Share Button

أكثرُ آيات الحج في القرآن تحثُ على ذكر الله على الدوام بغير انقطاع؛ لأن الذكر يُمثّل صحة النفس وتصفية القلب، وهما مقومان أساسيان لتوازن الإنسان من حيث الظاهر والباطن، ومن حيث الجلي والخفي، ومن حيث استواء القلب مع القالب .. وليس من بعدٌ إلا التطهير !

والسلوك الطيّب يَتَمَثَّل في الذكر وبساطه العمل الصالح؛ إذْ العمل الصالح هو السلوك الذي لو دام بالقطع لأثمر النور؛ وهذا هو أصل طريق الله، يتأسس على الذكر ليكون هو نفسه البساط الذي يثمر النور، فضلاً عن جني الثمرة الدائمة : البقاء الموصول في رحاب المعيّة الإلهيّة.

من يلتفت إلى الأغيار، وهو في معيّة الله لم يذق من الحج إلا تعب المشقة والعناء؛ والحج كُلّه في الصورة الخارجية أغيارٌ في أغيار. وإرادة الله في ذلك لكأنها تتعمّد أن تحيطك بالأغيار من كل جانب لتقفك على اختيار واحد وهو : أن تتوجّه بقلبك إلى إزاحة السّوى، فلا يكن للغير عليك من سبيل إلا أن يكون عرضاً خارجاَ ليس إلا، وأن تقف تلك الإرادة بمطلق المعيّة فلا تتحدّد ولا تتقزم بل تنطلق إلى أجواء صافية راقية تسمو بسمو المدارك والملكات.

الحج، رمزُ عملي تطبيقي فعّال لوحدة القصد : وحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس كافة بأنهم في الله إخوان، وإن فرّقت بينهم المناسب والأمكنة وباينت بينهم المناصب والدرجات، وأنهم، وهم محرِمُون في صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.

ولكن اللافت للنظر في مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل؛ فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد في بيته العتيق فكانت الكعبة؛ فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً في عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه في أول بيت مبارك وضع للناس.

ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، حكمة تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء.

فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت : حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً؛ فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد.

أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوي، عالم الأفلاك السماوية .. تذكر هنا فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات.

لك أن تلاحظ : الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفاني حول الباقي، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوي حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية؛ لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية؛ لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحي المفطور على السنن والنواميس الثوابت.

حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله للّه.وسيبقى البيت العتيق عتيقاً؛ لأنه المركز الثابت الذي سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.

أما تعليل الطواف بسبع؛ فلا يسيغهُ في العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار. وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون :
(لبيك اللهمّ لبيك ..
ربنا معذرةً إليك ..
نستغفرك ونتوب إليك)
فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال الله تعالى : طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.

ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .

هذا هو الجانب المقبول في الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت؛ فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى .. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش في البيت المعمور، ثم في الأرض، في البيت العتيق.

ومن يتأمل الروايات التي وردت في الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذي ذكرناه، فالحاج يطوف حول الكعبة المعظمة سبعاً، وفي كل مرة يستلم الحجر الأسود، وهذا الاستلام له مغزاه ومعناه : إقرار بالتوحيد من جهة، واعتذار عن الخطايا والأرجاس من جهة ثانية، ثم تطهير، لهذا يعود الحاج بعد أداء الفريضة كيوم ولدته أمه خالياً من الخطايا والذنوب.

لقد كان الحجر الأسود أبيض ناصع البياض، فاسودّ من خطايا الناس .. يومها (وإذْ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم)، ارتفع بناء الكعبة، ولمّا ارتفع البناء طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجئ بحجر، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجراً يضعه أبوه في البناء، وعاد فألفى عند أبيه حجراً فسأله : من جاءك بهذا الحجر؟

قال إبراهيم : (من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك).
وكان جبريل هو الذي جاء به من السّماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض وقيل : إن جبريل جاء بالحجر الأسود حين هبط به آدم من الجنة، وكان شديد البياض فاسودّ من خطايا الناس. وقيل : إن الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبي قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه في مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا..

وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود في كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، في شهود التوحيد، وفي تكفير الخطايا والذنوب، وفي الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفي القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد،ُ إلا التطهير .

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *