Share Button
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء السابع مع الأشتر النخعى، وهو مالك بن الحارث النخعي، وقد توقفنا عندما قال الأشتر يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحا يا أصحاب النيب الجلالة، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون، ويغلظ لهم قولا، فتثور ثائرتهم للاذع القول، وكأنه طعن المُدي، فيسبّونه، ويضرب وجوه دوابهم ويضربون وجه دابته، ويتملئ صدر الإمام على رضى الله عنه، غما وهما وهو يشهد رجاله ينقلبون عليه يتمردون، ويشفق من فتنة تثور في عسكره، فتأتي على البقية الباقية منه، وإنه لا يدري ماذا يفعل، وقد أوقع في يده، فاعتراه حزن ثقيل مظلم، فلا رأي لمن لا يطاع، وكالبركان انفجر في وجوههم، وهو يتميز غيظا وحنقا كفوا، فكفوا، ويتم التحكيم، وإن الحُكم إلا لله، ويختار أهل الشام عمرو بن العاص ممثلا لهم ويكون الإلحاح على الإمام على رضى الله عنه، على القبول بأبي موسى الأشعري حكما من طرفه، وتكتب بذلك صحيفة، تهافتوا على التوقيع عليها.
وعندما دُعي مالك الأشتر للتوقيع عليها، شاهدا، قال لا صحبتني يميني، ولا نفعتني شمالي، إن خُط لي في هذه الصحيفة اسم على صلح وموادعة، أو لست على بينة من ضلال عدوي؟ أو لستم قد رأيتم الظفر؟ ويبتسم الإمام على رضى الله عنه، ابتسامة إعجاب واعتزاز لقول يصدر عن رجل لا كالرجال العاديين وكان بعد ذلك من أمر التحكيم ما كان، ويعود كل إلى بلده ويردّ الإمام على رضى الله عنه، الأشتر عاملا له على الجزيرة أي حاكما على منطقة الجزيرة في الشام، وبلغ الأشتر أن الضحاك بن قيس، وكان أميرا على جيش معاوية في صفين، سار يريد حرّان، فأقبل الأشتر إليه، ونازله مع جنوده في مرج مرينا، وهو مكان بين حرّان والرقة، وانهزم الضحاك وأصحابه، فالنصر تحت راية الأشتر حيثما كان، وطارد الأشتر الضحاك ومن معه، فحاصرهم في حرّان، وناداهم ألا تنزلون أيها الثعالب الروّاغة الجحر، والجُحر هو ثقب في الأرض تأوي إليه الحشرات والحيات يا معاشر الضباب، وهو جمع ضب وهى دويبة صحراوية ماكرة، ومضى.
فمرّ بالرقة فتحصنوا فيها ثم تابع طريقة إلى قرقيسيا فتحصنوا، فالأشتر، بالنسبة إليهم، سيف من سيوف الله مسلول، لا يقوم أمامه شيء، وينصرف الأشتر بجنوده، وإذا بكتاب من الإمام على رضى الله عنه، يقول له فيه ” إنك ممن أستظهر به على أقامة الدين، وأقمع به نخوة الإثم، وأسد به ثغر المخوف، فأقدم عليَّ لننظر في ما ينبغي ” ويتساءل الأشتر ما الأمر ؟ فيقال له إن أهل مصر قد انتفضوا على محمد بن أبي بكر الذي ولاه الإمام على رضى الله عنه، عليهم، فقُتل وليس لهذه المهمة في مصر غيرك، ويسرع الأشتر، ممتثلا أمر الإمام على رضى الله عنه، فإنه سيفه في شديد الملمات وعند الخطوب الصعاب، ويأمر الإمام على رضى الله عنه، الأشتر بالتوجه إلى مصر، واليا على أهلها من قبله، ويحمّله إليهم منه كتابا فيقول الإمام على رضى الله عنه، فيه” إني قد بعثت عليكم عبدا من عباد الله، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل، أي لا يتراجع عن الأعداء حذر الدوائر، من أشد عباد الله بأسا وأكرمهم حسبا، أضر على الفجّار، من حريق النار.
وأبعد الناس من دنس وعار، وهو مالك بن الحارث الاشتر، فاسمعوا له وأطيعوا أمره في ما طابق الحق، فإنه سيف من سيوف الله ” فكانت هى شهادة له من أميرالمؤمنين الإمام على رضى الله عنه، في الأشتر، يلحق مجدها وفخرها وشرفها، النخعيين، وبني مذحج حتى قيام الساعة ويعهد أميرالمؤمنين الإمام على رضى الله عنه، إلى الأشتر عهدا، يحفل به نهج البلاغة، وكتب السير والمغازي، فلا يدع شاردة ولا واردة يستقيم بهما الحُكم، ويحتاجهما الحاكم، إلا ويأتي على ذكرهما، ويجد حكام الدنيا في عهد الإمام على رضى الله عنه، للأشتر برنامج عمل، ودستور حكم ليس لهما من نظير، ويوجس معاوية خيفة من الأشتر المتوجه إلى مصر، وكان معاوية بها طامعا، فبعث إلى رجل من أهل الخراج، يثق به، قائلا إن الأشتر قد وُلي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيتُ وبقيت، فاحتل بما قدرت عليه، فلما قدم الأشتر القلزم وهى مدينه أطلالها اليوم قرب مدينة السويس، أتاه الذي دسّه إليه معاوية قائلاً له أيها الأمير، هذا منزل فيه طعام وعلف.
وإني رجل من أهل الخراج، فنزل به الأشتر، وقدّم للأشتر الطعام فتناول منه، ثم قدّمت له شربةٌ من عسل مسموم، فلما شربها، استشهد رضى الله عنه، لساعته، وعندما علم معاوية بن أبى سفيان بموت الأشتر قام في الناس خطيبا، فقال أما بعد فإنه كان لعلي بن أبي طالب يمينان قطعت إحداهما يوم صفين وهو يقصد الصحابى الجليل عمار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم ويقصد مالك الأشتر، وقال في مناسبة ثانية حول هذا الأمر أيضا، إن لله جنودا من عسل، وهى كنايةً عن مكره بدس السم في العسل، غدرا بالمؤمنين، فذهبت مثلا، ولما بلغ الإمام على رضى الله عنه، شهادته، قال وبصوته غصة التياع ورنة حزن عميق ” إنا لله، وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك، فإن موته من مصائب الدهر، رحم الله مالكا، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله، ويدخل بعض أصحابه معزّين في الخطب الجلل، فيجدونه وقد استبدَّت به لوعة ولهفة مذهلتان، وهو يقول لله درّ مالك، وما مالك، لو كان جبلا لكان فندا، أي بمعنى جبلا عظيما، ولو كان صخرا لكان صلدا، على مثل مالك فلتبكى البواكي، وهل موجود كمالِك ؟ لقد استكمل أيامه، ولاقى حمامه، ونحن عنه راضون، فرضي الله عنه.
وضاعف له الثواب، وأحسن له المآب فيقول الحاضرون، وفي عين كل منهم تترقرق دمعة حرّى، آمين” وهكذا كانت الرجال فهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وإن مقياس الرجولة فى صدق الإنسان ما عاهد عليه ربه سبحانه، وهؤلاء صفوة من القلة الذين مليء بالإيمان أرواحهم حتى بدت الرجولة فى أفعالهم فتستطع معادنهم إذا استحكمت الأزمات، وتشابكت خيوطها، وتوالت الضوائق وطال ليلها، ولذا لا يثبت الإنسان فى ديوان المؤمنين من الرجال إلا إذا ظل صامدا وصادقا فى عهده مع ربه وخالقه، وآية ذلك صمود الذات أمام ما سطره القدر عليها فى صحائفه من صنوف الابتلاء وأنواع الملمات، وإن الإيمان الصادق فى حقيقته صلة بين الإنسان وربه لا يكشف عن قوته ونفاسة معدنه، إلا خضوع الإنسان لسنة الابتلاء الذى يمحص الذوات كاشفا عن طيبها أو زيفها، وما صنع الأبطال والعظماء إلا بانصهارهم فى ضوائق المحن والشدائد وخوض غمار العثرات والصعاب، ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء على مقدار ما أوتوا من مواهب وملكات، وما أدوا فى حياتهم من أعمال زلزلت لهولها الجبال بيد أنه ثبت أمام روعها الرجال، ليقين رسخ فى نفوسهم أن لعظماء الرجال فى الحياة مواقف، فصنعوا لأنفسهم مواقفا ينحنى لها عظماء الرجال.
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *