Share Button

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

التعليم غاية الغايات من عمل الإنسان، قيمة باقية لا مناص من وجودها فيه إذا كان يريد لإنسانيته أن ترتقي وتسمو وتتهذب، وهى لا تسمو ولا ترتقي ولا تتهذب إلا بمطالب العلم والتعلم.

إذا وجد العلم وجدت معه القيمة التي تحفّه بالفضل وتسعد صاحبه في الدارين، حتى إذا أخلص له قامت فيه الفضيلة ناهضة قويّة لتنادي عليه من قريب.

وليس من شرط للتعلم غير شرط النزوع إلى الكمال، وليس من شرط للكمال غير العلم النافع المقرون بوفاء التطبيق.

كتب الدكتور عصمت نصار، أستاذ الفلسفة، والمفكر المصري الأصيل، والناقد الموضوعي، والكاشف عن آليات النهضة المصرية الحديثة من خلال شخوصها، ومعالمها البارزة في توجُّهات قادة الرأي فيها ثم رموزها (وبخاصّة فيمن بقى منهم مغموراً بالفكرة أو بالتّوجُّه في دائرة الظل)، كتب دراسة وافية عن مسامرات “على مبارك” منظوراً إليها من خلال موقعها في النهضة المصرية الحديثة، تعدُّ – في تقديري – الأولى من نوعها، عن تلك الشخصية التنويريّة الإصلاحيّة المصرية المتفّردة، كان ذلك عبر موقع البوابة نيوز بتاريخ (22/3/2019م) قام فيها بتحليل آراء علي مبارك تحليلاً نقدياً في لغة راقية وأسلوب متميز يرافقهما منهجيّة ناصعة الوضوح، مركزاً غاية التركيز على القضايا التي تناولها “علي مبارك” في أضخم كتبه (علم الدين) وأحشدها لمشكلات عصره، بما فيها قضايا التعليم، والمرأة والثقافة، والمسرح، وتنمية الوعي على وجه الإجمال.

دراسةٌ هى من الأهمية بمكان، حقيقة بالمتابعة جديرةٌ بوقوف النظر عندها، لأنها توضح على الجملة، فضلاً عن التفصيل، ذلك النشاط الفكري الإصلاحي منجز روّاد النهضة المصرية إذ ذاك.

وبما أن شخصية علي مبارك (1863-1893) طليعة من طلائع النهضة العامة وأكبر مثقف مصري حمل لواء النهضة بعد الطهطاوي (1801-1873) واهتم بالتعليم المصري الحديث، ولم يثنه عن أداء رسالته التربوية والتنويرية كل ما لاقاه من نفى وعزل واضطهاد، فهو من تلك الجهة يعدُّ من الشخصيات ذات الأثر الفعال في نهضتنا المصرية التعليمية الحديثة، وبما أنه كان من الأوائل المبرّزين لنهضة مصر التعليمية، فقد حق أن يكون نموذجاً تنويرياً للإصلاح على زمنه، وقدوة للذين يواصلون السير على نهجه.

ولم يكن أبرع من تلك العبارة التي صدّر بها عصمت نصار دراسته حيث قال :” إنّ الشدائد مصنع الرجال، وإنّ العثرات والانكسارات هى الآتون الذي تُختبر فيه العزائم والقوى المتأهبة لتحقيق الانتصارات”.

بهذه العبارة التي تلخّص (القيمة الباقية) في حياة المصلحين التنويريين في الكفاح من أجل التقدّم، لم يكن علي مبارك إلا ذلك البطل المخلص والفارس المغوار في ميدان النضال: ” قاسى ألواناً شتى من العوز والوشايات والدسائس التي كادت تقضي عليه، وقد أُغلقت أمامه أبواب الرزق، ولاسيما بعد رفده من وظيفته وكثرة ديونه وتنكر الرفقاء والأصدقاء وجحدهم بصحبته، وقد عزله محمد سعيد باشا (1822-1863) والي مصر من نظارة المهندسخانة عام 1854 وأرسله إلى ميدان القتال إلى حيث حرب القرم بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، وليس لمصر إذ ذاك فيها ناقة ولا جمل.

ولم تصرفه الشدائد التي لاقاها عن طموحه الإصلاحي، ولم تدفعه إلى الكفر برسالته التنويرية فراح يكتب بمداد قلم فياض بالإيمان بصدارة القيم العلوية، تحدوه الرغبة العارمة في تنقية العقول وترقية الأذواق وتوعية الأذهان وتقويم ملكات العوائد والمعتقدات.

وعلى الرغم من أفول نجمه – هكذا يحدّثنا عصمت نصار- وابتعاده عن المسرح السياسي ودواوين الحكومة والوظائف العمومية، إلا أن حبّه لمصر ومقابلته الشدائد بالصبر والجلد قد مكناه من الصعود ثانية من وهدة الإهمال والتهميش إلى يفاع المجد الرفيع، فاصطفاه الخديوي إسماعيل (1830-1895) لمجلسه الاستشاري، فعهد إليه بالكثير من الإصلاحات والمشروعات بدايةً من القناطر الخيرية، إلى السكك الحديدية ثم نظارة المعارف، ثم التخطيط لمعظم مشروعات الدولة والإشراف عليها.

إزاء القراءة لهذه الدراسة يُلاحظ أن عصمت نصار يختط لنفسه منهجه واضحاً من حيث التوظيف في بعدين :

الأول: كيفيّة تفعيل قانون التحدي والاستجابة مفصلاً فيما يقول، بمعنى تحدي العثرات والنكبات والأزمات وبذل الجهد لإقناع الرأي العام القائد والتابع بمشروعه، وأحقيته في شغل مكان الصدارة التي يستحقها، حتى إذا ما ذكر قانون التحدي والاستجابة لدراسة آثار وحياة على مبارك المهنية والشخصية، دلّ ذلك على إثارة الحافز النهضوي لهمم الشباب المصري والعربي نحو التبصير بما هو مطلوب منهم من مقومات الإصلاح وتبعات التغيير ومناهج التعليم ورعاية القيم والأخلاق على التعميم.

والثاني: الوقوف على آليات الإصلاح والتجديد في خطاب علي مبارك، ذلك الخطاب الذي نسجه في قالب روائي هو “علم الدين” مع ملاحظة افتقار الدراسات المعاصرة إلى تحليل أفكاره ومراجعتها ونقدها بغية الاستفادة منها، كاشفاً بذلك لأهم أبعاد هذا الخطاب إن من جهة الشكل الأدبي وإن من جهة المضمون الفكري.

وبهذه المنهجية الناصعة راح الدكتور عصمت نصار يُعملها في دراسته ليستخلص من محاورات (التعليم، وقضايا المرأة، والثقافة، والمسرح، وتنمية الوعي) ما عساه أن يكون قيمة باقية نافعة يتطلع إليها المصلحون التنويريون في شتى الأزمان ومختلف العصور، بمقدار ما يتربّى عليها صالح الشباب المثقف الواعي العالم بأن المكارم موصولة دوماً بالمكاره، فلم يعد يضيق زرعاً بمطالب الإصلاح وفروض التغيير.

وقد بدأ الطموح الذي دلّت عليه آفاق على مبارك المعرفيّة وهمته الإصلاحية جلياً في كتابه “علم الدين” ، إذ تجاوز عدد صفحاته (1400) صفحة، وقد طبع الكتاب لأول مرة عام 1882 في بيروت، وأجمعت الدراسات – فيما يقول عصمت نصار – على أنه قد كتب بين عامي 1854 إلى 1858 – أي خلال أزمته النفسية ومحنته العملية – وأنه يحوي من المعارف والطرائف والنصائح والأخبار عن شتى العلوم والحقب الحضارية والقضايا الاجتماعية والسياسية، ذلك فضلاً عن المقابلات والمقارنات بين الثقافات والممالك والوقائع والواقعات على مرّ التاريخ الإنساني مالم يظفر به مؤلف من قبله.

ناهيك عن بساطة الأسلوب وسلاسة العبارة ودقة المعلومات التي صنع منها المؤلف نسيجه القصصي في تلك المسامرات التي دارت أحداثها في خياله وهم : علم الدين، وولده برهان الدين، وزوجته تقيّة، والخواجة الإنجليزي، ورجل يُدعي يعقوب، بالإضافة إلى عديد الشخصيات الثانوية التي أجرى المؤلف على ألسنتها كل آرائه تارة بالتصريح وأخرى بالتلميح.

ويعدُّ كتاب “علم الدين” في رأي أحدهم من باكورة الرواية العربية الحديثة، ومع ذلك ليس هو بالرواية عندنا بل “مسامرات” تتوافر فيها عناصر آليات الإصلاح والتجديد، فهو يمثل البعد الحقيقي لعبقرية علي مبارك في تأليف الأعمال القصصية الجامعة بين الشكل الأدبي والمضمون الفلسفي، وهو يبرهن بالأساس على أصالة مشروعة التنويري ونضج أفكاره وعمق الرأي في التعبير عنها.

وإذا كان كتاب “علم الدين” لم يدرس دراسة وافية، ولم يتلقى بحثاً منظماً حديثاً؛ ليفرز فيه المشكلات والقضايا فرزاً يليق بمستوى الكتابة التي كتبت لأجله، ومستوى الدلالة المحققة في غاياته ومطالبه، فلا يكفي أن يقال في حقه إنه رواية سابقة من روايات الأدب العربي كما قال أحدهم؛ لأن شروط الرواية في شكلها الأدبي وبعدُها الفني ليست كشروط المسامرة ولا هى من جنسها من حيث هى لمح دالة تجمع فنون الحقائق والدقائق والرقائق بين عوارف وخلائف ولطائف من نزهة الآداب.

انظر مثلاً إلى هذا العنوان (مُحاضرة الأبرار ومُسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار) وهو كتاب لابن عربي الصوفي الفيلسوف، ولاحظ موضع “المسامرة” في سياق العنوان فماذا تجد؟

تجد المسامرة إن هى الا وعي مباشر يتحقق خلاله التوجُّه الفكري للمؤلف وكشف الدلالة المعرفية الباقية بالمباشرة لا على أسلوب الرواية ولا على شرطها. وقد تتضمن المسامرة مكارم تُعزى لقوم من ذوي الأحساب، وعجائب ومواعظ فيها نُبذاً من الأنساب، وربما اتفقت بضروب من الآداب والفنون والمواعظ والأمثال والحكايات النادرة والأخبار السائرة بمكارم الأخلاق وأخبار ملوك العرب والعجم وعلمائهم وفلاسفتهم وطرائف من أذكيائهم ونبهائهم، بما يجعلها في المطلق غير الرواية في جميع أركانها ومقاصدها.

هذا نمط فني من الكتابة لا يقال فيه رواية سابقة، أو باكورة متقدّمة من بواكير الرواية العربية إذا نحن فهمنا أن شروط الرواية غير شروط المسامرة، فلا الجنس الأدبي هو الجنس ولا النمط الفني هو النمط.ألم يقل على مبارك نفسه في مقدمة كتابه “علم الدين” إنه جاء :” ليشتمل على جُمع شتى من غرر الفرائد المتفرقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجيّة، في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخلقية وغرائب المخلوقات وعجائب البر والبحر، وما تقلب نوع الإنسان فيه من الأطوار والأدوار في الزمن الغابر، وما هو عليه في الوقت الحاضر، مع الاستكثار في المقابلة والمقارنة بين أحواله وعاداته في الأوقات المتفاوتة والأنحاء المتباينة؛ ليطلع مُطالعهُ على ما يشحذ خاطره وينبّه قريحته، ويستنهض فكرته، ويدرجه لإعمال عقله وإمعان نظره واستعمال بصيرته في نقد الأمور وسيرها، وتدبرها ومقارنتها والموازنة بينها، والتمييز بين الخير والشر والنفع والضُّر، وتميز النافع والأنفع والحسن والأحسن منه، على نمط يسمو على السآمة ولا يميل إلى الملامة، مُفرّغاً في قالب سياحة شيخ عالم مصري، وسم بعلم الدين، مع رجل انجليزي، نظمهما سمط الحديث، لتأتي المقارنة بين الأحوال الشرقية والأوروبية … ثم قال : وقد قسّمته إلى مسامرات ينتقل فيها القارئ تنقل المسافر، ويجد فيها فكاهة المسامر، كما ينتفع به المعلم والمتعلم، فيكون للأول مفكراً منبّهاً، وللثاني معلّماً مُفقّهاً …”.

فهي إذن مسامرات لا رواية، مسامرات تُشبه في كتب التراث إلى حدٍ كبير- مع ظاهر الفروق – كتاب ابن عربي “محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار” أو كتاب التوحيدي “الإمتاع والمؤانسة” : المباشرةٌ فيها أوفى من خيال الروائيين، والقصد أولى على الجملة من حبكة الرواية الفنية، ذاك طراز وهذا طراز آخر.

ثم تأتي منهجيّة علي مبارك مقصودة قصداً من وراء تأليف الكتاب؛ بهدف واضح لا لبس فيه : شحذ خاطر قارئه، وتنبيه قريحته، واستنهاض فكرته، وإعمال عقله، وإمعان نظره، واستعمال بصيرته في نقد الأمور وسيرها والمقارنة بينها والموازنة …. فهي إذن منهجيّة مُوظّفة هادفة نحو ارتقاء التعليم والمعرفة وإعلاء شأن القيم الكبرى في الإنسان على التعميم.
ثم تتلو المنهجية تلك الرؤية التي ضمّنها كتابه ممتثلاً غايات وأهداف لم تكن بعيدة عمّا أشار إليه سلفاً، فإذا الرؤية موصولة بشرايين تلك المنهجية مؤسسة عليها، قائمة في محيطها باقية ببقائها من حيث التوظيف والقصد والغاية.
* * *
هذا، وتنتقل إلى عنوان المقالة المخصصّة للقراءة (منافع العلم وآداب المتعلمين) من واقع دراسة الدكتور عصمت نصار لمسامرات على مبارك وآليات النهضة الحديثة، فنقول:

يكادُ لا يخطئ من يقول إنّ المنفعة من العلم والأدب أحدهما أو كلاهما من الضرورة بمكان، مع يبدو فيما يتناولانه من تناقض؛ فأنت إذا قلت منفعة فقد نزعت بها إلى الصالح الخاص، لكأنما تقول : إن العالم ينفع نفسه بما يتاح له من علم، لكن هذا النفع قد يكون ماديّاً وقد يكون معنويّاً، فلئن كان الأول فقد رفع المادة إلى المقام الأعلى وهبط بالعلم إلى الزائل الأدنى، ولئن كان الثاني فقد حبس الأدب في مقام العلم وشرطه بشرطه، وهو شرط لا نُدحة عنه بحال، فكل علم بلا أدب باطل لا شك فيه، وكل أدب بلا علم عاطل لا ريب فيه.

هذا عن العنوان، وفيه حيرة من لا يحتار!

أمّا على مبارك؛ فيظهر أنه أستخدم القيم الإسلامية مشروطة على شرطها التطبيقي. ولم يكن شرطاً ينزع إلى الفلسفة ويقف في مجرّداتها النظريّة؛ ليُحلق في أجوازها بل كان مشروطاً بحظيرة المبادئ العقديّة وتطبيقاتها العملية وممارساتها المباشرة في الواقع الفعلي، لم تكن استشرافاً وكفى بل تحقيق. ومقولات الإمام عليّ، رضوان الله عليه، ظاهرة في مناحي تفكيره كنحو قوله : لا تعرف الحق بالرجال بل أعرف الحق تعرف أهله.

وقد سبقه إلى هذا المنزع كثيرٌ ممّن كتبوا في آداب العلم والتعليم كالطوسي في رسالته عن آداب المتعلمين، وعبد الباسط بن محمد العلموي (ت 981 هجرية) صاحب كتاب (المعيد في أدب المفيد والمستفيد)، وهو كتاب بلا شك نافع، كلّه عن أخلاق العلم وآداب التعلم من الوجهة الإسلامية يخضع لحضور القيم المعرفية في الإسلام، ناهيك عمّا ذكره من لُمح خُلقيّة وفرائد أدبية شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي صاحب الكتاب المشهور (المستطرف في كل فن مستظرف)، وكتاب ابن قتيبة (عيون الأخبار)، وكتاب ابن السيد البطليوسي (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب). ولا ننسى في هذا الصدد كتاب الإحياء للغزالي، والقابسي وآدابه التربوبية والتعليمية.

هذه مصادر إسلامية خالصة لا شك فيها، لو أمكننا أن تكون هى هى “الفرشة” النظريّة دون سواها، تأطيراً للفكرة الخُلقية من وراء آداب العلم، يعوّل عليها ولا يعوّل على غيرها، لقامت فينا فلسفة الأخلاق مُغايرة عن تنظيرها الفلسفي عند اليونان وهو تنظير لا يعدو أن يكون مُفارقاً للتطبيق، ماتعاً للعقل وكفى!

نقطة أخرى تثيرها الدراسة مع تعدد محاورها وكثرة نقاطها المُلفتة لنظر المُحققين، وهى شرف علوم الدين التي هى أيضاً تحفظ الأرواح وتنجيها من الوباء الأبدي، أي والله هذه حقيقة تمسُّ مسائل المصير في صميم الصميم، لكنها حقيقة تقوم على العلم أولاً قبل أن تقوم على التطبيق، فلا تكفي فيها منافع التطبيق فقط بل الأصل أن يكون العلمُ معها ناقداً ومصححاً لكل اعوجاج يفسد التطبيق ويضرُّ العمل، ولولا العلم ما صحّ العمل، ولولا صحة الاعتقاد لفشلت الممارسة.

غير أن هذه البديهة ربما تنقلب في الأذهان؛ لتصبح علوم الدين وسط هذا الواغش الذي نعيشه محتقرة لا يُؤبه لها، وقد قرأنا وقرأ معنا ألوف الألوف من الناس من يدعو إلى التحلل من علوم الدين، ليصرف نظر الناظرين إلى علوم الدنيا لا لشيء إلا ليقف عند هذا الحدّ لا يتعدّاه. مع أن وحدة القصد والتوجُّه ظاهرة في كلام علي مبارك في مثل قوله :

” … ولا يظن من تعظيم علوم الدين وتفخيمها تحقير غيرها من العلوم وتقبيحها، فمن قصد وجه الله وسبيل الخير بالعلم، أي علم، كان نفعه ورفعة قصده لا محالة، وينبغي ألا يحكم على علم بفساد أربابه ووقوع الاختلاف حول مسائله، ولا بخطأ أحدهم. مقصد المتعلم هو الخير دومًا، وأن غايته هى إسعاد نفسه والآخرين، فإن أحبّ الناس إلى الله أنفعهم لعباده، ولا يكون مقصد المتعلم بتحصيل العلم من أجل المفاخرة والمباهاة والمحاسدة للناس ومزاحمة أرباب الوظائف في وظائفهم ومضايقتهم في مناصبهم، فإن هذه المقاصد ذميمة …”.

ومع أن هذا المقصد الأخير إنمّا هو واقع معاش وسلوك محقق في الواقع الفعلي بغير مراء؛ فإن أكثر طلاب العلم اليوم لا يطلبونه لذاته ولكن لغيره يطلبون : للمفاخرة والمباهاة وتحصيل الزائف الزائل من القيم الساقطة.
* * *
لم أكد أكمل هذه الفكرة تعليقاً على دراسة الدكتور عصمت نصار إذ نشرت إذ ذاك في موقعها، حتى هبّ صديقُ لي يشاركني الحوار دوماً بين وفاق وخلاف، شارعاً سيف المعارضة، مخالفاً الرأي والفكرة والعنوان، غير أني تعوّدت منه المعارضة كما يتعوّد من يُلقي بالفكرة؛ لينتظر النقيض فيتكون منهما مركب جديد.

ولم يكن العنوان برمته ممّا هو سائغ مقبول لدى الصديق المفزوع، فهو لا يرى مثل هذا الرأي ولا يقر صياغة العنوان ولا يعجبه من علي مبارك ولا من غيره تأصيل الأخلاق بالرجوع إلى عقائد الإسلام، فلم يلبث أن قرأ كلماته الأولى حتى هبّ فزعاً ممّا قرأ فقال : صدمني تعبير “أخلاق العلم” هذا، فضلاً عن استمرار الصدمة مع المتابعة لآداب المتعلمين من الوجهة الإسلامية.

لقد ظن القارئ المحترم أنه لا خلاف بالمطلق بين المفهوم الإسلامي للأخلاق ونفس المفهوم في الثقافات والحضارات الأخرى، وعليه رتّب عناصر مناقشته للموضوع على هذه التساؤلات الآتية :

أولها: هل يعني ذلك أن مفهوم الأخلاق بداية من اليونان ومروراً بالرومان ووصولاً للحضارة الأوروبيّة يختلف عن مفهومها الإسلامي؟ أليست الأخلاق في مفهومها البسيط تعني المُثل والقيم العليا التي تحتفي بها وتتفق عليها الإنسانية جمعاء من صدق وأمانة وإخلاص وغير ذلك من القيم؟ أم نحن الإسلاميون ننظر للأخلاق من زاوية أخرى؟

ثانيها: لم أر شعوباً تحصّل العلم لمجرّد التفاخر والتباهي به إلا شعوبنا العربية (هكذا يقول صديقنا المناقش تعليقاً على جوانب الموضوع). والدليل على ذلك أن العلم لدينا جسد ميت لا تجري به الدماء ولا ينبض له قلب. وأننا لا ننتفع به في المجال التطبيقي في حياتنا، فهو مجرّد لقب أو ترقية أو شهادة أو علاوة مادية أو مركز اجتماعي يعتمد عليه للارتباط والزواج، على النقيض من ذلك تماماً، على الجانب الأخر المضيء من العالم، العلم مادة ينتفع بها وتستفيد منه البشريّة ابتداءً من لقاحات الأمراض ووصولاً الى غزو الفضاء.

ولم أر فيما يقوله الصديق مقنعاً بالسكوت عن توضيح ما ينبغي توضيحه في سياق النظر إلى العلم، مطلق العلم، هذه واحدة. ثم في سياق التوظيف المفهومي والدلالة التي تجلب الفائدة من ورائه. ثم ثالثاً، وهو الأعجب، في سياق المُسامرة التي انقلبت في أقل من لمح البصر مع هذا الحوار من النظرية إلى الممارسة، فجاءت كما لو كانت نموذجاً تطبيقياً لفعل المسامرة كما توخّاها علي مبارك.

وعليه رحتُ أقول : حنانيك يا صديقي حنانيك !
لم تكن صدمتك في محلّها، ولم يكن التعبير عن أخلاق العلم وآداب التعلُّم من الوجهة الإسلامية ببعيد عن المقصد الذي قصدناه، وهو أن مفهوم الأخلاق لدى اليونان مفهوم نظري، جانب العمل والتطبيق فيه ضعيف، عكس مفهوم الأخلاق في الإسلام ينزع إلى العمل، وتتضمّنها الأوامر والنواهي الإلهيّة، فالأمر الإلهي هو الفضيلة بلا ريب، والنهي الإلهي يحتمل الرزيلة بلا شك، وإتيان الأمر الإلهي خيرٌ في ذاته، واقتراف النهي الإلهي شرٌّ في ذاته، وقسّ على ذلك سائر الأعمال الإنسانية، فضائل كانت أم رذائل، فالشر كل ما نهى الله عنه، والخير كل ما أمر الله به، فالأخلاق من الوجهة الإسلامية عمليّة تنزل منزلة الفرض شأنها شأن الصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم تكن كذلك عند اليونان والرومان ولا في فلسفات العصور الحديثة النظريّة.

الفارق جوهري، يا عزيزي، بين التطبيق في ظل المعتقد الديني والأمر الإلهي، والتطبيق نفسه – إن كان هنالك تطبيق – في ظل المبدأ العقلي أو الولاء للمذاهب والأفكار. النظريّة هنا غالبة ولا شأن لها بالمعتقد الديني ولا بمسائل المصير الإنساني ولا بتربية الضمير الديني على الإجمال.
هذا الفارق يعوّل على وحدة القصد في الإسلام ولا يعوّل على سواها، فلا يفصل النظرية مع الملاحظة عن التطبيق، في حين ليس هناك صلة بين النظرية والتطبيق في الغرب القديم أو الحديث. لا يكاد العمل أن يلحق النظر في شئ، ولا تكاد الممارسة تتحقق مع المعطيات النظريّة، ولا يمكن في مجال الأخلاق عزل المبدأ عن التطبيق.

قد ينظّر أرسطو للأخلاق مجرّد نظريّة لا تقبل الممارسة، ولولا العقيدة الدينية والنشأة الكلاسيكية الأولى ما صدرت لدى كانط الفيلسوف الألماني صرامة المبدأ الخُلقي القائم على العقل.

حديثي ولا شك هنا عن الفكرة الخُلقية في الإسلام لا عن الممارسة العملية في الغرب الآن، فقد تجد سلوكاً في الغرب يسلكه الغربيون أفضل بكثير ممّا نحن الآن عليه، فهل معنى ذلك أن المسلمين متخلفون والغرب مُتقدّم عليهم خُلقيّاً؟

لا لا .. معناه أن المسلمين لم يتخلّقوا بأخلاق الأوامر الإلهيّة، ولا بالأخلاق الإسلاميّة فسقطوا في مستنقع آسن من مظاهر التقليد والدونيّة.

ولم يشأ المشهد الفعلي أن يكذبه الواقع العملي بوجه من الوجوه، فنحن مقلدون غارقون في التقليد والتبعيّة إلى أبعد الحدود، مكتفون بما ينتجه لنا الغرب في كل شئ : في النظريّة وتطبيقاتها، وفي العلوم ومكتشفاتها، وفي الفنون وإبداعاتها، وفي قوانين الاجتماع وأنظمتها، كل ما نفعله أننا نستلم الأشياء الجاهزة استلاماً لا نسهم قيد أنملة في مشاركة إنتاجه. إنّ التقليد فينا لذو نسب عريق، والإبداع خرافة عقل محدود بحدود ما يُفكر فيه سواء أحسنه أم لم يحسنه .. المهم أنه لم يكن يقوى عليه، ولم يكن يرغب في تدريب الذهن على مطالبه وفروضه.

هذا عن العنصر الأول في مناقشة الصديق. أمّا العنصر الثاني؛ فواضح جداً في كلام علي مبارك كما خرّجه الدكتور عصمت نصار : عزل العلم عن فساد الأدعياء ممّن ينتسبون إليه وهم من غير أهله فيسيئون إليه من طريق النصب والحذلقة والدعوي العريضة التي لا يقوم عليها فيهم من أنفسهم دليل؛ فتجريده عن أمثال هؤلاء الأدعياء اللصقاء لفتة توحي بتقدير الرجل وسمو مقصده ونبل غايته.

وليس من مكسب يُحصّله طالب العلم أشرف له ولا أنبل من تحصيله لذاته قصداً مُجرّداً عن كل مظاهر المفاخرة والمباهاة ورياء القلوب والعقول.
لم يلتفت صاحبنا إلى المقاصد الذميمة التي ذكرها علي مبارك عن طلاب العلم حين يطلبونه لغيره لا لذاته، فالعلم في ذاته شرف من أشرف المقاصد النافعة، لأنه ينير القلب ويجلو غشاوة العقل ويكشف عن البصيرة حُجُب الجهل والتعطيل.
* * *
وما كان نقد المصلحين وقادة الرأي وزعماء الإصلاح في بلادنا العربية إلا موجّهاً ومنصبّاً في المقام الأول على هذه الآفة الملعونة : جرثومة التخلف التي لم تشأ تنخر كما السوس في أرض خصبة، التقليد يرويها، والخنوع والانبطاح يسقيها مع تربة صالحة للإنبات والإرواء .

ولم يكن غريباً أن يهتم المصلحون من قادة الرأي عندنا بالتعليم المنظم والثقافة العليا والتنوير المباشر؛ لقلع تلك الآفة من الجذور كيما يجئ الإصلاح مثمراً على أرض خصبة، “فمن يزرع الحبّ في السّباخ يندم زمان الحصاد”، والأرض السّبخة ذات نزٍّ وملح لا تنب. ولأجل هذا قيل إن إزالة ما لا ينبغي شرطٌ في إثمار ما ينبغي. وعليه؛ فعناية المصلحين الممتازين بالعلم والتعليم له خطره عندهم بل هو أهم خطوات الإصلاح، إذ موقع الحكمة من قلوب الجُهّال كما يقول بطليموس، كموقع الذهب من ظهر الحمار.

ولست أجدُ قولاً آخذاً بلب لباب المفكرين أصدق ولا أفعل من قول الأستاذ عباس محمود العقاد – طيّب الله ثراه – تحليلاً لجوانب العبقرية المطبوعة على التعليم، وذلك فيما كتبه عن الإمام محمد عبده في تلك الأسطر المحيطة الشاملة : فعمل صاحب هذه العبقرية يُعلّم ليدفع المتعلمين إلى عمل ويستنيرهم إلى غاية، يستحثهم ويزيدهم، ويبث في نفوسهم من الحماسة مثل ما انطوى عليه في أعماق ضميره من الحماسة لعمله وغايته، ولا مطمع له في أجر يناله منهم أو من سواهم، بل هو يعطي الأجر ويجزله لو استطاع. وليس له بالسائغ في طبعه أن يتحمّل العلل لإعفاء نفسه من عناء تحمله إذا توانى المتعلمون على يديه ولم يستجيبوا لدعوته بمثل حميته وإخلاصه؛ لأنه يحسب استجابتهم غاية له تعينه قبل أن تعينهم، وإن كان فيها غاية النفع لأولئك المتعلمين.

وأكثر ما يكون هذا الباعث الوجداني في نفوس المُعلّمين المطبوعين خصلة من خصال النخوة الإنسانية في كل ما تمثلت فيه من غوث الضعيف والرثاء للذليل وكراهية الجهل المذل للمبتلين به من ضحايا الغفلة والغباء وصرعى الظلم والخديعة.
ولا يثيرُ هذه النخوة شئٌ كما تثيرها عزة الظالم الخادع واستكانة الجاهل الغافل، ولكنها نخوة ترتفع مع ارتفاع الهمم وتقوى مع قوة الطباع فلا تقنع بمحاربة الجهل في واحد أو آحاد وهى قادرة على محاربته في أقوام وجماعات، ولا تقصر الغوث على الدرس وهى قادرة على غوث الضعيف المفتقر إليه كيفما كان.

وأعمق ما تكون النخوة حاضرة إذا كانت سجيّة موروثة تنتقل من الأجداد إلى الآباء والأبناء، هنالك تعمل عملها الفاعل ولا تعمل غيره من أعمال الجاحدين” (أ.ه).

وبعدُ؛ فلئن كان الأستاذ العقاد قد خصّ الإمام محمد عبده بتلك اللوحة القلميّة؛ فجاءت قطعة فنية تحليلية نفسية، غير أنها في معرض التحليل تنطبق أكثر ما تنطبق كذلك على الذين توافرت لهم تلك الحقيقة الباطنة في النزوع إلى التعليم، فلا يتصل بها الإمام محمد عبده وكفى، بل يتصل بها علي مبارك ومن قبله الطهطاوي، بل ويتصل بها وتشمله ويشملها كل باحث أعطى وأجزل العطاء في ساحة العلم المباركة بهذا المعيار؛ فشمولها أصدق من قصورها على رمز بعينه، وعمومها أبلغ من خصوصها وأوسع من أن تُحد بحدود أبناء الفناء.

ولو كتب العقاد عن علي مبارك وأشبع القول فيه كما أشبعه في محمد عبده، لكانت أوفى صفة وأصدقها عليه هى تلك الصفة، فكما توجد في محمد عبده، فلا أقلّ من على مبارك – وغير علي مبارك – صفة خاصّة تنطبق عليه.

ولا مبالغة عندي في شئ إذا أنا قلتُ : إنّ عصمت نصار نفسه فيما كتبه عن رموز الثقافة التنويرية في مصر والعالم العربي، وفيما كشفه عن شخصيات لم تزل باقية في دائرة الظل، يعدُّ واحداً جديراً عن استحقاق بهذه الصفة، ممّن يتصلون بتلك الخصيصة التي ينطوي عليها “عمل العبقرية المطبوعة على التعليم”، فليس أقدر منه وصفاً ينطبق عليه تماماً كما ينطبق على الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده والعقاد وكثير من رموزنا التنويرية والثقافية ممّن والوا بالعناية هذه الخصوصية في أصل عناصرها الرفيع.

د. مجدي إبراهيم

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏نظارة‏‏‏
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *