Share Button
الفلسفة وصحافة الرأي وتثقيف الرأي العام
بقلم: د. عصمت نصَّار
مَنْ يتتبع أطوار المعارف الفلسفية وذيوعها وانتشارها في الصحافة المصرية سوف يقف على عدة نتائج أولها : أن غاية الرأي العام القائد من إحياء المعارف الفلسفية وانتشارها بين العوام والمثقفين لم يكن من قبيل المطالعة أو أثراء معارف القراء، بل كان له غرض أهم ومقصد عملي يعينهم على إعادة تشكيل العقل العربي وتجديد نهوجه وأساليبه في القراءة والكتابة.
وثانيها: الانتقال بالأدب والفن من طور الحفظ وجمليات الألفاظ إلى أدب المعنى وعمق الفكرة وطرافة التصورات. وثالثها : تقديم المعارف الفلسفية للقارئ العربي باعتبارها ميداناً فسيحاً لنقد الأنساق وتقويم الرؤى والتصورات.
ورابعها : غربلة الوافد والمستحدث في شتى الميادين والتسليم بوجود رؤية ثالثة للحكم على القضايا المتعارضة. فإذا كان قطع السبيل الأفضل لحسم المواقف وتحديد الاختيارات, فإن تعليق الحكم والتوقف عن التقويم يكون الأفضل في بعض الأحايين.
وخامسها : ترغيب المتلقي في فلسفة الممكن، والتحايل على المواقف والأزمات، وإعطاء فرصة كاملة لنظرة التفاؤل عوضاً عن اليأس والتشاؤم، والتطرف والعنف ولا سيما في القضايا المتعلقة بالأحاسيس والمشاعر.
لذلك كله؛ حرص قادة الرأي في مصر على التأني في نشر بذور التفلسف بين الجمهور الذي كان يجمع بين التكلف والتعقيد والسفسطة والفلسفة والمروق والكفر في سياق واحد. وقد أضطلع الاتجاه المحافظ المستنير دون غيره؛ بنشر الاتجاهات والأفكار والمذاهب الفلسفية التي لا تنفّر العامة من تعاطي الفلسفة وترَغّب في الوقت نفسه المتحمسين للتراث على الاستعانة بالمنطق وأصول صياغة الدفوع والأدلة على بطلان ادعاء الخصم للزود عن ما يعتنقونه ويودون حمايته وتهذيبه. فها هي مجلة المقتطف – التي تعدّ أعرق المجلات الجامعة بين الثقافة العلمية والثقافة الفلسفية في مقالاتها التنويرية – تنشر عشرات المقالات منذ نشأتها عام 1876م في لبنان، ثم انتقلت إلى مصر، وكانت رسالتها نشر المعارف الحديثة وإعادة تشكيل وعي المثقف العربي, وتهيئة الرأي العام لقبول المعارف الفلسفية. وقد أجادت هذا الدور في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ثم قامت بجهد أكبر في ترغيب شبيبة الباحثين في مطالعة الكتابات الفلسفية وتشجيعهم على ترجمة بعض كتابات الفلاسفة ونشرها على صفحات المجلة بعد مُرجعتها وتنقيحها ولا سيما في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين.
وها هي بعض الموضوعات التي طرحتها على قرائها منها : “كونفوشيوس” لول ديورانت, و”علاقة العلم بالفن والدين والفلسفة” لإبراهيم مطر, و”قيمة العلم الأخلاقية” لمحمد ولي, و”رسالة مؤمن بالعلم والمثل الأعلى” لأوليفر لودج, و”شيء عن شوبنهور ومن فلسفته” ليوسف حنا, و”أسطورة الخليقة البابلية” لنقولا زيادة, و”فلسفة اللون الأصفر” للطبيب النفسي الإنجليزي هفلوك ألس, و” الباحث النظري والمستنبط العملى”، لعالم الأحياء الإنجليزي جون هولدين, و”معارج الفلسفة ومذاهب الفلاسفة” و”فلسفة التاريخ حوار وتحليل” و”الفيلسوف سبينوذا” و”ديكارت أبو الفلسفة الحديثة” لحنا خباز, و”الجامعات: معاهد للدرس أم للبحث” لإسماعيل مظهر, و”قياس الأخلاق” و”فكرة التقدّم في التاريخ” لأديب عباسي, و”الدين والعلم” لأينشتاين, و”العلم والصوفيّة” لعلى مصطفى مشرفة, و”فلسفة السعادة في الحضارة الحديثة” لبرتراند رسل, و”النقد والشخصيات”، و”الجسد والروح” و”فلسفة تاريخ الفلسفة” لعلي أدهم, و”سيكولوجية الكذب” لأحمد عطية الله, و”العلم وطبيعة الألوهية” للمفكر اللبناني شارل مالك, و”فلسفة الأدب” لمصطفى صادق الرافعي, و”العلم والفلسفة والأخيلة الشعرية” لمصطفي الشهابي, و”فلسفة التاريخ الإسلامي في القرن السابع الهجري” للمؤلف العراقي مصطفى جواد, و”جان جاك روسو” لجورج نيقولاوس, و”معرض المذاهب السياسية” للطبيب والسياسي السوري عبدالرحمن شهبندر, و”عناق العلم والفلسفة” لنقولا حداد, و”ابن خلدون وسبنسر”، و”فلسفة التحليل النفسي” ليعقوب صروف, و”ابن خلدون والنقد الحديث” لمحمد عبدالله عنان.
ولعلّ مجلة الهلال (التي أسسها جورجي زيدان عام 1892م) تُعد من أكثر المنابر الصحفية دفاعاً عن الثوابت والمتغيرات التي حرص قادة الرأي من الاتجاه المعتدل على جعلها في مركز بنية المشروع الحضاري الذي عبرت عنه فلسفتنا في النصف الأول من القرن العشرين. فقد بلغ عدد المقالات التي رسخت المفاهيم الفلسفية المراد انتشارها في المجتمع في الفترة الممتدة من 1900 إلى 1933م – وهو العام الذي أدرجت فيه الفلسفة في البرامج التعليمية كما أشارنا- نحو 100 مقال, وقد حظيت سنة 1933م وحدها بنصف ذلك العدد تقريباً.
ومن أهم الموضوعات التي واكبت ذيوع المعارف الفلسفية آن ذاك (“الثيوصوفية” لجورجي زيدان, و”ماذا يقرأ العامة”، و”العلم والدين والفن الجميل”، و”امتزاج الثقافات” لأمير بقطر, و”الإنسانية والحب” لإبراهيم المصري, “العقيدة السياسة” لأمين الرافعي, و “هل يتاح للشرق أن يستعيد مجده” لعبدالرحمن شهبندر, “مدنية العقل ومدنية الخيال” لمخيائيل نعيمة, و”صاحبة الجلالة الصحافة أعظم قوة تقود الجماهير والحكومات” لعبدالقادر حمزة, و”فلسفة الحب عند العرب”، و”لماذا نخاف الموت وكيف نعالج هذا الخوف” لطاهر الطناحي, و”أيهما نقدم : الرابطة الشرقية أم الإسلامية أم العربية” لمحمود عزمي, و”نهاية العالم, كيف تكون ومتى؟” للفلكي الفرنسي رودو, و”بين الفن والفلسفة” لعلي أدهم, و”لماذا أؤمن؟” لإبراهيم سعيد, و”جنون نيتشه” للمستشرق الروسي بندلى جوزى, و”الفلسفة في كل العصور” لحنا خباز).
ويتضح من العرض السابق لأشهر عناوين المقالات الفلسفية لمجلة الهلال, مدى طرافة ودراية وعمق الأقلام التي حررتها, ذلك فضلاً عن إدراك أصحابها للمقصد المراد من نشر هذه الأفكار وتلك المعارف؛ الأمر الذي يؤكد وعي الخطاب الإعلامي للاتجاه المحافظ المستنير وحرصه على إعادة تشكيل العقل الجمعي وتهيئته لقبول المعارف الفلسفية وإدراجها ضمن بنية ثقافته العامة.
أما مجلة السياسة الأسبوعية التي صدرت عام 1926م إلى عام 1949م؛ فكانت من أهم المجلات الأدبية المتخصصة في نشر القضايا السياسية والفلسفية لتثقيف الرأي العام, وتوعيته وتنمية شعوره الوطني, وتجديد معارفه العلمية والتربوية, وشرح أهم القضايا الفلسفية المثارة في كتابات المثقفين في مصر والشام, وتشجيع القرّاء على التفكير الناقد في التحاور والتناظر (في هذه الآونة).
وكان من أشهر كُتابها محمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، ومنصور فهمي وطه حسين، وعلى عبد الرزاق, ومن أشهر المقالات الفلسفية في أخريات العشرينات وبداية الثلاثينيات مقال “في قواعد الأخلاق” لمنصور فهمي, و”الخلافة والسياسة” للشيخ عبدربه مفتاح, و”التفكير الحر في الإسلام”، و”الفلسفة اليونانية وتدمير آخر معاهدها في المشرق” و”الدين والعلم” و”النبوغ في الحداثة” و”الجمهور والرأي العام” و”الشعر والفلسفة” و”روبرت سبنسر” و”تولستوي والثورة البلشفية” لمحمد حسين هيكل, وهوميروس” لحسن أفندي صبحي, و”منبر الأخلاق” لمحمد توفيق دياب, و”ديكارت” لطه حسين, و”كانت: حياته وفلسفته” لعلى أفندي الأنصاري, و”بين الدين والعلم” للداعية الإيراني تقي الأصفهاني, و”بين عبدة الشيطان”, و”ديني ومذهبي” لفريد وهبه. وقد أصدرت هيئة تحرير المجلة عدداً تذكارياً عن الفلسفة، وذلك احتفالاً من جانبها بإدراج المعارف الفلسفية ضمن المقررات الدراسية للمدارس الثانوية، (وسوف نتحدّث عنه فيما بعد).
وفي عام 1927م ظهرت لأول مرة في العالم العربي مجلة تحمل اسم “الفلسفة” وقد أنشأها علي محمد أسعد الحسيني بالمنيا, ولم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد من يناير إلى مارس (وسوف نرجئ الحدّيث عنها حين العثور عليها).
أمّا مجلة “الرسالة” فهي امتداد أصيل للمدرسة الليبرالية المصرية التي آلفت في أفكارها بين الفكر الإصلاحي القائم على التنوير الهادئ الجامع بين النافع من الجديد الوافد والأصيل الموروث القابل للتحديث والتطور من جهة, والمشروع النهضوي الذي امتدت جذوره من حسن العطار إلى محمد عبده حيث تجديد الخطاب الديني وإحياء سنة الاجتهاد وشرح المقاصد الشرعية والانفتاح على شتى الثقافات المعاصرة، وحرية النقد والفكر والمرأة من جهة ثانية, والمحافظة على مشخصات العقل الجمعي والهوية القومية والثوابت التربوية والأخلاقية من جهة ثالثة. وقد نحت – سياسة المجلة – منحى صحيفة الجريدة ثم مجلة السفور ثم السياسة الأسبوعية، وذلك في تبنيها الرؤية العاقلة في طرح موضوعاتها وانتقاء القضايا التي تعينها على تجديد الفكر العربي، بأسلوب سهل بسيط جامع بين الوضوح في الغاية والاعتدال في التوجيه, ذلك فضلاً عن تشجيعها للأقلام الشابة والأفكار المبدعة.
وقد استمرت في فترة من 1933م إلى 1953م, وهو نفس العام الذي أضحت فيه الفلسفة (مادة دراسية) ضمن منهج المدارس الثانوية, وقد بلغ عدد مقالاتها الفلسفية في ذلك العام (42 مقال) نذكر منها “رسالة الأديب في مصر” لعبدالحميد يونس, و”مسارح الأذهان” لمحمد حسين هيكل, و”فلسفة شوبنهور” و”فلسفة نيتشة”، و”فلسفة برجسون”، و”فولتير المؤرخ”، و”فلسفة كانت”، و”فلسفة سبينوذا”، و”فلسفة ليبنتز”، و”فلسفة ديكارت” لزكي نجيب محمود, و”باقة من حديقة أبيقور” لأناتول فرانس, و”فلسفة التاريخ” للكاتب محمود محمود محمد -وهو شقيق زكي مجيب محمود- و”الحرية في الكتابة ومدى التجديد فيها”، للتربوي محمد قدري لطفي, و”تجديد التقليد” للكاتب المغربي محمد حصار, و”مطالعات في التصوف الإسلامي” لمحمد مصطفى حلمي, و”مذهب النشوء وإخوان الصفا” لأديب عباسي, و”وحدة الوجود” لطاهر أبو فاشا.
وحسبنا أن نشير إلى أن عدد المقالات الفلسفية التي نشرت فيها خلال فترة إصدارها قد بلغ نحو (489 مقال), ذلك فضلاً عن المسابقة الثقافية التي أجرتها عن المعارف الفلسفية لطلاب السنة التوجيهية – وهي أول مجلة عربية تقوم بهذا الجهد- وذلك في العدد 869 الذي صدر في 27/ 2/1950م, وسوف نتناوله بالدراسة والتحليل فيما بعد.
ونخلص من عرضنا السابق إلى عدة نتائج أهمها – : إثبات حرص النهضويون المصريون على نشر المعارف الفلسفية في الرأي العام وذلك لتهيئة العقل الجمعي لتجديد الخطاب الديني والمصالحة بين الأصالة والمعاصرة، وقبول مشروع النهضة الذي اضطلعوا بتفعيله
ــ التأكيد على أهمية دور الصحافة المصرية في نشر المعارف الفلسفية باعتبارها الآلية الدافعة للتفكير الحر وتخليص الأذهان من قيد الخرافة والتقليد والتبعيّة, ونأمل من شبيبة الباحثين الاهتمام بدارسة هذا الموضوع المهم.
ــ تبيان أن المعارف الفلسفية لا يمكن غرسها في البنية الثقافية العربية على وجه الخصوص إلا عن طريق بساطة الأسلوب ووضوح المقصد والعزوف عن نقض الثوابت وأصول المشخصات والجموح في الدعوة بالحرية.
ــ التصريح بأن إخفاق معظم الخطابات الفلسفية المعاصرة في إقناع الرأي العام بأهمية المعارف الفلسفية في شتى الميادين ولا سيما في ميدان التخطيط ومواجهة الأزمات وتقويم كل أشكال التطرف, يرجع إلى عزوفهم عن منهج قادة الرأي الذين خططوا ومارسوا الفكر الفلسفي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى العقد السادس من القرن العشرين.
(وللحديث بقية)
بقلم : د. عصمت نصّار
قد تكون صورة لـ ‏‏شخص واحد‏ و‏جلوس‏‏
Share Button

By ahram misr

رئيس مجلس ادارة جريدة اهــــرام مــصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *