Share Button

كتابٌ من حروف الله

بقلم د. مجدي إبراهيم

حروف لمعاني : الكفاية، الهداية، الإيواء، العلم، الصدق، خمسة فصول لكتاب من حروف الله، هى من جملة أسرار الحروف المعجزة في القرآن الكريم.
ولكن قبل البدء في عرض المقصد من هذا الموضوع، وددتُ لو أني مهدت له تمهيداً على سبيل التقديم لأقول، كنت مشغولاً منذ فترة طويلة بالبحث في لغة الخطاب الصوفي، يومها كتبت موضوعاً بعنوان (ميتَافِيزيقا اللَّفظ المَفتوح .. قراءةٌ في لُّغَة الخطابِ الصَّوفِي)، كان بحثاً تدور فكرته الأساسية حول ألفاظ اللغة : شاعريَّتُها ومجازُها، تمهيداً لقراءة لغة الخطاب الصوفي التي هى بالأساس لغة مجازية تحصل من خلال التجربة، وتُسْتَفَادُ من التجربة، وتمتلئ بالمعاني المترعة التي تعطيها التجربة، ويسفر عنها من ثمَّ مَذَاق العارفين؛ حتى إذا ما توصَّلنا إلى معطيات العبارة الصوفية كون لغتها مفتوحة غير مغلقة ولا هى بالسطحية، استطعنا أن نضع لغة الإشارة التَّصوِّفيَّة (لغة المعنى الصرف، ولغة التجربة المحضة) في مواجهة فلاسفة التحليل ممَّن دانوا بالوضعية المنطقية (logical positivisms) حين أرادوا تقييد المعنى بدلالته الحسيّة الواقعية وكفى، ومن ثمَّ رفض الميتافيزيقا إذْ دلّت هنا على معنى غائب غير مرئي.
ولم يكن الهدف من وراء تلك الدراسة يجيء، بعد اختيار منهجية المقارنة والنقد والتحليل كمُعالجة للموضوع؛ سوى رفض مقولاتهم، وقبول مقولات التصوف في إصابة المعنى في غير ما تقع عليه الضلالات الحسية؛ بسبب أن الإدراك الذوقي الرُّوحاني في التصوف خَاصَّة من شأنه أن يُحَوِّل معطيات الحسّ إلى رموز وإشارات بمقدار ما يُحَوِّل أحداث التاريخ إلى قصص رمزية، وهو ما كان يفعله الصوفي الفيلسوف ابن عربي (ت ٦٣٨هـ)، تحديداً كما كان يشير “كوربان” في كتابه “الخيال الخلاق عند ابن عربي”؛ فهنالك فرقُ كبير بين انعدام المعنى بالمطلق أو قصوره على المعطيات الحسية وصعوبة تعريف المعنى، فليس الحسّ هو المعنى تماماً كما أن الجسد ليس هو الروح.
ولتحقيق هذا الهدف يومها قدَّمنا بما نقصده من الدلالة الميتافيزيقية للألفاظ، وآثرنا أن نُوَسِّع من انعكاس الكلمة لصورة الثقافة العربيّة بمقدار ما تعكس ماضيها وتحيله حاضراً في عقيدة الإنسان العربي وتجربته الأصليّة؛ أعني تجربة الحضور السرمدي واكتشاف ما في اللحظة ذات الأبعاد الثلاثة : الماضي، والحاضر، والمستقبل.
ثم تعمقنا في مجاز اللغة من حيث كونه يدل بالمباشرة لا على شاعرية اللغة العربية من حيث تشكلها الوجداني وحساسيتها المفرطة فحسب؛ بل على لغة الخطاب الصوفي بالأساس من جهة بلاغة تأصلها في منطق الشعور وحضور مسارها في البنية الحية للذوق العرفاني، فكان أقرب ما يفيدنا في بيان الدلالة المجازيّة في اللغة هو ما قام به المتصوفة من جهود في التفسير الإشاري للقرآن الكريم كون لغة الخطاب هاهنا في حضورها وتوجّهها، رمزية ومفتوحة، يتبيَّن فيها أن المعنى غائر دفين في أعماق التجربة، وأنه مستكن مُرجئ في ذوق التحقيق ليس يكشف عنه إلا لمن تولّاه بالعناية ومارسه كشفاً بذوق التحقيق ليس إلّا؛ وإنه بالحقيقةً، كما قال النفري، كلما اتسعت الرُّؤية الشهودية ضاقت العبارة اللفظية.
بيد أن هنالك مضامين فكرية فلسفية لبعض الألفاظ المستعملة على حسب ما قال الفارابي في كتاب “الحروف”، إنه يوجد من الألفاظ ما يستعمله أهل صناعة على معنى ما، ويستعمله أهل صناعة أخرى على معنى مختلف.
كان باعثنا إلى هذه الدارسة إذ ذاك موجزاً في نقطتين : النقطة الأولى : هى مدى ما لاحظناه من انحطاط اللغة في العصر الراهن وضعف مستوى التفكير والتعبير، إهمالاً للذوق السليم وافتقاراً للتربية الشعورية والوجدانية، تعكس فقر الفكر بوجه عام، والفكر الديني بامتياز، حين تسيطر عليها لغة الظاهر المشحونة بالأعراف والمصطلحات، يستبدُ فيها بالمُتلقي مثل ذلك الجري اللاهث الكسيح وراء الاصطلاحات المقيدة بمقولاتها العقلية في عزلة غريبة عن الشعور بالكلمة والإحساس برقابة آثرها في الأعماق الباطنة، وعزلها بالجملة عن تجربة السامع والقارئ والكاتب سواء.
أمّا النقطة الثانية؛ فهى نتيجة للأولى مباشرةً تَلْزَم عنها ضرورة، فتجيء لتلاحظ معها شيوع “لغة التمزق” وانتشارها على جميع المستويات الثقافية والمعرفية؛ لتكون هى هى اللغة السائدة : التمزق النفسي والاجتماعي والأخلاقي والقِيَمي والفكري؛ هذا فضلاً عن التمزق السياسي الذي يشهده عالمنا العربي في الآونة الأخيرة؛ إذْ كشفت “لغة التمزق” عن توحش ينطوي على العُنف الدامي والإرهاب الكريه تجليةً من الوهلة الأولى؛ لشلل الحيوية الروحيّة والمعرفيّة والخلقيّة.
فإذا كان من المؤكد أن عناصر اللُّغة لا تقوم ناهضة فاعلة إلاّ على الوجدان والعاطفة، والفكر والرأي، والبيئة والمجتمع، والمدلولات والدَّوال؛ وأن التفكير كما كان أفلاطون يقول إنْ هو إلا كلامٌ نفسي، فمن المؤكد كذلك إنَّ الإبداع الفكري والأدبي يستند في الأساس على قوة الشعور وَدَفْقَةِ الوجدان، وأن السلام النفسي لمجتمعاتنا العربية المعاصرة لا يتحقق أبداً بلغة العنف والإرهاب، ولا بلغة التمزق والتشنج والتشتت والافتراق.
ومن هاهنا، تأتي أهمية هذه الدارسة، كما تصورناها يومذاك، في إطار فهم اللغة الصوفية خَاصَّة، وفهم معطياتها في استنباط الإشارة من العبارة عَسَانا نَقْتَرِب؛ من الوجهة الإدراكية الذوقية تحديداً، من كيفية فتح اللفظ اعتماداً على قوة الشعور فيما يتصل بأذواق أهل الإشارات، إذْ كانت هذه الأذواق مُعينة لهم على فهم تلقي المعنى بمطلق الإشارة واستخراج معانٍ ودلالات للألفاظ والاصطلاحات الصوفية من طريق الإشارة المرموزة؛ استخراجها بمعنى مختلف تماماً وفق قانون التأويل عَمَّا توحي به ظاهر الدلالة المباشرة للَّفظ، وأظهرها وأخَصَّها، كما قلنا فيما تقدّم؛ هو التفسير الإشاري للقرآن الكريم يقوم على ركيزتين أساسيتين : “الإيحاء” “والاستنباط”.
فالرمز والإشارة والتأويل، مُفردات تخضع للتجربة الصوفية، وتستمد مددها من فورة الحالة الروحية، من المعاناة والمنازلة وعطايا الكشف لا عطايا العقل المقيد بمقولاته المنطقية، الخاضع على الدوام لما عساه أن يفكر فيه.
ولكن ماذا أريد أن أقول من وراء هذا التمهيد؟ وماذا يعني هذا التمهيد بالنسبة للكاتب قبل أن يعني حضرات القرّاء؟
لقد جاءت هذه الفقرات السابقة شبه تلخيص لأفكار البحث الذي تقدّم ذكر عنوانه في جزئياته التفصيلية، فلا ريب من وجود دلالة مباشرة غير مقطوعة الصلة بما يتلوها، ولا شك عندي من استحضار مرامي ذلك التمهيد، وأهمها وأخصّها هنا هو ما يقوم عليه التفسير الإشاري في ركيزتين أساسيتين، هما الإيحاء والاستنباط.
وحين نقول الاستنباط ليس ينبغي أن نفهم من الكلمة ظلالها العقلية، فينصرف فهمنا لها إلى الاستنباط العقلي، ولكن المقصود هو الاستبطان الداخلي المقرّر سلفاً لفهم مدركات الحالة الروحية في جوف التجربة الصوفيّة.  
ظلّت حروف القرآن في أوائل السور مجهولة لأكثر المفسّرين، لم يعط أحدهم فيها برأي صائب ولا بفيصل فارق قاطع؛ لأنها من علم الله المحجوب، ولكن المحبين الذين عرفوه لم تخل إشاراتهم من الكشف عنها واستبطان دلالتها، واستنباط ما وقع في روع الخاطر الإيماني منها. وبالنظر إلى سياق القرآن تجدها إشارات ظاهرة الصواب، حقيقية، تمس الشعور الديني العميق.

التخريج فيها ذوق يقوم على التجربة، هو مُفرد ضمن مفرداتها التي تشكل بناءها المعرفي ونشاطها الإيماني، فإذا كانت التجربة تستوجب معطيات الرمز والإشارة والتأويل كونها مفردات تلامس التجربة الصوفيّة، فالتخريج بلا ريب أحد هذه المفردات التي تنفذ منها تجربة العارف بلا قيود ولا حدود؛ ليكون دعامة أساسية من دعائم عملية التواصل بين المُبدع والمتلقي.

وجميع تلك المفردات : الرمز والإشارة والتأويل والتخريج، تتكئ على الذوق المعرفي ولا تتكئ على خاصيّة سواه؛ فالذوق حالة روحية تتأسس على منهجية فردية أساسها المعاناة والمنازلة والتجريب.
العجيب في الأمر أن هذه المعاني الخمسة التي هى حروف الله تتضمنها وتشتمل عليها سورة مريم؛ فالكفاية، والهداية، والإيواء، والعلم، والصدق، هذه الخمسة معاني كلها موجودة تفصيلاً وإجمالاً كمقاطع ودلالات في سورة مريم.
(فكاف – الكفاية)، تحقيقٌ لمنهج الاتباع في باطن النفس الإنسانية وفي ظاهرها على السواء (أليس الله بكافٍ عبده؟)؛ فمن كفاه الله أغناه عن سواه، ومتعه بالنور الذي جاء من عنده، ووالاه بنعمه ظاهرة وباطنة، لكن شرط هذه الكفاية تحقيق المنهج في الذات المؤمنة العارفة، شرطها الإتباع، ولابن مسعود رضوان الله عليه عبارة معجزة جاء فيها : “اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم”، وهى كلمة حق يرتسم فيها وعي البطولة الروحيّة في الإسلام، ووعي الأمة التي تدين بقوله تعالى :”قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين”؛ ويجدرُ بها أن تتبع مع العزم والتصميم نور الكتاب المبين ونور الهدي النبوي لا فرق فيما بينهما، ثم لا تجافي ولا تشك قيد أنملة في تلك الكفاية الواعية من حيث كونها من الله، ومن حيث إن الكفاية تدل بالمباشرة على الله الكافي، والافتقار إليها وقلة العناية بها ابتداعٌ في الطريق، يخالف المنهج لا محالة ويطعن في صدق المنتسبين إليه.
(وهاء – الهداية)، ثقة بالله بعد تسليم وتفويض، فلن يهدي المرء في طريقه إليه سواه، ولن يروِّض نفسه على التسليم والتفويض إلا من وقف الهوى وقصر المحابّ عليه، وواجه الأغيار بما عنده من الثقة والطمأنينة واليقين بالله؛ لتجيء الهداية تعمل في قلبه عمل اليقين الذي لا يتطرق إليه الشك بحال. فالهداية من الإيمان بمكان بحيث تؤدي إليه ولا يقوم هو إلا بها؛ فمن آمن فقد هداه الله، ومن هداه الله إلى الإيمان؛ فليس عليه من سواه سبيل.
أمّا (ياء – الإيواء)، فاتصاله بالولاية واتصال الولاية به مرهون بالموالاة والتأييد، فمن والاه الله كفله ونصره وآواه، وخصّه بكنفه وأغناه عما سواه واجتباه، وأقدره على المعرفة وأقدر المعرفة عليه بالصبر عليها وبالصبر على سواه، فليس يجد من غير الله سبيلاً إلاّ سبيل الثقة وسبيل الرشاد.
المسألة هنا مسألة توجُّه وتعلق، لا تقاس بمقاييس الواقعات الحسيّة، فليس من توجُّه للأغيار وليس من تعلق بسوى الله، فلا مناص فيمن يأويه الله أن يجد مراده عنده كائناً ما كان هذا المراد.
وأمّا (عين – العلم)؛ فمقسومٌ بين العبد والرب، ومشمولٌ الرعاية والإحاطة من جانب الحق، وموقوفٌ على العبد إذا هو عَلِمَ علم اليقين أن الله معه، والله مع الصادقين المخلصين؛ فالمعيّة علم محيط مشمول. لكن هذا العلم نفسه قد يكون حجاباً على صاحبه إذا لم يمسّ وحدة القصد، وإذا لم يكن خالصاً في التوجّه وفي التعلق، ولن يكون حجاباً إذا أخلص العالم وصدق في علمه وعمل به فيما لو كان العلم بالقصد طريقاً إلى الله لا مزيد عليه.
وأمّا (صاد – الصدق)؛ فكمال للعبد ليس فوقه كمال، وترقية لسيره في سفره الطويل الشاق، لو شاء يبلغ به العنان؛ فمن صدق فقد أخذ الطريق من نهاياتها وودّع القواطع في البدايات وهى التي تعيق السير فيما لو عزّ طلب الصادقين إليها وخارت عزائمهم مع صدقهم وسلامة توجههم. فالطريق إلى الله كله صدق على صدق، وبغيره يبقى الذل والهوان عادة قريبة لا تتحصل بها مطالب العبودية، ولا يتوصّل المعنى المطلوب منها.
ويلزم للصدق أن يكون الإخلاص له قريناً، ويلزم للإخلاص أن يكون الصبر له كالئاً ونصيراً، وتتلاقى هذه الثلاثة : الصدق، والصبر، والإخلاص؛ لتشكل مادة روحية حيّة تقوم في قلب الصوفي الصادق لطيفة دقيقة خفيّة، تستدنيه من الوصول إلى نهاية الطريق، وليس للطريق نهايات، لكنها هى الأغلب على شواغله اليومية والحياتية على وجه العموم.
على أن هذه المعاني : الكفاية، والهداية، والإيواء، والعلم، والصدق، فصولٌ من حروف سطرها كتاب الله لا لتكون مجرّد حروف تلوكها الألسنة؛ بل لتكون واقعاً ملموساً يتحقق في القلوب والبصائر ويتحوّل من حرف ساكن صامت إلى حياة حية مُعاشة في الواقع الفعلي، وهى وإنْ كانت صفات العمّال لله غير أنها من جانب آخر صادرة عن الأسماء الإلهية، فالكافي، والهادي، والمؤوي، والعالم، والصادق، جميعها أسماء إلهية؛ للعالم من حضراتها التجليات، وللإنسان العاقل العارف الكامل (النسخة الإلهية) على وجه الخصوص، تجلياته منها، بقدر نصيبه ممّا يصيبه، وربما فوق ما يأمل وفوق ما يظن؛ فالوقوف معها بالنصرة والإعانة من جانب الحق، وبالذكر والمناجاة والشواغل الباطنة من جانب العبد، مدعاةٌ للتقريب لا للتبعيد. وليس كما يظن طلاّب الدُّون في عالم الشهوات، ظن الشبهة في العقيدة وتكييفها بمنطق الهوى والحظوظ النفسية لا بمنطق القصد الإلهي؛ إذ كانت تقرّب العبد من بلوغ مُناه فيما لو تتابعت مناجاته وتوالي لله ذكره.
هنالك يُعطىَ موارد الطمأنينة القلبية ويتجدّد العزم المتجدّد معه في طريق الله، ولا تكاد تدع له طاقة في التفكير في غير إرادة اللقاء.
ليس هذا وحسب، بل أضداد تلك المعاني تستلزم وجودها في تصوير المقاطع الأخيرة من سّورة مريم، فسبحان من دلّ وأبصر وفَقَّه المحبين في كتابه دلالة وتبصرة، وعند الله المزيد من عطايا العرفان.
هذا؛ وقد نقل القاضي عياض اليحصبي (ت 544هـ) في (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) صلوات الله وسلامه عليه، تخريجاً آخر عن بعض المتكلمين في تفسير (كهيعص) تتعدّد زوايا مع تغيير في معاني الكلمات، لكنها تنطبق كلها على سيد الخلق وحبيب الحق صلوات ربي وسلامه عليه؛ فقال : إنّ (الكاف) كافٍ، أي من كفايته تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: “أليس الله بكافٍ عبده” (الزمر : 36). (والهاء) هدايته له، إذْ قال عز وجل : “ويهديك صراطاً مستقيماً” (الفتح : 2). (والياء) : تأييده له كما في قوله تعالى :” هو الذي أيدك بنصره” (الأنفال : 62). (والعين) : عصمته له. قال تعالى :”والله يعصمك من الناس” (المائدة : 67). (والصاد) : صلاته عليه قال عز وجل : “إنّ الله وملائكته يصلون على النبي” (الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ص 38 من الجزء الأول : طبعة دار الحديث).
وفي رواية طويلة يظهر معنى “كهيعص” عند المحبين هو كما وضّحته الرواية التي وردت ﻋن ﻣﺎﻟﻚ بن دينار، المتوفى في السابع من ذي الحجة عام 131هـ، رضوان الله عليه، وهو أبو يحيى البصري الزاهد، من الطبقة الخامسة من صغار التابعين، أخبر الذهبي أنه ولد في أيام ابن عباس، وسمع من أنس بن مالك، وحدث عن سعيد بن جبير والحسن البصري وآخرين، وحدث عنه سعيد بن أبي عروبة وطائفة سواه، كما وثقه النسائي وغيره، واستشهد به البخاري، وتأثر بالأخيار من التابعين خاصة محمد بن واسع، وما يروى عنه  أنهمرَّ وَالِي الْبَصْرَةِ بِمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ يَرْفُلُ، فَصَاحَ بِهِ مَالِكٌ: “أَقِلَّ مِنْ مَشْيَتِكَ هَذِهِ ” فَهَمَّ خَدَمُهُ بِهِ، فَقَالَدَعُوهُ، مَا أَرَاكَ تَعْرِفُنِي فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: “وَمَنْ أَعْرَفُ بِكَ مِنِّي أَمَّا أَوَّلُكَ فَنُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَأَمَّا آخِرُكَ فَجِيفةٌ قَذِرَةٌ، ثُمَّ أَنْتَ بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَذِرَةَ ” فَنَكَّس الوالي رأسهُ ومشى.
قال مالك بن دينار في روايته الطويلة :
خرﺟﺖُ حاجّاً إلى ﺑﻴﺖ الله الحرام في عام من الأعوام، فبينما أﻧﺎ ﻓﻲ الطريق، وإذا  بشاب يمشي بلا زاد ولا راحلة، فسلمتُ عليه، فرد عليَّ السلام فقلت : أيها الشاب : من أين أنت؟ قال : من عنده. فقلت : وإلى أين تريد؟ قال : إلى بيته. قلت له : وأين الزاد؟ قال : عليه. فقلت له : إنّ الطريق لا تنقطع إلا بالمأكل والمشرب والراحلة، فهل معك شئ؟
قال : نعم، تزودتُ عند خروجي من بلدي بخمسة أحرف، فقلت وما هي؟
قال : قوله تعالى : (كهيعص). قلت : وما معنى (كهيعص)؟
قال :  أﻣّﺎ قوله (كاف) ﻓﻬﻮ الكافي. وأما (الهاء)، فهو الهادي، وأمّا (الياء)، فهوى المؤوي. وأمّا (العين)، فهو العالم. وأمّا (الصاد)، فهو الصادق. ومن صحب كافياً وهادياً ومؤوياً وعالماً وصادقاً، فلا يضيع ولا يخشى ولا يحتاج إلى الزاد والراحلة.
قال مالك : فلمّا سمعت منه هذا الكلام نزعت قميصي لألبسه له فأبى أن يلبسه وقال يا شيخ : العري خيرٌ من قميص، فالدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب. وكان إذا جَنَّ الليل يرفع رأسه نحو السماء ويقول : يا من لا تنفعه الطاعات، ولا تضره المعاصي، هب لي ما لا ينفعك واغفر لي ما لا يضرك.
فلمّا أحرم الناس ولبّوا قلت له : لم لا تلبي؟ قال يا شيخ : أخاف أن أقول لبيك، فيقول لي : لا لبيك ولا سعديك لن أسمع كلامك ولا أنظر إليك! ثم مضى وغاب عن بصري فما رأيته إلا بـُمنى وهو يبكي ويقول شعراً للحسين بن منصور الحلاج :    
إنَّ الحبيب الذي يرضيه سفك دمي
دمي حــلال له في الحــلّ والحـرم
والله لو علمت روحي بمن عَشَقتْ
قامت على رأسها فضلاً على القدم
يا لائمي لا تلمـني في هـواه فلـــو
عانيــت منـه الذي عانيـــت لم تلـم    
يطـــوف بالبيــت قـــومٌ بجــارحــة
ولو بالله طافوا لأغناهم عن الحرم
للنـــاس حـجٌ ولـي حجٌ إلى سكـني
تهدي الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي 
ثم قال : اللهم إنّ الناس ذبحوا وتقرّبوا إليك بضحاياهم وهداياهم. وأنا ليس لي سوى نفسي أتقرب بها إليك، فتقبلها مني،ثم رفع بصره إلى السماء وهو يبكي ثم شهق شهقة وخر ميتاً رحمه الله؛ فجهزته وواريته التراب، وبت تلك اللية متفكراً في أمره، فرأيته في المنام فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال فعل بي كما فعل بشهداء بدر وزادني. قلت : ولم زادك؟ قال : لأنهم قتلوا بسيوف الكفار، وأنا قتلت بمحبة الجبار (انتهى)
وواضح أن الرواية على طولها تفيد حقيقة التوكل الذي يقترن بحقيقة التوحيد. والحقائق المقترنة المتداخلة ربما يصعب تصورها على العقل المجرد من المعونة الإيمانية : معونة التسليم والتفويض؛ إذ الموحّد الحق هو المتوكل الحق، وهو المتوكل في نفس الحال على الحق، لا على الأسباب أيّا كانت أو كائنة ما كانت. هذا الامتلاء المعرفي بشهود الله يخرق جميع الأسباب؛ ليرى الحق من خلف حجاب السبب. وتلك الرؤية هى المعتادة لدى العارفين الخُلّص. أمّا المحجوبون بحجاب السبب، فشأنهم التسبُّب لا التجرُّد، والفرق بينهما واسع في المعنى، واسع في دلالة التخريج.
لم يكن التوكل الذي ينشده المشاهدون للنور الإلهي، بمنأى عن المعرفة ولا عن الفناء في التوحيد ولا عن المحبة الإلهية، ولا عن الموالاة لله كأرقى ما تكون المُوالاة؛ وكأفضل ما تجئ المصافاة. فلا يتوكل على الله حق توكله إلا عارف به حق معرفته، محب له حق محبته، لا يشهد في الوجود سواه ولا يرى غيره، يترك للناس دينهم وديناهم ولا يبالى بما تقرّر لديهم من طقوس العبادات، لكن عبادة الحب أعلى وأرفع من طقوس قاحلة لا روح فيها ولا حياة لها.
واتصال المعرفة بحقيقة التوكل جانب حيوي مثير من عمل التجربة الروحية لا مناص من تقريره ولا مدفع في نكرائه؛ فمن يعرف الله يتوكل عليه ويدع حُجب الأسباب لمن يجهله أو يتدرج في معرفته من الأدنى إلى الأرقى على طريق العرفان. وحقيقة المعرفة نورٌ تنكشف معه بصيرة العارف، فيتجرّد ليرقي إلى الفناء في التوحيد، وهو غاية المرام. ومادام العارف في تجربة الفناء فهو المتجرّد الذي لا يحجبه السبب، ولكن يرى الله من خلف حجاب الأسباب.
وعليه؛ فالتوكل ممدودُ الأواصر بالمعرفة وبالفناء في التوحيد، يتأكد هذا الوعي العالي خلال التجربة الصوفية لاتصال الحالات المعرفية بعضها ببعض في جوف التجربة نفسها، ولا يلزم تفريق تلك الحالات أثناء التجربة ذاتها؛ لأنها تمثل وحدة شهودية عزيزة المنال يختلط فيها التوكل مع التوحيد وتتشابك المعرفة مع المحبة مع الولاية، ويقترن الجزء بالكل في حضرة إلهية قائمة في وعي العارف العالي، ومنها تصدر أقواله التي قد يُساء أحياناً فهمها أو يُساء تأويلها من قبل الوعي العادي؛ إذْ يستعمل الرمز أو يستخدم الإشارة، فيكون التأويل ضرورة تخريجية لعبارات لم تكن مألوفة لدى غير العارفين ممّن لم يعانوا معاناتهم ولم يذوقوا أذواقهم ولم تأخذهم التجربة مثل هذا المأخذ العميق في مراقي الشهود.
اختزال المعنى في إشارة معمّقة بديلاً عن العبارة المفصلة يوحي من أول وهلة بمعاناة هذه الأحوال التي تلتمس داخل مراجل التجربة الصوفية تغلي بها وتفور، وبمثل هذا الغليان الفوّار القاهر تحت حكم الحال تجئ المحبة موصولة القربة بالتوكل، فالمحبّ لا يستطيع التعبير عن مواجيده وأذواقه تعبيراً مباشراً بلغة عادية مفهومة ليس عليها التباس ممّا يألفه الوعي العادي السطحي في دنيا الناس.
ولكن التباس الدلالة لا يفسّر في ضوء ما هو مفهوم منظور ولا يجوز تخريجه فيما تتبدّى شواهده للعيان؛ بل في إطار الحالة المرموز إليها يُفسر، وفي غمارها يجوز التخريج بمثل ما هو جائز من خوض غمار التجربة وفي مستواها.
ولغة الحبّ بالبداهة غير لغة المنطق أو لغة العقل .. لغة الحبّ مسكونة بمجالي المحبوب وبتجلياته على قلب المُحب؛ فلا يُقال فيها ما من شأنه أن يقال على لغة العقل، ولا تعالج بمثل المعالجة التي يعالج بها المنطق قضاياه.
وللمحبّة، كما هو مجرّب معلوم بالتجربة، غصّة روحيّة ممزوجة بالشوق إلى الملأ الأعلى ليس يُشبهها القتل بسيوف الكفار، ولكنها مع ذلك قد تقتل صاحبها ولا تعفيه من القتل، بيد أنها إذ تقتله تقتله حبّاً في لقاء الجبّار كما جاء عن الشاب شهيد الحب الإلهي في رواية مالك ابن دينار.
هذا القتل والتهتك وخلع العذار وما يصاحب ذلك كله من خلفيات هو نتيجة تتلبس فيها الحالة الروحية بمشهدها الرؤيويّ وعليها غلاف سميك من الاستسرار فلا يقيسها قياس العقل أو قياس المنطق إلا أفسد بناءها المعرفي من جهة الشكل ومن جهة المضمون. فلابد ممّا ليس منه بدُّ : من مقياس صالح يُبقي الفهم المشروع لتلك الحالات ويحفظ لها توهُّجها في الشعور ويقيسها بمنطق آخر هو منطق البصيرة ومنطق الوجدان، وإنّما الاقتصار على عقلنة الإنسان وكفى، وأخذ جميع أنشطته وإبداعاته المعرفية على أنها من نتاج العقل وحده هو في الوقت نفسه تهميش لجانب حيوي مهم في حياته، وتسطيح لنشاطه الفاعل وحجبٌ لقضاياه المصيرية واهتماماته الروحيّة.
ليس عقلاً وحده هو ذلك الإنسان؛ بل هو المجهول الذي لم يعرف، رغم تقدّمه العلمي حقيقة نفسه، فلا يزال مع التقدّم العلمي جاهلاً بنفسه جاهلاً بما يُصلحها، لم يتقدّم في معرفتها ولا في الإحاطة بها بعض التقدّم الذي أحرزه العلم في كشوفاته الكونيّة.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *