Share Button

تحت كلمة “ثقافة” تتعدَّد الوجهات المعرفية، بمقدار ما تتعدد تحت هذه الكلمة الفضفاضة عقائد المثقفين، حتى لكأنك لم تعد تدري : إلى أي معنى تصيبه كلمة “الثقافة” حين تطلق على علاتها كلمة فضفاضة واسعة بغير قيود ولا حدود على بعض خلق الله.

إنه لكثير جداً ما تروح فتجد بعضاً من أولئك المثقفين، أدعياء “العقل”، والمنطق، والتحليل، تغالبهم نفوسهم فيما يعتقدون ويرتأون ثم يزعمون؛ تغالبهم نفوسهم؛ إذْ تنتصر عليهم في اعتقاداتهم وفي تصوراتهم، وتغالبهم في مسالكهم وأحوالهم تماماً كما تغالبهم نفوسهم في قناعاتهم، فيكون مبعث هذه الغلبة غربة روحيّة ونفسية عنيفة، ونتيجتها (أي هذه الغلبة) دعوى عريضة لا يقوم عليها دليل!

وكل صاحب دعوى “غلبان”! تغالبه نفسه بدعواه، وتقهره تحت إلحاح الدعوى حتى ليمضي بها إلى درجة لم يكد يعرف فيها: ماذا عَسَاه يريد؟ وماذا عَسَاه يأخذ؟ وماذا عَسَاه يدع؟

إن دعواه العريضة لتحجُبه عن معرفة نفسه في مطالبها وحاجاتها بل في حقوقها وواجباتها؛ فلم يعد يدرك شيئاً من أوهامها، لكأنما الوهمُ كثيراً ما يأخذه بعيداً عن مداركه الواعية فيتصوَّر على الغفلة أن ما يعيه لهو الواقع المحقق فعلاً في كافة الحالات، غير أن الواقع الذي يعيشه، ناهيك عن واقع نفسه هو، بخلاف ما يدَّعيه.

ثمَّ إنه ليعترف بدعواه، وقد لا يبرئ نفسه مطلقاً من تهمة الدعوى، بل يماريها فيما ترى من مغبِّة الوقوع فيها صباح مساء. ربما كان صاحب الدعوى من المحقق، قصداً وفعلاً، يروم التغيير فيفر من واقعه إلى خيال يرتجي فيه محاولة التغيير، ولكن هذا الخيال لا يوجد إلا في نفسه، ولا يتصور إلا في أحلامه. بيد أنها أحلامُ منمقة وأوهامُ منظمة كأنها تمسُّ الواقع بصلة قريبة، يظل صاحبنا يكدح وراءها، إنشاءً وتعبيراً وطرحاً مقصوداً إلى أن يستفيق على الواقع الذي هو أشدُّ من الحجارة قسوة وصلابة.

ومن ها هنا؛ تأتي “المُغالبة”: نشدانُ التغيير من جهة، وقلة الاستجابة الواقعية من جهة ثانية، وحياة النفس على التوتُّر والرَّبْكة الجوانيِّة فيما عساه يقع بين الجهتين، ثم مقاومة كل ما يحيطه في حياته لكل ما يريده هو، بما فيه نفسه التي بين جنبيه.

ولو أنّ هذا المثقف كان وجه نظره إلى خاصة نفسه قبل كل شيء لهان الخطب وخف البلاء، ولهوَّن – من ثمَّ – من قدر مغالبته؛ لأن تركيزه على أخطاء نفسه سيضيق عليه مقدار “المغالبة” التي يُعاني، وحجم المصارعة التي يتصارعُ فيها الباطن مع الظاهر، والخفيِّ المستتر مع المكشوف البادي، ولكن “المثقف” صاحب الرأي يستمد رأيه في الغالب من خياله المريض ونفسه الملوثة ومزاعمه الدَّعيَّة ثم يطرحه على الناس طرحاً مبالغاً فيه ليأخذوا به أخذاً حرفياً، كما لو كان قراراً يسنَّه حاكم مستبد على رعية أجراء.

المثقف، صاحب الرأي؛ لا يرى إذ ذاك إلا نفسه فلا يقبل في باطنه نقداً لرأيه، ولا تفنيداً لدعواه لكأنما يستوحي مثل هذا الرأي استيحاءً من مناهل السماء. وحين يعزف عنه الناس يشعر بألم ما قبله وما بعده من ألم : يشعر بالغربة والتوهان، فيعتزل المجتمع؛ لأنه لا يرى سوى نفسه ولا يخاطب إلا أوهامه ولو أنه كان وجه نقده ابتداءً إلى حاله لعَرَفَ كيف يحتاج هو نفسه أكثر من غيره إلى إصلاح.

هذه أولى الأزمات النفسية – ولا أقول الروُحيِّة – التي تقابل بعض المثقفين وتطاردهم في حياتهم، فضلاً عن ملاحقتها لهم في حلِّهم وترحالهم: أعني الاغتراب عن الواقع مع قلة فهمه والإدِّعاء بإصلاحه؛ فلا هو – أي المثقف – أصلح واقعه ودنياه، ولا هو أنقطع لآخرته وعمل لها، وبين هاتين الغايتين يكون الاغتراب خاصَّة المثقف المخصوصة، ولم تكن غربته التي يستشعرها دوماً في غير انقطاع غربة من خارج بل هى غربة باطنة. إنها شعورٌ دائم لا يفارقه، وإحباط يلازمه نتيجة مرارة الغربة يحسها في أعماقه من غير أن يدري لها سبباً مباشراً معلوماً أو معقولاً.

ولم يكن “أبو حيان التوحيدي” الذي عاش مغترباً في القرن العاشر الميلادي، ببعيد عن تجسيد الملامح الشاهدة على “غربة المثقف” في عبارات مؤثرة وأخاذة، وذلك حين قال في كتابه (الإشارات الإلهية؛ من تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي؛ طبعة جامعة فؤاد الأول؛ القاهرة سنة 1950م) يصف حاله في عصره:” أما حالي فسيئة كيفما قلبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها؛ والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها”. هذه أول أزمة نفسية يعانيها المثقف ولا أقول الروحية. فهو بين أملين لا عمل لهما؛ وبالتالي لا ثمرة لها.

ثم يخفق قلبه ويصرخ ضميره فيقول في نفس المصدر “الإشارات الإلهية”: ” فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حُمُرُ أو نَعَمْ (أي أنعام)؟! إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟! إلى متى نَدَّعي الصدق، والكذبُ شعارنا ودثارنا؟! إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنَّا ظلُّها؟! إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟!”.

وبقليل من التأمل في نص التوحيدي؛ ندرك من أين يأتي الشعور بالاغتراب لدى المثقف، وقد بينه المؤلف حين وصف لنا حاله: التي لا هى إلى الدنيا تواتيه ليخوض فيها مع الخائضين، ولا هى إلى الآخرة تغلب عليه، فيكون لها من العاملين.

وبعبارة أخرى؛ لكأنه يقول: نحن في عبادتنا عَبَدة أصنام وأوثان؛ نعبدُ الصنم بعد الصنم، كأننا بلا ضمائر ولا قلوب، بل حُمُرُ وأنعام!

وتلك ثورة روحية باطنة في تصحيح العلاقة بين العبد والرب، ناهيك عن خلخة في نظام القيم، وازدواجية في المعايير الخُلقية : أن نقول بأفواهنا ما لا تحمله قلوبنا وندَّعي الصدق إدعاءً في حين يكون الكذب هو الشعار لنا وهو الدثار، ونستظل بظل الشجرة واهمين ونحن نعلم أن ظلها إلى زوال، ونبتلع السموم وفي الحق أن هلاكنا محققٌ فيها.

حقاً .. إلى متى نبتلع السموم ونحن نظنُ أن الشفاء فيها؟! أو إلى متى نقول بأفواهنا ما لا تكنه قلوبنا؟!

ألا يؤدي هذا حتماً إلى الشعور بالاغتراب لحدوث الهوّة السحيقة بين الاعتقاد والتطبيق، أو بين النظر والعمل؟!

أما الأزمة النفسية الأخرى – ولا أقول الروحيّة كذلك – التي يعانيها “المثقف”، والتي تقوده أيضاً إلى اغترابه عن الواقع، فهى تتمثل في إدعاء “العقل” والمنطق والبرهان، وإهمال القلب والشعور والوجدان؛ فالإفراط في النزعة العقلية الجافة وجعل الإنسان كله كتلة ماديّة صماء وركل الجانب الروحي فيه لهو شعور آخر بالاغتراب عن قيم العالم العلوي، وهذا الشعور في غاية القسوة والحيرة والضلال؛ لأنه شعور يمس مصدر الطمأنينة القلبية في الإنسان مسَّاً مباشراً.

وأني لأعني بالعقل هنا؛ العقل التجريبي، العقل الاستدلالي المنطقي، العقل المادي، لا العقل مطلق العقل؛ إن المثقف المزعوم الذي يَدَّعي العقل والمعقول، وهو لا يعرف كيف يدير نفسه، لا ينتظر من المجتمع أن يؤهله لأن يتقدّم إليه بخطة فكرية وثقافية ينصلح عليها شئونه وأحواله ومرافقه الحيوية.

ومَنْ فقدَ الشيءُ لا تتوقع منه أن يعطيه؛ فلا تستغرب – من ثمَّ – فشل النظم والتيارات الأرضية في إصلاح المملكة الإنسانية! واستغناء الناس بعد التجربة، لا قبلها، عن كل الأوهام الفكرية والأنظمة الأيديولوجية التي جاءت زاعمة – على مرض الخيال العاطل – أنها تقدِّم للمجتمع خطط إصلاح وميادين تعمير وتقدّم، ثم اعتبارها في المجمل ترفاً فكرياً وثقافة؛ مجرد ثقافة، ليس إلا.

هذا صحيح إلى حد ما؛ لأنه لا يمسّ حقيقة الإنسان ولا روحه ولا جوهره الباقي. نعم! قد يوفِّر له فيما لو طبق بعض شيء من الإصلاح المادي، لكنه مهما يكن لا يوفر له إصلاحاً روحياً ولا سعادة يخلص إليها ضميره من وطأة الثقالة والوخامة والإرث البغيض والميراث الغليظ.

مهما يكن من أمر النزوع المادي الذي تتبناه التجارب العلمية والمذاهب البرجماتية والذي هو نتيجة إيغال العقول في الدعوات المادية، ومهما يكن من أمر دعوتها الجافة بعيداً عن وعي الضمير الحر اليقظ؛ فهى لا تعطي الإنسان نوراً يمشـي به في الناس، بعد أن يكون قد عَرَفَ من خلاله نفسه وأضاء له الطريق الذي يسير عليه.

إنّ هذا النور لا يوجد في أنظمة الفكر وتيارات الثقافة النظرية؛ لأن هذه الأنظمة والتيارات قاصرة مهما بلغت من إدِّعاء الكمال عن تلبي في الإنسان نداء الروح ومطالب الضمير، ناقصة مهما طالبت المزيد من بلوغ التمام عن أن تعطي للإنسان “هداية النور” الذي يمشي به في الناس؛ لكونها لا تعبِّر عن الحقيقة المطلقة بل تعبر عن أهواء أصحابها، وفوق كونها كذلك، فهى لا تخاطب في الإنسان ضميره الحر الأبيِّ، بل تخاطب فيه عقله الجاف مفصولاً أو معزولاً عن شعوره، وتنسى غافلة قلبه وخوافيه.

وقلب الإنسان هو كيانه، هو كينونته، هو روحه الباطنة وراء الشحم منه واللحم، هو كل شيء فيه، وإنمَّا الأنظمة الفكرية والعقلية تريد فقط أن تشطر الإنسان وتفصله عن قلبه، وعن روحه، وعن وعيه بكينونته وجوهره، لتجعله كتلة مادية صماء يتحرك بذرِّ كما تتحرك في يده لُعْبَة الإنسان الآلي.

قد تفلح تلك الأنظمة في اختراع هذا الإنسان الدُّمْية، لكنها لن تفلح أبداً في اختراع الروح الإلهي الخالد أو في شجبها عن الإنسان بما هو إنسان.

والباحثون في تلك الأنظمة الفكرية والعقلية ممَّن جعلوا من عقولهم أصناماً يعبدونها من دون الله، وألغوا حقيقة الإنسان: قلبه وعقله، لم يفلحوا قط في غرس الطمأنينة في القلوب قدر ما غرسها “الإيمان”. ومما لابد له للعقل المروَّض على معرفة الحقائق الكبرى – كيما لا يُصَابُ الإنسان بالغربة عن أصله – أن يحيلَ إلى العقيدة الملهمة حين يحيل في الوقت نفسه إلى الإيمان.

ولأستاذنا الراحل “عباس العقاد” – طيَّب الله ثراه – رأي وجيه كان ذكره في مقال عن “ماكس نوردو؛ منشور بجريدة البلاغ في 29 يناير سنة 1923م, ثم جُمع ضمن ما جمع من مقالات في كتاب “مطالعات في الكتب والحياة” من طبعة دار المعارف؛ القاهرة سنة 1987م؛ نثبته هنا في هذه المسألة: مسألة إحالة العقل إلى الإيمان إذْ يقول:” وصفوة القول أن البحثَ خليقٌ أن يجدينا ويسعفنا في الحيز الذي ندركه ونحسن أن نتأمله ونتقصاه. أما إذْ نعبره ونوغل بالأمل خلف رتاجه، فهناك فلتسعفنا العقيدة والإلهام، ولنثق أن العقول لم تجعل لنا أداة للضلالة والفوضى والاختباط، فإذا هى أختلط عليها الأمر ورانت عليها الفوضى، ولم تأوْ بنا إلى ظل من طمأنينة العقيدة الملهمة، فليس الذنب ذنب العقيدة ولكنه بلا ريب ذنب العقول (ص31).

لا شك نجحت رسالة الأنبياء في حين أخفقت أنظمة الفكر والثقافة ولازالت تقدم للإنسانية ما يشغلها من إخفاقات وسخافات، تبعدها عن حقيقتها، وتدخلها في شواغل وأزمات تؤخرها عن نهضتها الروحيّة ووعيها الأمين.

بقلم : د. مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏نظارة‏‏‏

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *