.
وقوله : “ذو وجوه”؛ يحتمل معنيين كذلك, أحدهما أن من ألفاظه ما يحتمل وجوهاً من التأويل. والثاني أنه قد أجمع وجوهاً من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحليل والتحريم. وقوله :” فاحملوه على أحسن وجوهه”؛ يحتمل معنيين أيضاً : أحدهما الحَمْلُ على أحسن معانيه. والثاني: الحَمْلُ على أحسن ما فيه من العزائم دون الرُّخَص, والعفو دون الانتقام, وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله تعالى.
ويتبيَّن ممَّا ذكره السيوطي أن جواز الاجتهاد والاستنباط في كتاب الله على العلم الواضح والبيّنة الجَليَّة لهو ممَّا يقرُّه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه, ولا يُنفيه, لاحتمال المعاني الواردة وتعددها في هذا الحديث ومن ثَمَّ جَوَاز استنباط الدلالة من ظاهر المعنى. ثم أنه إذا لم يكن الاجتهاد في كتاب الله ومذاكرته وفهمه, وتَدُّبره, واستحضار رؤيته للعالم والإنسان, واستنباط معانيه ودلالاته – قدر الطاقة – في الأنفس وفي الآفاق؛ ففيما إذن يكون الاجتهاد؟!
على أن هذا الاجتهاد يخضع لمنهج فإذا كان منهج المتكلمين والفلاسفة هو العقل؛ فمنهج الصوفية الذوق والحدس. بمثل هذا “الذوق” منهجاً يُطبَق على موضوعه، وهو هنا “القرآن” تتكشف للصوفي مَعَانيه وتُشرق في قلبه مراميه ليتلقى خطاب الحقيقة عارفاً بجميع مستوياته، مستوى اللفظ ومستوى المعنى ومستوى الحقيقة.
يُحْسن فهم الخطاب الإلهي؛ لأنه كان أحسن العمل به والدعوة إليه على بصيرة, ويجعل القيم القرآنية في مقدمة اهتماماته تطبيقاً وتفعيلاً وممارسة وحياة.
وعليه؛ فليس كل أحد بقادر على ممارسة الإشارة ما لم يكن مجتهداً على هذا التوصيف؛ فيُمْكنك أن تكون عالماً في أي فرع من فروع المعرفة كان, دون أن يَصْحَبَ ذلك عملٌ, أما أن تقبل على القرآن الكريم لتستشف الجواهر من وراء الظواهر فهذه مسألة ينبغي أن تَقترن بجهود مُضنية في تصفية النفس والقلب من كل العلائق, وتخليتهما عن كل الشواغل الدَّنيَّة, وتحليتهما بكل الأوصاف السَّنيّة. فأخصص خصائص التفسير الإشاري؛ كما يُحَدِّدُهُ الدكتور إبراهيم بسيوني في “منهج القشيري في التفسير” هو :” الاعتماد على استنباط خفايا الألفاظ – مُفْرَدَةً أو مُرَكَّبَة – دون التوقف عند حدود ظواهرها المألوفة ومعانيها القاموسية؛ وإنما يُنْظَرُ إلى اللفظة القرآنية على أنها ذات جوهر يدق على الفهم العادي, وأهل التجريد وحدهم هم الذين يتاح لهم – بفضل الله – العلم الذي يكشفون به عن هذا الجوهر. وهناك رباط وثيق بين هذا العلم وبين العمل؛ إذْ لا يَحْظى به إلا من جَرَّد قلبُه من كل سانحة, وَصَفَّى نفسه من كل كدورة, وتهيأ بكل الهمَّة لهذه المهمة الجليلة : دراسة كلام الحق جل ذكره؛ وذلك فَضْلُ الله يؤتيه من يشاء”.
التجربةُ مع كلام الحق تعالى تقول لك بأبلغ لسان: إن هنالك نوراً علوياً ينبعث من “كلمات الله”, يدنو منك في لحظات الاتصال, يهيئوها لك فعل الترقي والتطهير، ويعز عليك استقباله بغير تطهُّر واستعداد: التصافي شرطه، وأصله موالاة مصدره وخدمته, فلمَّا أن سُئل عنه قال: ” نورٌ أنَّىَ أرَاهُ “. الصفاء والاستعداد والتأهب للترقي خصالُ من يريد أن يكون داخل المعية لا خارجها, واجتماع الخصال وسائل مُوَصِّلة لكنها ليست الغاية, فالغاية هنالك بعيدة بعيدة، بيد أنها قريبة بل أقرب ما تكون مع الإحسان. ودوام البقاء مع الوسائل ظلمة حاجبة, والفراغ منه مطلوب في ذاته، ليتفرغ السرُّ لورود “اللحظة”. وإنها للحظة نورانية كاشفة تشع من باطن القلب، ينغمر فيها النور ليعطيك من فورك ما لا يخطر لك على بال : يعطيك السلامة في الحِسِّ وفي الذوق وفي الوعي وفي الإدراك. وإذا أدركت اللحظة النورانية العجيبة أدركت السعادة كلها طمأنينة قلبية لم تعد تزلزلك بعدها الزلازل من حولك ولا التهاويل, أدركت الدلالةَ وأدركت القيمةَ وأدركت من عالم القيم القرآنية مُوحيَاتها ممَّا ليس يدركه الغفل الجهول. ليس عبثاً ذلك الذي تحسّه, وليس شعورك في هذه”الحالة” باللهو الذي ينقضي معه الزمن أو يقضي هو على الزمن, فلو أنه كان كذلك لكنت في غيبة وحجاب أي كنت في غيبة عن اللحظة؛ لكنك في حيرة من أمرك : على أي وصف يمكن أن يكون “حالك” ؟!
لست تجد لورود اللحظات عليك تفسيراً ولا تعليلاً, أنت هاهنا خارج نطاق التفسير والتعليل, أنت معه بكليتك، ومعية الكلية لا تستلزم وصفاً ولا تقتضي شرحاً. الكليَّةُ بقاء تريدُ فيه من خالص قلبك أن تسكّن الزمن لحظتها, يدوم ولا ينقطع, ولكنه رغماً عنك ينقطع فلا يدوم, وانقطاعه حجاب, مع بقاء اللحظة حاضرة في “عين اليقين”.
* * *
شَرْطُ الفتوح في القرآن التخلي عن الدعوى النظريّة؛ الفكرية والعقلية؛ والجلوس مع الله مجالس الأدب والمراقبة لا مجالس الغفلة والإدعاء؛ إذْ الجلوس مع الله على بساط الأدب ثم المراقبة يمضي بالمرء إلى التهيؤ لقبول ما يَردُ عليه من الحق حتى يكون الله هو الذي يتولى تعليمه على الكشف والتحقيق. أي نعم! الله هو الذي يتولى تعليمه (وَاتَّقوا الله وَيُعَلّمَكُم الله). يَحُدث هذا للذي يتخلى عن دعواه كائنة ما كانت تلك الدعوى: جَاهَاً أو سلطاناً أو دنيا أو نفوذاً أو ما شئت أن تضيف, يتخلى عنها بمزيد من التعلق بما عند الله ولا يتظاهر بالدعوى مُجَرَّدَةَ عن التقوى, ولا يحدث هذا لمن يدعى أنه يُعَلّم نفسه بنفسه فتكون الدعوى العريضة مالكة له مسيطرة عليه. قُلْ لي بربك: هل أصابتك حالة من الوجد العالي فبكيت فيها حتى الاختناق من تأثير آية من آيات القرآن؟ إذا حَدَثَ لك هذا من قبل فلتعلم أنها “خَاصَّة ذاتية” من خصائص القرآن توجد فيه ولا توجد في سواه، وتتوافر في القارئ الذي يقرأ القرآن لا قراءة عادية مُجَرَّدَة عن الفاعلية والتأثير, بل بوجد وطرب وفكر, وكأنما القرآن نزل في شأنه !
من تلك اللفتات المُتقدّمَة يمكننا تحديد جوهر البحث الذي نحن بصدده وتحديد عناصره من ثمَّ وخطواتنا المنهجية في قراءتها. فحين نقول إن هنالك ذاتية خَاصَّة للقرآن نعني بأن يجيء القرآن مَطلوباً من حيث ذاتيته الخَاصَّة كما قلنا لا من حيث ذاتية غيره وخصوصيَّة سواه.
الذاتية الخاصَّة للقرآن هى ذاتية تشريع للحياة العالمة : خضوع لقانون أسمى من قوانين البشر, وما لقوانين البشر هذه, تكييف مع واقع الحياة ولا تنبيه لمعالجة هذا الواقع ما لم يكن خضوعها لهذا القانون الأعلى شرطاً ضرورياً لفهم القرآن على الوجه الذي يكون فيه الفهم مُخْرجَاً لمنهج يُسْلك صاحبه سبيل العمل النافع بمقتضى الفهم. تقوم الذاتية القرآنية على أركان ودعائم مثل :
(1) الحضور . (2) الفهم. (3) الحَلاوة. (4) وحدة القصد. (5) الإيحاء. (6) العقل البصيري. (7) تحويل النفس. (8) التجلي .
ولسوف نُعْطي في هذه المقالات الثمانية نماذج فيما سيأتي لتلك الأركان على الترتيب متخذين من منهج التحليل الذَّوْقي سبيلاً لنا, شارعين في تذوق ما نصل إليه على طريقة أرباب الأحوال والأذواق.
بقلم : د. مجدي إبراهيم
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *