Share Button

د. محمود محمد علي
مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

عندما سقط الاتحاد السوفيتي، توقعت الولايات المتحدة تبعاً لنظرية الدومينو أن السقوط يشمل سقوط لكل الموالين للاتحاد السوفيتي؛ وبالذات في أوربا الشرقية، فقد ظلت كثير من الأنظمة في دول أوربا الشرقية تتبني الأيديولوجية الشيوعية السوفيتية، لذلك أحذت الولايات المتحدة في العمل علي تطبيق حروب الجيل الرابع عليها ، من خلال مرحلتين :
1- المرحلة الأولي : زعزعة الاستقرار والاستنزاف، حيث ركزت الولايات المتحدة جهودها الرئيسية، علي بث شتي صور الفوضي في دول أوربا الشرقية، مع افتعال الفتن بشتي أنواعها السياسية، والعرقية، والطائفية، والطبقية، والمهنية، افتعال الأزمات الممنهجة الهامة، مع ضمان عدم تجميع قوي الشعب خلف قيادتها بإضعاف القوي السيادية والسلطوية للدول المستهدفة. وهذه المرحلة تستمر إلي نهاية العملية؛ حيث لا تنتهي بتوقيت زمني وكما قال أحد المتخصصين في العلوم الاستراتيجية بمعهد الدفاع الإسرائيلي بأن :”هذا المخطط الذي يصوغ الجمل التكتيكية لعملية الاستنزاف لن يكف عن إنتاج أفكار تصيب المجتمع في الاستنزاف، والاستنزاف ناتج من زعزعة الاستقرار، وزعزعة الاستقرار تأتي من الأحداث التاريخية في هذا المكان مع استغلال بؤر الضعف المجتمعي الموجودة” .
2- المرحلة الثانية : وهذه المرحلة هي مرحلة حرجة جداً، وإذا وصل إليها بلد فمن الصعب أن يعود هذا البلد كما كان، أو يمكن القول إنه من المستحيل ، وهذه المرحلة هي مرحلة الإفشال، أي إفشال الدول، وكيف يأتي إفشال الدولة؟!
هناك ملامح في ذلك، من ملامحها بداية ظهور بعض المواقف التي تجعل الدولة تفشل ، وهي مرحلة انعزال الإقليم ، وهذه المرحلة حرجة جداً، حيث يتم فيها طبقا للمخطط الاستراتيجي ايجاد هذا الإقليم وانتقاؤه ببراعة ، فمثلا يوغسلافيا في التسعينات عندما تم انتقاء الإقليم الذي يبدأ بالانعزال، تم انتقاء أغني الأقاليم ، وهو الإقليم الذي يكون له صفة، إما عرقية، أو مادية، أو اجتماعية، أو تاريخية منفصلة عن باقي الدولة، أو الاتحاد الذي يتم عمل هذا العمل عليه ، وهذا الإقليم يتم الشغل فيه ببراعة واحتراف مهنية عالية جداً بحيث يجعلوا أهل الإقليم يفكرون بشكل أو بآخر في موضوع الانفصال أو علي الأقل استخدام التمرد المسلح ، والتمرد المسلح يمثل مرحلة ما قبل إعلان نية الانفصال .
نبدأ بالمرحلة الأولي ؛ حيث نتساءل كيف صدرت الولايات المتحدة فكرة زعزعة الاستقرار والاستنزاف في دول أوربا الشرقية ؟
حاولت الولايات المتحدة أن تصدر فكرة زعزعة الاستقرار والاستنزاف في دول أوربا الشرقية من خلال الترويج لظاهرة التحول الديمقراطي في العالم، والمتتبع لتلك الظاهرة ، يقـف أمـام مـا يسـميه عـالم السياسـة الأمريكي “صـمويل هنتجتـون “Huntington بالموجـة الثالثـة للديمقراطيـة The Third Wave of Democracy ، والتي اجتاحت العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث امتد النظـام الـديمقراطي،” ليشمل دول أوروبا الغربية كلها فاسحاً المجال لتحول دول المحور المهزومـة إلـي الديمقراطيـة، وكانت حالتا “ألمانيا واليابان” هما الأبرز وإن شكلتا الاستثناء بحكم خضوعهما للتـدخل الخـارجي المباشر، وفي أثناء فترة الحرب الباردة؛ أي في السبعينيات من القرن الماضي، امتد الأمر إلي دول جنوب أوروبا ( إسبانيا واليونان والبرتغال) في إشارة إلى الثورة في البرتغال سنة 1974 ، ثم أجـزاء كبيرة من أمريكا اللاتينية. وبعد الحرب الباردة وإنهيار الاتحاد السوفيتي 1991 امتـد التحـول الديمقراطي إلي أوروبا الشرقية من خلال العديد من التجارب، أبرزها انهيـار الاتحـاد الفيـدرالي اليوغسلافي وتلاه من تداعيات وظلت أوروبا الشرقية” .
وهنا حاولت الولايات المتحدة أن تؤجج نار الطائفية وإحداث نوع من الصراع الخفي بين المحاور الأوربية، عبر اللعب علي التناقضات الأوربية وعدم تسهيل الطرق أمام إيجاد حل لهذه الأزمة التي كانت تهدد بانفجار بلقاني شامل، فقد عملت الولايات المتحدة علي إبقاء الأوضاع متفجرة وغير مستقرة ليس في يوغسلافيا سابقاً فقط ، وإنما في أوربا الشرقية وحتي في أوربا كلها، لماذا ذلك ؟ لأن مصلحة الولايات المتحدة كانت تقتضي ذلك ، فانفتاح أسواق أوربا الشرقية أمام حركة الاستثمارات الحرة، يسمح لأوربا الغربية، بحل مشاكلها الاقتصادية، وإيجاد ملايين الوظائف لمواطنيها العاطلين، عن العمل من خلال توظيفات إنتاجية في قطاعات اقتصادية مختلفة، تحتاج إلي تأهيل وإعادة بناء في أوربا الشرقية. هذا في وقت “يعاني فيه اقتصاد الولايات المتحدة أزمات هيكلية، ويمر بمرحلة من الركود وتراجع أرقام الميزان التجاري، وفي ظل وضعية كهذه لا تستطيع الولايات قيادة عملية الاستثمارات في أوربا الشرقية لذلك فضلت تأخيرها عبر خلق بؤر التوتر في جميع دول أوربا الشرقية الموالية للنظم الشيوعية” .
وهنا صدرت الولايات المتحدة لجميع شعوب أوربا الشرقية ما يسمي ” الثورات الملونة ” أو الثورات المخملية” ، “هذه الثورات الكاذبة التي تأتي إلي السلطة بأنظمة رجعية معادية للشعب عادة تحت ألوان إن لم تكن حمراء ، فقريبة من الأحمر، كمثل ثورتي الورد والبرتقال في جورجيا وأوكرانيا. ومعلوم أن الثورة الحقيقية هي تلك التي تجئ إلي السلطة بطبقة أكثر تقدمية تنقل المجتمع من حال التخلف والركود والظلم الاجتماعي، إلي حال الانتعاش الاقتصادي والمزيد من العدالة الاجتماعية” .
ولا يمكن ، في الحقيقة ، عد ” الثورات الملونة ” أو الثورات المخملية” ، التي حصلت في أوربا الشرقية إلا جزءا من تكتيك زعيمة الرأسمالية العالمية “الولايات المتحدة” ، المندرج فيما يسمي الفوضى الخلاقة للهيمنة علي العالم بعد انتصارها علي الاتحاد السوفيتي بنتيجة “الحرب الباردة” . ويتواءم تكتيك ” الثورات الملونة ” أو الثورات المخملية” ، ويتزامن مع تكتيك إشاعة الديمقراطية ومكافحة الإرهاب في أوربا الشرقية ، “ليجسد كلاً الشعارين أحياناً حرباً فعلية تشن علي بعض البلدان المحسوبة أمريكياً علي محور الشر، فـ ” ” الثورات الملونة ” أو الثورات المخملية” ، السلمية والحروب التي تستخدم فيها أحدث الأسلحة تشكلان إذاً وجهين لعملة واحدة” .
ولئن كانت الانقلابات العسكرية في الماضي والحاضر أيضاً ممكنة بالنسبة للأمريكيين كأسلوب من أساليب إيجاد أنظمة موالية لهم ، لا سيما في أمريكا اللاتينية، وعلتها الوحيدة أنها أسلوب يفتقر إلي الشرعية ، فـ” الثورات الملونة” أو الثورات المخملية”، هي أيضاً “شكل من أشكال الانقلاب العسكري، ولكنه الشكل الذي يحافظ علي مظاهر الشرعية حيال الرأي العام ويندرج ضمن إطار إيجابي في الظاهر هو ما تسعي إليه الولايات المتحدة من إشاعة للديمقراطية” .
وتعد نظرية الدومينو أحد نظريات تفسير قيام الثورات الملونة أو الثورات المخملية ، حيث إن” قيام الثورة في دولة معينة ينتقل بالعدوي إلي دولة أخري من الدول المجاورة ، ومن ثم فإن التغير داخل دولة معينة يحدث تغيراً مماثلاً في الدول المجاورة لها مما يشبه أثر العدوي” ، وهذا ما حدث في أوربا الشرقية عام 1989 وفي جمهوريات الاتحاد السوفيتي، حيث” أدي إسقاط النظم المحيطة إلي سقوط نظم أخري مجاورة ، فمار جري في صربيا عام 2000، وجورجيا عام 2003، وما ارتبط بهما من خبرات واستراتيجيات وتقنيات شكل قوة دفع في الثورة الأوكرانية” .

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *