Share Button

أكثر حكايات البهاليل داعية للتأمل والدهشة، مُوغلة في اللامعقول الذي يُفارق عادات الناس أو يُوهمهم بالمفارقة، ربما ينسبها أحدهم إلى الخرافة والشعوذة، أو يراها آخرون لفرط غرابتها ضرباً من الجنون، أو يُضيفها البعض إلى نوع من الهوس غير مقبول بداهةً ًمن العقل الواعي والبصيرة النافذة.

ولذلك، ومن أجل ذلك؛ لم تحظ الدراسات المنظمّة بتوجيه الاهتمام إلى هذه الناحية الخفيّة من التراث المهجور. وقد كان من الممكن فيما لو تمّت العناية بآثار هؤلاء البهاليل أن تشكّل مادة حيّة يُستخلص منها جوانب مفيدة في الحياة الروحية، مع قطع النظر إليهم باعتبارهم خارج دائرة المعقول، ومع تصويب النظرة المعتدلة بالحكم عليهم أنهم نالوا من الحقائق الباقيّة ما يعزُّ نيله على طلاّب العقل أو أنصار المعقول ..

لاقت الدراسات قديماً عناية كافية بذكر البهاليل من جانب ابن خلدون في مقدمته، ومن جانب ابن تيمية الذي أطلق عليهم (عُقلاء المجانين) وهو عندي وصفٌ عادل يدلُّ على توصيف الحالة التي يتمتّع بها البهاليل من أوجز طريق.

فإذا ظهر للناس من الوهلة الأولى إنهم مجانين بهاليل من حيث المظهر والمنظر، فهم من حيث الجوهر والمضمون أعقل العقلاء.

ولكنّ العصر الحديث (عصر العقل والعلم) ينظر إلى هذه الفئة من الناس باعتبارهم خارج دائرة الإنسانية : فئة مهمّشة مُشوّهة ميؤوس من علاجها ومن إصلاحها، لا مكان لهم ولا مأوي إلاّ في مستشفى الأمراض العقلية؛ فالحديث عنهم يتجرّد عن شعور العطف ولا يصادف عطفاً شاعراً كما صادف العطف أقلام القدماء وامتلاء به الشعور ممّن كتبوا عنهم أمثال ابن تيميّة وابن خلدون أو غير هذا وذاك من هذين العلمين الجليلين، ولا يُلقي عناية بمثل ما كانت مُلقاة في القديم، بل يضرب بجذوره في أغوار الخرافة ويسوق المنطق مساقات التضليل، ويحيل القارئ والكاتب على السواء إلى السخرية الممزوجة بالاستخفاف بالعمل العقلي ومطالب المعقول.

لا أتصوّر باحثاً معاصراً يقوم اليوم بجمع آثار البهاليل من بين بطون الكتب القديمة، ويسلط عليها أضوء التحليل، ويعمل فيها ذوقه العاقل؛ ليستخرج منها أغوارها الدفينة ثم لا يُقابل في نفس الوقت بالسخرية اللاذعة والتهوين من جديّة عمله، فقد يُوحي الاهتمام بمثل هذه الأعمال إحياء الركود العقلي الذي تجاوزه الزمن بفعل التطور والكفاءة والحيلة العلمية، ولا توحي بالتماس الدلالة الباطنة وغذاء الوعي الديني بالنظر الفارق في مسائل المصير.

هل كان هؤلاء البهاليل فعلاً مجانين أم عصرنا نحن، بمن يعيشون فيه، هو هو المجنون؟

ثم هل فقد هؤلاء فعلاً عقولهم وراحوا يتحدّثون كما يتحدّث المجاذيب، وبالتالي فلا يُعبأ بهم ولا يُؤبه لهم، أم أن الذي فقد العقل بالفعل هو هذا العصر الذي نعيش فيه، وهو عصر الجنون؟

من هنا يكون العجب، ومن هنا تكون الدهشة الداعية للتأمل في آثار البهاليل، إذ يختل ميزان الحكم لهم أو عليهم، فلم يكن ثمة مقياس صالح يُقاس عليه، ومن هنا أيضاً تجئ حيرة العقلاء إزاءهم فيما يأخذون وفيما يدعون.

هذا العصر المُفلس حقاً من قيم الوجود الروحي، من قيم الإنسان، الغارق في مستنقع الغفلات هو نفسه عصر الجنون، وليس من عصر سواه هو المجنون.

هذا العصر الذي انقلبت فيه المعايير، وضاقت الحياة بطلاب الأمثلة العليا، وانتكست القيم والأخلاق، وتردّت الحقائق الباقية، وزاد فيه الجحود والنكران، وارتفعت آفات الترهل الفكري والعقدي إلى ذروة الحضيض؛ لهو هو عصر الجنون، وليس من عصر سواه.

فلم يكن فيما يبديه إلا الشاهد الأمثل على تدني القيم عموماً، وسقوط الفضائل، ثم ترديه.

ومن يعيشون فيه ويحيون أنشطته الظاهرة والباطنة لهم البهاليل الأرقّاء حقاً، يستلبهم أخص خصاصهم الوجوديّة ويستعبدهم بآلاته وكشوفاته استعباد الذليل العاجز المسلوب، ويرقّهم مع طغيان المجموع، فيعيشون فيه كما السوائم يقدّسون المأكل والمشرب والمنكح ووسائل الترفيه ولا يرتفعون قيد أنملة وراء اهتمامات الحيوان.

فهموا، ويا ليتهم ما فهموا، من الحياة قشورها وعوارضها ومغرياتها فتعلقوا منها بالسطح البرّانيً، وغابت عنهم حقائقها وأغوارها فلم يلتفتوا إلى امتداداتها فيما وراء السطح العائم والقشرة البرّانيّة.
وإذا كان البهلول يرقُّه الجود الإلهي وتستعبده (أو قُل تُحرّره) عطايا الفضل الإلهى، فيكون دائماً أسير نعم الله، مقيداً دوماً بقيودها غير ناظر إلى سواها بوجه من الوجوه، فيكون مُتحرّراً من عبادة الدنيا، متحرّراً من سطوة ما فيها من مظاهر وذركشات؛ فبهلول الدنيا ترقّه مباهج الدنيا وتستعبده أطماعها، فيتحرّر من عطايا الجود الإلهي بمقدار كفرانه بنعم الله، ويستغرق بالكلية في عطايا الفتنة والنكوص وعبوديّة الأغيار من دون الله.

فالفرق بين بهلول وبهلول هو فرق بين من عرف ومن جهل، الأوّل، عارف بالله صادقٌ في طلبه، والثاني جاهلٌ بنفسه ثمّ بالله. الأوّل اسم على غير مُسمى، ليس هو بالبهلول ولا يعرف للبهللة طريقاً، والثاني اسم على مُسمى حقيقةً لا يتخللها مجاز، تسترقه المطامع الفانية ويفنيه السعي في طلبها، وينتهي من الدنيا كما تنتهي الحشرة بغير معرفة ولا ترقية ولا تهذيب ولا مطلب من مطالب الأذهان والأرواح.

بهاليل الدنيا أشدّ نكبة وخطورة على المجتمع والناس من بهاليل الآخرة. بهاليل الدنيا يتوارثون “البهللة” صناعة وتجارة وحرفة وسبوبة ارتزاق، ويورّثونها خلفاً عن سلف، ويؤثّرون فيمن حولهم تأثيراً مباشراً من طريق التقليد وكأنما يلقّنون ألوان الفساد في غيبة التربية وندرة التعليم، في حين لا يحدث هذا في بهاليل الآخرة، ربما كانت أحوالهم تجئ رهينة الاستعداد، لا تعمل فيها الصُّنعة عملها وليس لها ها هنا من عمل، فرديّة يصعب نقلها أو التأثر بها، ليس لهم فيها اختيار ولا تعمّل، وليس لهم حيلةً فيها غير الجهد المبذول وفاقاً للاستعداد.

وعليه، يُرجى دراسة هذه الأحوال دراسة دقيقة منظمّة تكشف عن ذخائرها النفسية باتجاه النظر إلى بواطن الشعور؛ لتعطي الفائدة الروحيّة لطلاّب الحقائق العليا بمقدار ما تقدّر الدراسة أصحابها تقديراً يضعهم في مصاف النوابغ من عباقرة الذوق الديني؛ فمن الظلم البيّن الاكتفاء بكونهم مجرّد بهاليل لا يقدّمون زاداً روحيّاً للبشريّة، ولا تقف وراؤهم ذخيرة نفسية كبيرة تتطلب التولّه والتعبير عنه والافتنان به وتستحق الدراسة كما تستحق التخريج.

وإذا كان بهاليل الدنيا قد احتفظوا بحدود عقولهم، تفكر فيما عساه أن تفكر فيه مع كل محدود، فبهاليل الآخرة ارتفعوا عن أوهاق العقول المحدودة بحدود ما تفكّر فيه، وتذوّقوا الحياة الروحية الحيّة، فعالجوها بالذوق والصبر والمعاناة، وبالاقتدار الباطني؛ فالبصيرة ملكة أعمُّ وأشمل فيهم وأقدر على التوظيف لعلومهم وإشاراتهم ومعارفهم، والعقل المحدود لا يعني شيئاً عندهم ولا يُطمع أحداً بالترقي إليه إلا أن يكون ملكة تنظيم؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الحقيقة الإلهية ولا يحسن التعامل معها بوجه من الوجوه.

ويُلاحظ على بهاليل الآخرة القبض على مسائل المصير الإنساني، والإمساك بها والعمل لأجلها، والطرق الدائم على فاعليتها، وعدم الغفلة عنها، وتكييف الحياة في إطارها، في حين لا يُلاحظ على بهاليل الدنيا إلا التجرُّد للدُّون من الشهوات بشقيها، المادية والمعنوية؛ واستغراقهم في المادة وتقديمهم المال والحطام على الأذهان والأرواح، فالمطالب غير المطالب، والتوجُّهات.

لقد حفلت مؤلفات الأقدمين بحكايات البهاليل، وربما كانت الغاية من إيرادها من جانبهم، ترقيق القلوب بمناجاة الله، والبقاء في محراب مُوالاته على التحقيق، فبالنظر إلى هذه الزاوية وجدنا أبا نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، وأبا طالب المكي في قوت القلوب، والسّهرورديّ في عوارف المعارف، والسرّاج الطوسي في اللمع، والقشيري في رسالته، والغزالي في الإحياء، والمقدسي في كتابه “التوابون”، يذكرون جوانب من آثار البهاليل، يرق لها الشعور وتثير جذوة العطف وشعور الشفقة مع هؤلاء الذين عدّهم الناس في عداد المجانين، وهم على ما وصف ابن تيمية وأحسن الوصف، أعقل العقلاء : عقلاء المجانين.

فالرقائق وحدها لا تشفي غُلّة الباحث من وراء ذكر تلك الآثار ما لم يكن تحتها دلالة نفسية نيط بها توكيد إثباتها في مؤلفاتهم غير دلالة الترقيق القلبي ووضوح العبرة وجلاء المقصود، ولعلّها في المجمل دلالة امتياز الإنسان بفورة الشعور الروحي فيه فيما لو تكّفل بخدمته على منهاج الذوق القلبي، وتوافر على رعايته غير مشكوك العُقبى في مقاصد الطالبين.

قال مالك بن دينار : مررتُ بمقبرة فوجدتُ بهلول المجنون قاعداً بين القبور وهو عريان إلّا ما يستر العورة؛ فأتيتُ نحوه لأستفيد من طرائفه؛ فوجدته تارة ينظر إلى السماء فيستهل (أي يفرح ويستبشر)، وتارة ينظر إلى الأرض فيعتبر، وتارة ينظر عن يمينه فيضحك، وتارة ينظر عن شماله فيبكي، فسلمتُ عليه فرد السلام؛ فسألته عما رأيتُ من حاله؟

فقال يا مالك: أرفع رأسي إلى السّماء فأذكر قوله تعالى :” وفي السماء رزقكم وما توعدون”؛ فأستهل (أي يَتَهَلَّل وجهه فرحاً).

وأنظر إلى الأرض فأذكر قوله تعالى :” منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى “؛ فأعتبر.
وأنظر عن يميني فأذكر قوله تعالى :” وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين “؛ فأضحك.
وأنظر عن شمالي فأذكر قوله تعالى :” وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال “؛ فأبكي.
فقلتُ : يا بهلول إنّك لحكيم، أتأذن لي أن اشتري لك قميص قطن؟

قال : أفعل؛ فسارعتُ للسوق وأتيته بقميص قطن، فنظر إليه وقَلَّبَهُ يميناً وشمالاً ورمى به إلىَّ وقال: ليس مثل هذا أريد؟
قلت : وكيف تريده؟

قال : أريدُ قميصاً من الإخلاص محفوظاً من الدَّنَس والانتقاص؛ غُرسَ قطنه بالحقائق، وحرس من جميع البوائق، سقاه جبريل بماء السلسبيل فأينع حسناً وأثمر قطناً، فلقطته أيدي الكرام البررة، التاليين سورة الحمد والبقرة، ثم حلجته أكف الوفاء بعزّ وصفاء من غير جفاء، ثم نخلته الأوتار المتصلة بالأنوار، وغزلته مغازل الحمد والثناء بالمحبة والاعتناء، جُعلت الجنة لناسجه ثواباً، وكان هو للابسه من النار حجاباً.

فهل تقدر يا مالك على مثل هذا؟

فقلتُ : إنما يقدر عليه مَنْ خَصَّكَ بوصفه، وألهمك لمعاينته وكشفه، ثم قلت : يا بهلول صف لي لألبس هذا القميص؟

فقال : نعم! يلبسه من خَصَّهُ الله بأنواره، وكتبه في ديوان أبراره، وأحياه بالسابقة، وقواه بالعزيمة الصادقة، فجسمه بين الخلق يسعي، وقلبه في الملكوت يرعى، فلا يتكلم بغير ذكر الله لفظة، ولا ينظر لغير الله لحظة، ثم صاح صيحة عظيمة وقام وهو يقول : إليكَ فَرَّ الهاربون، ونحوك قصد الطالبون، وبابك أناخ التائبون. (انتهي)

تُرى .. إنْ كان بهلولاً هو المجنون فماذا عَسَانا بفضل الله نكون؟!!
اللهم إنَّا قد وقفنا ببابك فلا تطردنا، ونحن انتسبنا لجنابك فلا تحرمنا، يا أرحم الراحمين.

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *