Share Button
فلسفة الحب:
وعالمية الحب الصوفي عند فيلسوف سنجار:
د. غسان صالح عبدالله
تحرك في عمق الفؤاد ذلك الحب الساكن ونشط واندفع صعدا ورمى بمؤجته النارية كل جانب من جوانب حياتي ورد إلى تمام الشعور بأذكى ما في الحياة.
هل الحب فقط قضية شهوانية جسدية ملتهبة لها شكل مادي يظهر في العيون الرامية سهاما وفي خمر الرضاب وفي ارتجاف الأضلاع وفي ثني القدود فصار قضية جمال الحياة كلها واشتراك النفوس في هذا الجمال.؟
الحب الواعي يتجه دائما نحو المثال الاعلى ويرمي إلى الاقتراب في كل اختلاجات من اختلاجاتها ، وإن قضية كون الوصال غاية المطلب العليا النفسية والحب اتحاد فكر وشعور واشتراك نفوس في فهم الحياة وتحقيق مطالبها العليا.
هل الحب فقط خدودا ونهودا وقدودا وأفواها ملتصقة بأفواه وشررا محتدما في المقل وثغورا لاهبة تضطرم فيها شعلات القبل. ؟
لنرى الحب نفوسا جميلة في مطالب عليا عظيمة تحمل النفوس في سبيلها المشقات الهائلة التي يذللها اتحاد النفوس في وحدة الشعور والمطلب.
فالحب إذا قرب فما إلى فم سكب نفسا في نفس وكل واحدة تقول للأخرى إني معك ومن اجل ما تأبه نفسانا ألاه ، ولا تستعظمان أمرا ولا تضحية يكون بهما بلوغه والاحتفاظ به.
الحب يفسره الأدباء والشعراء الملتزمون : هو نزعة بيولوجية من ميول وأشواق جسدية ولا غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيولوجي سلما لبلوغ ذروة مثالها الأعلى حيث تنعتق النفس من قيود حاجة بقاء النوع ولذائذ أغراضه،. ويشاد بناء نفسي شامخ لحياة اجود، وحيث يصير مطلب السعادة الإنسانية الكبرى فيكون الحب اتحاد النفوس المصممة على الوقوف معا والسقوط معا من اجل تحقيق المطلب الأعلى في جهاد النفس ضد الفساد و الرزائل ،ولنصرة الحق الكلي، والعدل الكلي والجمال الكلي، والحب الكلي. ولا يكون اعتناق الأجساد….
{ عالَميّة الحبّ عند فيلسوف سنجار }
أنا ملآنٌ بحبّي فارغٌ من كلِّ كَربِ
مَن له عينٌ كعيني من له قلبٌ كقلبي؟
و كلُبّي إذ لداعي الشوق مازال يُلبّي
و لِذا أضحى بديهيّاً لفكري كلُّ كسبِ
غالباً ما يكون الحبُّ ناقصاً عند الناس .
ونَقصُه يعني انصرافه إلى جهة دون باقي الجهات .
وهذا الحب الناقص هو المعنيُّ بالحديث النبوي ( حبُّك الشيءَ يُعمي و يُصِمّ)
وهو الهوى المُردي الذي يحجب المعرفة الصحيحة عن مُتَّبِعيه.
و حتى نتخلص من العمى والصمم لا بدَّ من أن نُكمِلَ الحبَّ . و كمالُ الحب هو الامتلاء الذي يعنيه المكزون السنجاري بقوله ( أنا ملآن بحبّي)
عندما نمتلئ بالحب لا يعود ثمة عمىً ولا صَمَمٌ وبالتالي تتّضح الأشياءُ أمامَنا وتكتمل معرفتُنا لها.
وهذا غايةُ مايُطلَب عند أهل العلم والحق والحب.
محبة المكزون التي جلّاها لنا ليست انشغافاً تقليدياً بمحبوب . إنها معرفةُ واعيةٌ عميقةٌ راسخةٌ تحتوي مظاهرَ جمالِ الحبيب الأول والأخير و الأوحد.
ولمّا كانت مظاهرُ جمال هذا الحبيب عالميّةً كان طبيعياً أن تكون المحبةُ المكزونيةُ عالميةً نظيرَها .
يقول المكزون :
للحقّ في كل وجهٍ للخلق وجهٌ مُنيرُ
خافٍ على كلّ أعمى منه يراه البصيرُ
هنا تتجلّى عالميّةُ الحبّ عند المكزون .
فعندما يكون للحق وجهٌ منيرٌ في كل وجه للخلق يجب أن يكون الحبُّ بصراً وبصيرةً في الرؤية والرؤيا.و العمى أن يفوت الإنسانَ هذا الحبُّ الكاشفُ.
لذلك يقول أيضاً :
وسِرُّكمُ في الكلّ سارٍ وإنما
على كلّ قلبٍ ضَلَّ عن فَهمِه قَفلُ
في شعر المكزون تنسجم الثقافاتُ وتنتظم الفلسفاتُ وتندمج المِلَلُ وكأنها نجومٌ وكواكبُ يجمعُها فَلَكٌ دائرٌ بها بأحسن ما يكون الانسجام والانتظام .
ومن شعره في ذلك :
واحدةُ الحُسنِ التي أمسيتُ مِن
وجدي بها بين البرايا أوحدا
و صرتُ فيها أمّةً يأتمُّ بي
كلُّ مُحبٍّ راحَ فيها و غَدا
صبا إليَّ الصابئون إذ رأوا
طرفي لنجم الحب فيها رصَدا
واتّخَذَ المجوسُ قلبي قِبلةً
لما رأوا للنار فيها موقدا
ولم أزل مُتسِّعاً مُسبِّعاً
مُخمِّساً مُثلِّثاً مُوحِّدا
إلى أن يقول :
فلا أرى في الكون شخصاً واحداً
يهوى هوى إلا و بي فيه اقتدى
مايميِّزُ المكزونَ السنجاري أنه المُوفَّق الذي جمعَ بين العبقريّةِ الروحية والعبقرية الفِكريّة في آنٍ معاً
ولو نظَرَ أربابُ العلم في شعره لَاستخلصوا نظرياتٍ متكاملةً حولَ كثيرٍ من المفاهيم الروحية الصوفية والفلسفية المعرفية . وأضرب مثلاً واحداً وهو ما يمكن لنا أن نُسمِّيَه [نظرية الصفاء عند المكزون] وقد اختصَرَها في بيتين من الشعر لو شئنا شرحَهما لجاء الشرحُ كتابا مستقلّاً . يقول :
صفا جسدي حتى بدا منه قلبُه
و شَفَّ إلى أن بان مافيه من سِرِّ
فغيَّبَ سِرّ القلب قلبي وقالَبي
كما غابَ لونُ الماءِ والكأسِ في الخمرِ
ونظرية الصفاء هذه هي من أعمق تجليات الحب عند المكزون .
إن المكزون هو صاحبُ الدّعوة الجامعة التي لايُخرِج منها حتى الكافر بالمعنى التقليدي
لأن دعوتَه توكّأَت على الرحمة الإلهية المتجلية في النُّبُوَّة الخاتميّة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
يقول المكزون :
أوّلُ وجدي ما له آخِرُ
وباطني بين الورى ظاهرُ
وشِرعتي في الحب مبذولةٌ
يَؤمُّها الواردُ والصادرُ
ودعوتي جامعةٌ للورى
يدعو بها المؤمنُ والكافرُ
المكزون وصلَ أخيراً إلى رتبة الفناء الصوفيّ في المحبة . ذلك الفناء الذي خفِيَ به عن الأوهام
وصار مثالاً لصورة الحق التي كانت ناطقةً به .
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *