Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

ليس من شك عندي في أن أدب الخطاب النبوي ليعطي الصورة الواضحة كفاية أمام العقول باتساع الرؤية، وأمام النفوس بإكرام المنزلة، وأمام القلوب بتوخي الهداية، وأمام البصائر بكشف الحقائق والجهاد في الوصول إليها بعزم العمل وحكمة السعي وبلاغة الأداء. ولا يعتمد في المطلق على جرائر التهويل والتخويف، بل يتسلل إلى نفس المُخَاطب بأنفس ما تسلل إلى نفسه قيم وجودية نافعة؛ ليشعره الخطاب بالترقي؛ وليسمو بلغته ويترقى؛ وليلوذ على الدوام بملاذ الارتقاء والسمو في كل فضيلة وفي كل عمل، حتى ليدقُّ شعوره ويخفق عند اللفظة النورانية النبوية ينطق بها قطعاً وصدقاً وعي النبوة : وتلك هى إشارة “الخطاب الشرعي”؛ التوجيهي، التربوي، الإرشادي : الكلامُ فيه إشارة لا عبارة، تلميح لا تصريح، مدلول أكثر منه دلالة.

من أي أجناس الكلام البليغ هذا الذوق النبوي الرفيع؟

عَرَف الأقدمون أجناس الكلام الموجز القصير كونه أدباً يتخذه الفنانون من الأدباء والشعراء منذ عهد الإغريق؛ فكانت “الآبدة” عند نشأتها الأولى في بلاد الإغريق لا تعدو أن تكون نقشة على باب معبد أو باب دار، ثم تفنن فيها الأدباء والشعراء حتى أصبحت فناً قائماً بذاته بين الكلمات الموجزة. وظهرت خصائص الأمم في أوابدها فاتسعت لاختلاف الملكات والطبائع بين الإغريق واللاتين، وبين الجرمان والصقالبة والإنجليز، وزَخَرَتْ بها ثروة الفرائد المرسلة في لغات الحضارة، وكانت أوفر الموضوعات الأدبية نصيباً من قبول القراء.

في دراسة مركزة عن الأوابد والشوارد كتبها الأستاذ “عامر العقاد”، وهو يقدّم كتاب “آخر كلمات العقاد” إلى المكتبة العربية في 2 أبريل سنة 1964م. ذكر أنه جمع آخر كلمات العقاد رحمه الله عليه، في كتاب يفيض بأمثال من الأوابد والكلمات المأثورة التي تفاجئك وتصدفك وتعجبك، وتقول لك في كلمات قصار ما لا يُقال في صفحات. وإنه لمن محاسن تلك الأوابد إنها تكافيء قارئها على المشقة وزيادة المتعة بالاهتداء إليها، حتى إذا كانت نكتة الآبدة خفيّة بعض الخفاء، ولم تسفر عن وجهها لأوَّلِ نظرة فذلك دليل على متعة أبقى وعلى جمال أسمى.

وتُعرف الآبدة في اللغات الأوربية باسم الأبجرام (epigram) ولا يطلق عليها لفظ واحد في اللغة العربية؛ لأنها تتوزع بين أغراض المثل السائر، والحكمة، وجوامع الكلم، والأجوبة المسكتة، والوصية، والشعار، والخاطرة، والشاردة؛ على اختلاف معاني هذه الكلمات. ولا نعرف لها لفظاً أقرب إلى الدلالة عليها في لغتنا من كلمة “الآبدة”؛ لأنها تجمع المعاني التي تتضمنها تلك الكلمات على اختلافها، وتزيد عليها بألوان الجموح والتمرد والغرابة، وهى من لوازم الأبجرام كما يفهمه الغربيون بعد أن تطور في أطواره المختلفة منذ عهد الإغريق.

فالآبدة تشتمل على شيء من المفاجأة يصدم السامع للوهلة الأولى كأنه مناقضة لكل رأي أو حكمة معهودة، ثم يسكن إليها آخر الأمر، فإذا هى حقُ لا غرابة فيه. وفي الآبدة شيءٌ من التورية والملاغزة كأنها تعرض على السامع أحجية للحل أو سؤالاً للامتحان وفيها لذع خفي أو ظاهر، فلن تخلو في أكثر صيغها من وخزة سحر أو غمزة تبكيت، وتتأخر فيها اللذعة إلى خاتمتها فتمر مأمونة سليمة إلى كلمتها الأخيرة ثم يلتفت السامع إلى اللذعة بعد انتهائها، ومن هنا سمّاها بعض أدباء اللاتين بالعقرب،لأن لذعتها مخبوءة في زباناها.

والرشاقة في تناول المعنى شرط من شروط الآبدة؛ لأنها لا تُقَالُ بلغة  التعليم والتعريف بل تُقَالُ بلغة الصوامع والمحاريب وأساليب التنجيم والتأويل؛ فلابد فيها من بعض الخفاء وبعض الرمز وبعض الإيحاء. وهى غير الخاطرة والوصية في قبول الزيادة والإسهاب؛ فإنّ الخاطرةتزداد وتستطيل، والوصية الواحدة تكتب في سطر وتكتب في صفحات. أما الآبدة فهى في صيغتها كالبنية العضوية التي تكمل بانتهائها، فلا تقبل المدُّ والإطالة كما لا تقبل البنية الحية زيادة عضو أو إطالة تركيب. ولم يكن هذا كله ملحوظاً في الآبدة عند نشأتها الأولى في بلاد الإغريق، ولكنها تطورت مع استخدام الأدباء لها والشعراء وأرباب الفنون ممّن عنوا بها في لغات الحضارة.

هل تدخل خرزات النظم النبوي في هذه الأوابد التي عرفتها الأمم القديمة أم تختلف عنها في التفصيل والإجمال؟ وإذا كانت الرشاقة شرطاً من شروط نظم الآبدة، وكانت تُقالُ بلغة الصوامع والمحاريب ولا تُقالُ بلغة البحث العلمي والتحديد المنهجي فهل كان أدب الخطاب النبوي يخلو من هذه الرشاقة؟ ومن ثمّ هل هو داخل في هذا الجنس أو يغايره بالكليّة ثم يثبت أمام الزمن مع اختلاف الأزمنة على تداول أجناس الكلام البليغ؟

من الصحيح أن الكلمات الموجزة التي عنى بها تاريخ الآداب أنواع كثيرة، ليست تدخل تحت عنوان واحد وإنْ تماثلت في الإيجاز، وقد تختلف في الأسلوب كما تختلف في الموضوع؛ فمنها المثل السائر، وهو خلاصة التجربة الاجتماعية بمقدار ما يكون في الغالب خلاصة التجربة الإنسانية في أمم كثيرة. ومنها الحكمة، وقد تشبه المثل السائر في موضوعها وصيغتها، ولكنها قد تصدر عن الآحاد كما تصدر عن الجماعات. ومنها جوامع الكلم؛ وهى أمثال أو حكم لا تخلو من نكت البلاغة ومحسنات التعبير. ومنها الأجوبة المسكتة، وهى كلام وجيز مفحمٌ في جواب سؤال مسيء أو محير أو مشتمل على مناجزة وإحراج. ومنها الوصية، وبينها وبين المثل السائر فرقُ الأمر والتكليف. ومنها الشعار، وهو عبارة يتخذها صاحبها دليلاً على خطته في الحياة العامة أو الخاصّة، وتكثر في السياسة والمعاملات. ومنها الخاطرة، وهى كالمفكرة لكاتبها أو لقارئها، وقد تتسع للإضافة والتفصيل. ومنها الشوارد والأوابد كما تقدّم.

ولكن مع هذا كله؛ تبقى النقطة الفارقة فيما بين هذا الكلام وأجناسه على اختلاف الدلالة فيه وبين أدب الخطاب النبوي، هى النقطة التي تقف بأدب النبوة عند العصمة التي لا ينطق صاحبها صلوات الله وسلامه عليه عن هوى في حين إنه من الميسور لصاحب الأوابد وأجناسها من زمرة الكلام البليغ أن تكون متعته صادرة عن لهو يشوبه هوى ولا يقصد به التوجيه والتعليم والإرشاد إلى الحقيقية الإلهية، وعن جمال يراه من المحدود المحسوس ولا يراه من أصله الإلهي ومصدره المُفارق، وأن قصد الوحدة في الخطاب النبوي مرهون بصدق العصمة لا النطق عن الهوى بوجه من الوجوه.     

خذ مثلاً على “خرزات النظم” قوله؛ صلى الله عليه وآله وسلم:” أعبد الله في الرضا؛ فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خيرٌ كثير”، فماذا تراك واجداً ؟ إنك لن تجد عبارة أنفع ولا أصدق ولا أعلم بمراد النفوس في مطالب العبودية ولا أكثر توجيهاً ولا أحكم لغة في روح الخطاب من هذه العبارة التي جمعت في موضوعها خير معاني الكلم وجوامعه كله.

وجوامع الكلم خاصَّة نبويَّة محمديّة فريدة : إصابة الحقيقة من أقرب موطن في أسرع لمحة جُوَّانيَّة تهز الشعور هزة إيمانية عنيفة تتفجر فيها نشوة المعرفة عند العارف بلغة الخطاب النبوي المؤمن بآدابه ومراميه؛ فلئن ظهرت جوامع الكلم عبر تاريخ الإبداع الأدبي يقصد بها المتعة الفنيّة ولا يقصد بها التغيير ضمن الكلمات الموجزة؛ فدّلت إذْ ذَاَكَ على الحكمة أو المثل الذي لا يخلو من نكت البلاغة مشفوعاً بمحسنات التعبير؛ فإن جوامع الكلم النبوي خاصّة محمديّة قصديّة خُلقت لتغيير الأنفس من حال إلى حال بمقدار ما وطنتها على التعلق بالله ورفض التعلق بسواه.

إنها للحظة من أعاجيب لحظات الإدراك العلوي والتنزلات المتسامية، لحظة مُتْرَعَةُ بالقيم العاملة النافعة؛ وإنه لإدراك عالي – لاشك فيه – على المدارك العادية، قد لا يتسنى لأحد أن يخلق على مثاله، أو يجري ناهجاً على منواله : الوعي هنا ليس فكرة نظرية صادرة عن كدِّ التفكير الذهني ولا تأملاً باطنياً لمعنى غائر دفين، بل فيه مدد علوي مبارك فياض بالتوجيه؛ إنْ في الصياغة البرانيِّة وإنْ في المعنى المبطون تحتها؛ الوعي إلهياً يتلاقي مع الإلهي, لكنه مع ذلك يشترك مع الإنساني في الفضيلة وفي الطريق، مقسومٌ بين هذا وذاك!

خصوصيةُ الكلام المجموع؛ لا يتأتى لغيره، ولا يُتَعَقد أن غيره يأتي به, والذي يَتَعَمَّقهُ على ديدن الصدق ودأب الإخلاص والتلقي يستطيع تمييزه عمَّن سواه. ففي هذه الخصوصية وحدها تلاقي التميز والتفرد وإعلاء القيمة الباقية في التوجّه وفي العمل على حد سواء ظاهراً غير خفي، وبمقتضاها تتكشف مستويات الكلام فيسهل على الناظر معرفته عن غيره ممّا عساه يندس فيه أو يختلط به ممّا سواه. فليس من جنسه جنس آخر, وليس من موطنه موطن سواه.

يُضاف إلى هذه الخصوصية خصوصية ثانية : وهو أنه معنى كله، مبطون الدلالة مع وضوحها؛ اللفظ فيه قليل وجيز مختصر بغير تطويل، والمعنى عميق وجامع وواسع وفياض. الكلام كله حقائق باطنة لا يمكن التحقق منها على المستوي النظري وكفى؛ فالمستوي النظري ليس إلا متعة فكرية تثلج صدر صاحبها وتسعده، ولكن “التحقق” هاهنا من شأنه أن يمسَّ الروح والحقيقة. وليس بالإمكان الوصول إلى ذلك السِّر الداخلي بغير “التجربة العملية”؛ الروحية، المستفادة من وقائع التطبيق، أعني التجربة الفوارة بمقاساة العمل الدائب المتواصل بمقتضي التطبيق لهذه المبادئ ولتلك الأصول التي تتيحها لغة الخطاب النبوي وتسفر عنها معطياته من طريق العبارة أو الإشارة.

العلاج من مرض الآفات النفسية، والتكامل بين النظر والعمل في فقه الخطاب النبوي دلالة مقصودة لذاتها وهادفة إلى صلاح النفس والواقع. فالعلم النظري وحده لا خير فيه ما لم يؤدْ بصاحبه إلى غاية عمليّة أو يقوده من حيث بلوغ هذه الغاية إلى التحقق فيها : إصلاح في النفس والواقع، وفي حياة الفرد والمجموع على التعميم.

ويهمني قبل أن أغادر هذه الخاصيّة إلى سواها، أن أنوّه إلى مدى استفادة علوم التذكية من هذه الخصوصية النبويَّة في تأسيس علم الإشارة على هذه الخاصة النبوية : قصر العبارة واستنباط الإشارة منها، واختصار اللفظ مع رقي المعنى وعمقه سواء كان ذلك في شذرات الطبقات الأولى، أو كان لدى المتأخرين. يظهر هذا كله في إشاراتهم الرمزية وشذراتهم المبطونة ببواطن العبارة العارفة والملآنة بحيوية الروح الإنساني والمترعة بتسامي الإدراك الذوقي, فللقوم مدد من “ميراث النبوة” لا يخطئه كل متحقق في هذه الخصوصية من طريق التذوق لعباراتهم المعرفية وإشاراتهم الذوقيّة.

وخاصية ثالثة في هذا الحديث : إخفاء الغاية “الخير الكثير”. كان يمكن أن يحدِّد هذا الخير الكثير في كذا وكذا أو أن يقول لك ماذا عساه يكون ذلك الخير الكثير؟ لكنه لم يفعل. غير أنه أخفى الغاية لتدركها أنت وحدك بعد التجربة، ففي التجربة بعد التطبيق غايات تدرك على حسب استعداد المدارك في المُدْرَك نفسه، لم يشأ أن يطلعك عليها من الوهلة الأولى، لكنه ترك فيك الاستعداد لتدرك؛ لكأنه يقول لك : جَرِّبها بنفسك وتذوق مقاصدها في الطريق؛ ففيك فيك الحقيقة وحدك، وفيك السرّ على التحقيق! وما هذا القول إلا توجّه فقط من جانب الخطاب النبوي لمَا أنت عليه في نفسك. والمدارُ هو أن تعمل لتصل : أن تتغير بالعمل وبالمجهود، ولن تصل إلى الحقيقة ولن تتكشف سرّها فيك بغير عمل يرقيك إلى منازل الوصول.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

2 thoughts on “(خَرَزَاتَ النظم) رؤية تذوقيّة في أدب الخطاب النبوي (2) د. مجدي إبراهيم”
  1. من الكلام على الآبدة إلى جوامع كلامه صلى الله عليه وسلم وخصائص كلامه تأصيل طيب وتوجيه عظبم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *