Share Button

إعداد / محمـــد الدكـــــرورى

ونكمل الحديث فى الجزء السابع عن الخليفه عبد الرحمن الداخل وهو صقر قريش، وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، ونكمل مع شارلمان عندما تحالف ولديه عيشون ومطروح مع البشكنس الذين هاجم شارلمان مدينتهم بنبلونة، أثناء نفس الحملة ودمرها، وأعدوا كمينًا سحقوا فيه مؤخرة جيش شارلمان المنسحب من الأندلس عبر جبال البرانس في معركة باب الشرزي، وتمكنوا من تحرير سليمان الأعرابي. إلا أن الحسين بن يحيى الأنصاري زعيم سرقسطة وحليفه القديم في الثورة على عبد الرحمن الداخل، ترصد للأعرابي وقتله بعد ذلك بفترة قصيرة، وفي عام مائه وأربعه وستين من الهجره، ثار عليه الماحس بن عبد العزيز الكناني والي الجزيرة.

فسار إليه عبد الرحمن بنفسه، فلما اقترب جيش عبد الرحمن، آثر الماحس الهرب، ففر بأهله عبر البحر ولجأ إلى أبي جعفر المنصور، وفي عام مائه وثمانيه وستين من الهجره، وقد بلغ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك ائتمار ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية وهذيل بن الصميل بن حاتم به ليخلعوه، فأمر بهم فاعتقلوا، ثم قتلهما، وسخط بسبب ذلك على أخيه الوليد بن معاوية فنفاه هو وبنيه إلى المغرب، ثم ثار عليه أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري عام مائه وتسعه وستين من الهجره، في قسطلونة، فخرج إليه الداخل وقاتله وهزمه، وقتل أربعة آلاف من أصحاب أبي الأسود الذي فر يومئذ، وفي عام مائه سبعين من الهجره، قد خرج الداخل لإخماد ثورة بربر نفزة، وهي آخر غزواته.

ثم ثار سليمان الأعرابي حاكم برشلونة ومعه الحسين بن يحيى الأنصاري زعيم سرقسطة على الداخل، فأرسل جيشًا بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي، فهزموا جيش الداخل وأسروا ثعلبة، وأرسلوا إلى شارلمان ملك الفرنجة المعروف في المراجع العربية باسم قارلة، يدعوه للتحالف معهم، فعبر بجيشه جبال البرانس، وأغار على البشكنس في بنبلونة، ثم أنه طمع في سرقسطة، فسار إليها، فاستقبله الأعرابي، إلا أن الحسين بن يحيى وأهل المدينة أبَوّ إلا أن يقاوموه، ولم يسلموا له، وقد حاصر شارلمان المدينة، لكنه لم يقدر على فتحها، فرجع إلى بلده وأخذ الأعرابي معه أسيرًا لأنه ورّطه في ذلك الأمر، وفي طريق عودته، دبر ابنا سليمان وحلفاؤهم من البشكنس كمينًا دمروا به مؤخرة جيش شارلمان.

وكان ذلك في معركة باب الشرزي، واستطاعوا تحرير الأعرابي والفرار به، إلا أن الحسين بن يحيى ما لبث أن ترصد للأعرابي وقتله بعد ذلك بفترة قصيرة، ثم سار الداخل بجيشه إلى سرقسطة عام مائه وخمسه وستين من الهجره، فحاصرها وشدد عليها الحصار، فضاق أهلها من الحصار، ففاوض الحسين بن يحيى، وهو يومئذ قائدهم، عبد الرحمن الداخل فك الحصار وأن يأخذ ابنه سعيد رهنًا، فقبل الداخل، إلا أن سعيد هرب بعد يوم واحد فقط، فعاد الحسين إلى الثورة، فحاصره جيش الداخل مجددًا، إلى أن ملّ أهل سرقسطة الحصار، وسلموا الحسين إلى الداخل فقتله، وقفل راجعًا إلى قرطبة، وتوفي عبد الرحمن الداخل في الرابع والعشرين ربيع الآخر عام مائه واثنين وسبعين من الهجره.

وقد ترك من الولد أحد عشر ولدًا منهم سليمان وهو أكبر ولده، وهشام والمنذر ويحيى وسعيد وعبد الله وكليب، ومن البنات تسع، وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله، وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده، رغم أن أخاه سليمان كان أسن منه، وكانت هذه نهايه عبد الرحمن الداخل، والذى وصفه ابن زيدون فقال كان أصهب، خفيف العارضين، بوجهه خال، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتين، أعور، أخشم، وقال عنه ابن حيان القرطبي، أنه كان كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمعة والأعياد، ويخطب بنفسه، وقد نقش خاتمه، عبد الرحمن بقضاء الله راض.

وقيل أنه نقش خاتمه بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم، وقد عرف بلقب صقر قريش، وذلك أنه جلس أبو جعفر المنصور يوما في أصحابه، فسألهم أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء، قال: ما صنعتم شيئًا، قالوا: فمعاوية، قال: ولا هذا، قالوا: فعبد الملك بن مروان، قال: لا، قالوا: فمن يا أمير المؤمنين، قال: عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف، يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا، فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه، إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه، وعبد الملك ببيعة تقدمت له.

وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفردًا بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحبًا عزمه، وكان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، فتمكن بحملاته المتوالية على المتمردين على سلطته سواء من العرب أو البربر، التي استخدم فيها كل الوسائل المتاحة لإقرار الأمر في يده، بما في ذلك سلاح الاغتيال وإزهاق الأرواح دون تردد، مكرسًا بذلك مفهوم المكيافيلية بكل معانيه فغيّر بذلك فكرة الاندفاع وراء العصبية والقبلية التي كانت سائدة في ذاك الوقت، إلى الخضوع والانقياد للسلطة الحاكمة في قرطبة، إلا أنه رغم تلك الطباع القاسية، كان يقعد للعامة ويستمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم، وكان من عاداته.

أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه، وكما كان لين الجانب مع النصارى، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، فجعل لهم رئيسًا يسمى القُمص، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور، وقد انتصر عبد الرحمن الداخل على العباسيين، وقد وقف لهم وحاربهم وانتصر عليهم وهزمهم شر هزيمة وعرفوا بقوته وأنهم أمام قوة لايمكن الوقوف في وجهها، فلقبه العباسيون بعد ان انتصر عليهم بـصقر قريش وهو اللقب الذي اشتهر به بعد ذلك، وقد استمرت مدة حكمة ثلاثه وثلاثين سنة في الأندلس، وقد اهتم فيها بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا، وكما اهتم عبد الرحمن الداخل بإنشاء جيش قوي.

ومنذ قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وهو يعمل على تقوية وزيادة جيشه، وقد وصل تعداد الجيش الاموي في عهده إلى مائة ألف فارس غير الرجّالة والمشاه والجنود ونظم الجيش أحسن تنظيم، وكما أنشأ دُورًا للأسلحة، فأنشأ مصانع السيوف الذي نقل صناعتها من دمشق ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طليطلة ومصانع برديل، وكما أنشأ أيضًا أسطولًا بحريًا قويًا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء كان منها ميناء طرطوشة وألمرية وإشبيلية وبرشلونة وغيرها من الموانئ، وقد كان يقسّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامة من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع والعلم وإحياء للثقافة والفن وغير ذلك.

والقسم الثالث كان يدّخره لنوائب الزمان غير المتوقعة، وكما أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما، فعمل على نشر العلم وتوقير العلماء والمفكريين والفقهاء، وقد اهتم بالقضاء وبالحسبة، واهتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان عادلا، من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قرطبة الكبير، والمدارس والمكتبات ودور القضاء ومجالس العلماء وغيرها، وكان أيضا اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر والمباني والمساجد وأماكن العلم والمصانع، وربطه كافة أنحاء بلاد الأندلس ببعضها، وكذلك إنشائه أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس، وإنشائه الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام.

وقد أنشأها على غرار الرصافة التي كانت بالشام بالقرب من الفرات في سوريا، والتي أسسها جده هشام بن عبد الملك وكانت مصيفا ومنتجعا له ، وقد أتى عبدالرحمن لها يالبنائين وبالنباتات العجيبة من الشام ومن كل بلاد العالم، وكما أسس أسطولا بحريا كبيرا ونشأ وجهز الموانيء في الأندلس الاموية، وقد جعل من الأندلس ومدنها منارة للحضارة لتصبح قرطبة وإشبيلية وغيرها من أهم المدن الاسلامية الأموية في عهده، فلقد كانت حياة القائد عبد الرحمن الداخل وقفا على الجهاد، وعلى إقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بنيانها وإرساء دعائمها ورد الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها صقر قريش في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرة في تنظيم الجيوش.

وعقد الرايات، وتوجيه القوات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أسس البنيان الحضاري، وها هو القائد عبد الرحمن الداخل، يدخل عليه أحد الجنود ذات يوم كان قد انتصر فيه على النصارى، فتحدّث معه الجندي بأسلوب فيه رفع صوت وإساءة أدب، فما كان منه، إلا أن أخذ يعلمه خطأه ويقول له: يا هذا، إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه، فعليك بالسكينة والوقار، فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر فأغضب عليك، فإذا بالجندي وقد وعى أمره يرد عليه ردا لبيبًا ويقول له: أيها الأمير، عسى الله أن يجعل عند كل زلة لي نصرا لك فتغفر لي زلاتي، وهنا علم عبد الحمن أن هذا ليس اعتذار جاهل، فأزاح الضغينة من قلبه، وقرّبه إليه، ورفع من شأنه.

ومع المدة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله، فلم يؤثر عنه أي خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحسن الخلق، مما يدل على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاق الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلا في مواقف الشدة، وحياة عبد الرحمن كلها شدة وحروب وثورات، مما يظهر أخلاقه بوضوح أمام أي باحث في التاريخ، ويحدد ما إذا كانت حسنة أو سيئة، وقد عاش الخليفه القائد عبد الرحمن الداخل تسعة وخمسين سنة، منها تسعة عشر سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وست سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربعه وثلاثين عامًا في الملك ببلاد الأندلس، وتوفي بقرطبة ودفن بها.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *