Share Button

 

بقلم ا.د/إبراهيم محمد مرجونة
أستاذ التاريخ والحضارة -رئيس قسم التاريخ
كلية الآداب بدمنهور

ما أصعب أن تبكي بلا دموع، وما أصعب أن تذهب بلا رجوع، وما أصعب أن تشعر بضيق، وكأنّ المكان من حولك يضيق.
ساعات أقوم الصبح قلبى حزين
أطل بره الباب ياخدنى الحنين
اللى لقيته ضاع
واللى اشتريته انباع
واللى قابلته راح وفات الأنين
وارجع واقول
لسه الطيور بتفنّ
والنحلايات بتطنّ
والطفل ضحكه يرنّ
مع ان مش كل البشر فرحانين(صلاح جاهين).
بدأنا بهذا الطريق , ونتنهي به أيضاً , لا يفصلنا عن النهاية سوى خطوات ولكنها خطوات مُبهمة المعالم , خطوات لم تتضح ملامحها بعد , ميعادها لم نُدركه بعد , نهاية الطريق هي اللغز الأول والأخير الذي يقف أمام ذلك العقل الذي تميز بفصاحته , ولكنه وقف أمامه بلا أي إدراك , إدراكه حينها كالعدم , فلا فصاحة تُغنيك عن فك اللغز الأقوى الذي يعصف بك ولا يلتفت إليك ! ..
تبدأ حياة لا تعي بها أي شئ , كل الحقائق أمامك كالهراء ! , أوهام لا حقيقة لها , تنظر لها نظرة السخرية , كم هي هزلية بالنسبة لك , وتبتعد , تبتعد حتى تبتعد هي الأخرى عن مرمى بصر ” إدراكك ” لها , ولكنك لم تُدرك الآن الحقيقة الأهم , التي قد تكون الحقيقة الأهم من تلك الحقائق كلها , حقيقة السقوط في هوة الجهل , الجهل بتلك الحياة , الجهل بما تصنعه تلك الحياة فيك , وما تصنعه لك أيضاً ! , فأصبحت الآن مجرداً من كل معانيها , فقط تحيا لأنك قد فُرض عليك أن تحيا وفقط , ولكن أين هو الهدف ؟ , أين هو السبيل ؟ , أين هي الحقيقة ؟ , حقيقتك وحقيقة تلك البقعة العملاقة التي تُسايرها بكل لحظاتها , حقيقة الحياة , أصبح كل ذلك مجرداً من الحياة أيضاً ! , فبفعلتك هذه قد حكمت عليها بسلب قيمتها , بسلب نبضها الذي هو أساس وجودها , ونبضها هنا هي الحقيقة المُستترة بها ..
أنت تسير على الطريق .. الخاطئ !
تحسب أنك سائراً على النهج الصحيح , السليم الذي لا عقبات تظهر به ولا خطوات تُزل فيه , طريق أبسط ما يُقال عنه أنه الطريق الآمن , الذي لن تتعرض من خلاله إلى سقطات الحياة , سقطة اليأس , سقطة الفشل , سقطة الخيانة , كل السقطات فيه كأنها لم تكن , ولكنك لم تحسب أنه مثله كمثل أي طريق , له بداية , مشرقة , لا تتفنن في إيقاعك من أول خطوة تدب بأقدامك بها فيه , سلسة ولا ترى فيها أي سلبيات , ولكنه أيضاً ينتهي عند نقطة ما وينتهي معها كل أحلامك , ينتهي فيها طموحك وتُفنى فيها سعادتك وتُدفن ! , فقط رؤيتك له أن الطريق الأمثل وضعتك في مأزق , وضعتك في حيرة حيال أمرك , تصل لمنتصف الطريق الذي حسبته لن يخذلك ومن ثم تجده يبدأ في التوحش , يتبدل من طريق مفروش بالورود ومُغطى بأنوار الحياة التي تبعث في نفسك الجمال , إلى طريق لا يعرف إلا الأشواك حتى يُفرش بها , أشواك لن تتركك إلا بعد أن تلتهم قوتك وتُضعفك وبعدها تُلقيك على جانب الطريق كأنك تشحذ منها بعض قوت يومك , فتضطرب حينها , وتندم أشد الندم على إستمرارك في هذا الطريق حتى وصلت لتلك المرحلة المتأخرة , ولكن الندم حينها لن يفيد ولا جدوى منه ! , فقد قطعت المسافة التي تتوقف فيها إرادتك عن إتخاذ قرار العودة , تُشل فيها القوة وتصبح عديمة المنفعة , تتساءل في قرارة نفسك : كيف لي ان أعود ؟ , كيف ذلك وأنا لا أقوى على تأخير خطوة واحدة حتى ؟ , ويا تُرا ما الذي ينتظرني فيما تبقى من هذا الطريق المُخيف ؟ , تتساءل وطريقك للوصول إلى الإجابة هو الأخر طريقاً لا يختلف عن طريقك في القسوة , فلن تصل لإجابة مهما حاولت ! ..
وبعد كل هذه الجلبة .. لم تجد مفراً من الإستكمال !
أحدثت تلك الفوضى فيك فوضى أخرى , ولكنها ليست بالفوضى العابرة التي تنتهي في لحظة ما , هي فوضى أبدية لن تتركك طوال رحلتك , لن تجد منها طريقاً للهرب , فطريقك الآن أصبح المُسيطر عليك والمتحكم الأول فيك , وتجد أن إستسلامك لما فرضه طريقك عليه هو الحل الوحيد , فلا عناد قادر على حل المُعضلة , ولا تقاتل قادر على وضع حد لهذه المعركة , فلن ينتصر أحد , الطريق أصبح فرضاً عليك وما عليك سوى الطاعة له ..
تستكمل وأنت لا تدري إلى أين المصير , الطريق يتمادى في فرض خيوطه عليك , كأنها خيوط عنكبوتية لن تقوى على تحملها , تجرها خطواتك معها أثناء سيرك وتُزيدك ثقل وتباطؤ , كأنه ينتقم منك ! , كأنه يثأر من قرارك الذي إتخذته في البداية بسلكه دون أن تعي وتُدرك جوانب ذلك الطريق وتأثيرها عليك على المدى البعيد , أنت المُذنب في حق نفسك فعليك تحمل النتائج بمفردك ..
وكما أورد جبران خليل جبران” بين منطوق لم يُقصد و مقصود لم يُنطق تضيع الكثير من المحبة”. ”
خطوة .. يتوقف عندها الزمن !
تأتي تلك الخطوة , فتتخذ قراراً آخر في لحظة لم تكن على البال ! , قرار بالإنشقاق , قرار بالثوران والعصيان , نعم الطريق قبضته أصعب , هيمنته عليك أقوى وليس الأمر بتلك السهولة , ولكنك قد تيقنت حقيقة جديدة من حقائق الحياة التي لطالما كان هربك منها هو سيد الموقف , تيقنت أن الحياة ذاتها لن تُكرر , لا إعادة لها , هي نسخة واحدة فقط , فمن استطاع إدراك تلك الحقيقة هو الفائز , ومن لم يُدرك ذلك فلن يخسر أحد سواه ! , قرار إنشقاقك عن ماتبقى من طريقك هذا أصبح القرار الوحيد الصائب الذي قد تتخذه يوماً ما , لن تتخذ قرارات بتلك الأهمية ثانية , ولن تجد أصعب منه لتحقيقه , فأنت الآن بمنتصف طريق أقسم على سحقك , وقرارك هذا هو الرد الوحيد عليه أنك لا تُهدد ولا تستسلم حتى وأنت في أضعف حالاتك , ضعفك حينها ستبدل لقوة فقط إن عزمت على التنفيذ دون رجعه ..
وقبل أن تنطلق .. كانت كلمة الوداع هي الباقية ..
قبل رحيلك , كان حتماً ولابد أن تُلقي خطبة الوداع على طريق لن تتشابك خطواتك معه مجدداً , بعد رحيلك عنه سيصبح مجرد ذكرى , مجرد موقف عابر لن تتذكره حتى بالسوء , سُيمحى من داخلك تماماً , سينتهي للأبد , وقبل أن تذهب كان عليك أن تُخبره كم أنت سعيد بتلك الرحلة , رحلتك خلاله أفاضت عليك بأهم الدروس , لقد علمك أن تُدرك قيمة الحياة , قيمة ذاتك , قيمة وجودك , قيمة اللحظة التي تمر ولا رجعة لها , بعد أن كانت الحقائق أمامك لا معنى لها , أصبحت الآن تتراقص على حبال الإدراك , كانت خطواتك غير مرتبة , تتقاذفك الخطوات وأنت لا تنطق بكلمة رفض واحدة , ولكنك الآن أصبحت أكثر إتزاناً , والسبب طريق , كان على وشك تدميرك , ولكنك بإدراكك أنه البداية لنهايتك أدركت أيضاً أن إنسحابك منه هو البداية لبدايتك الحقيقة .. فقبل أن يصبح طريقاً لا عودة منه , جعلته طريقاً لا عودة إليه , وقبل أن يصبح ذهاباً بلا عودة , جعلته ذهاباً لا عودة إليه ..

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *