Share Button

منهج الدرس الفلسفي في الإسلام

(رؤية نقدية)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

هذا المنهج من الأهمية بمكان، لأنه يركز تركيزاً شديداً على منهجية البحث الفلسفي بوجه خاص؛ ولسوف نتوقف معه وقفات طويلة، وذلك لأنه يتضمَّن عناصر ونقاط لابدّ من معرفتها ودراستها دراسة منظمة؛ لتكون عوناً للباحث في الفلسفة بصفة عامة، والفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص. 

ــ الفلسفة تنوير :

ذات يوم؛ وبالتحديد في الأول والثاني من إبريل لسنة 1998م، عقد المجلس الأعلى للثقافة ندوته بعنوان “التعليم الفلسفي في مصر”، يومها كانت مرت ثلاث سنوات على حصولي على الدكتوراة، فساهمت بورقة بحثية عن منهجية الفلسفة وخاصّة الفلسفة الإسلامية، بحكم التخصص، ولكن برؤية نقدية، كنتُ على قناعة – إذ ذاك وربما لازلت – أن الفلسفة منهج بلا موضوع، وأن نزعة التنوير فيها آتية من إعمال المنهج في الموضوع، وأن المشكلة المطروحة لا يمكن الوصول فيها إلى موقف يعالجها من غير إعمال المنهج، وللمنهج إذا صح استخدامه أن يطبق على أي موضوع وفي أية مشكلة يتناولها الباحث بالفحص والاستقصاء.     

بادي الرأي عندي أن الفلسفة تنوير. والتنوير يدعو إلى إشاعة الثقافة العقلية والفلسفية بين أفراد الجماعة الإنسانية على وجه العموم. ودعوته إلى إشاعتها في مجتمعاتنا العربية أخص وأحرى وألزم وأجدى بالاهتمام. وهذا هو الدور المفصلي الذي تنوط به الفلسفة في تأدية رسالتها نحو تنوير العقول وتثقيف الأذهان.

فليست الفلسفة تجريداً يسبح في عوالم اللامعقول، ولا هى بالترف العقلي الذي لا يجدي نفعاً لبني الإنسان؛ بل هى ضرورة واقعة وواجب فرضي بمقدار ما هي “تنوير” يهيئ الذهن البشري لأنْ يمضى مع المعقولات يستنطقها بما تجود عليه وتسخو به عقول العقلاء وأخلاد المفكرين. وبمقدار ما ترتفع الفلسفة في عالمنا المعاصر، يرتفع معها الوعي ويرتفع الإدراك، وتتهيأ الأذهان لقبول المعاني المنبثقة عن نور العقل وصحة النظر السديد.

والمجتمع الذي ينبذ التفلسف ولا يكترث لدور الفلسفة في نهضة العقل البشري هو مجتمع يقول ـ بأصدق لسان ـ إنه مجتمع هجمي متوحش لا يرقى ـ من بعدُ ـ إلى مستوى المجتمعات المتحضرة، ولم يصل إلى مرقى التحضر المقبول.

وإني لأذكر قول “ديكارت” الفيلسوف الفرنسي إذ يقول :”إنما الفلسفة وحدها هى التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين. وأن حضارة الأمة وثقافتها إنما تُقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها. ولذلك؛ فإنّ أجلَّ نعمة ينعم الله بها على بلدٍ من البلاد هى أن يمنحه فلاسفة حقيقيين”.

وليست الفلسفة بمعناها المجرد هى وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين، ولا هى وحدها ـ بهذا المعنى نفسه ـ التي تُقاس بها حضارة الأمة وثقافتها، ولكنما إفرازات الفلسفة وحصاد عقول رجالها، واقتدارها على تحليل الواقع ومدّ الإنسانية بالأذهان الجيدة، تحلل وتثقف وتهذّب؛ هى بهذا كله : أقدرُ على تمييز قوم عن قوم، وأصلح لقياس حضارة الأمة وثقافتها حين تُقاس الحضارة والثقافة بثمرات العقول والأرواح ولا تقاس بطفاسة النفوس وشراهة الأبدان وتفوق الأرجل والأقدام. هنالك يكون معيار التقدُّم يكمن في العقل والروح وصحة الأنفس وتهذيبها، وفعل الأخلاق والفضائل، واتخاذ فريضة التفكير غاية شريفة لا وسيلة حقيرة.

وبهذا المعنى ـ لا بمعنى سواه ـ تكون الفلسفة عندنا تنويراً يُشعل فتيلاً من وهج العقل المفكر، فيضيء كثافة الظلمة المتفشية في سُدَف اللامعقول.

تُرى .. ماذا عساها كانت تكون أمتنا العربية، قياساً على رأي ديكارت، فيما لو خلت من وجود فلاسفة حقيقيين، نفخوا من أرواحهم على جثمانها فأحيوه بعد ركود وممات، حتى نطقت بما جادت به حضارتها سخية تقدر الفضل الوافر من عطائهم، وتسعى إليه، وهى تبغي المزيد من جنس هذا العطاء؟

ــ ثلاثية لا بدّ منها :

في الفلسفة العربية فلاسفة، وفيها متكلمون، وفيها متصوفون، هذا إذا نحن نظرنا إليها بالنظرة الاصطلاحية الدقيقة المباشرة، وقصرنا اهتمام الفلسفة العربية الإسلامية على هذه المجالات الثلاثة؛ لاحظنا أنها تُلبي حاجات ثلاث تخدم مطالب الإنسان المعاصر الذي يريد أن يجعل من الفلسفة غاية ما يتمناه لوطنه ولأمته من ارتقاء العقل وارتقاء الذوق والوجدان : الحاجة الأولى : عقلية صرفة.

والثانية : شرعية تتمثل في الدفاع عن العقيدة، وتوفيقية بين ما هو عقلي وما هو نقلي. والثالثة : روحانية أخلاقية.

المطلب الأول : أختص به الفلاسفة؛ فأداروا بحوثهم ودراساتهم على العقل ومنهج البرهان القائم على الأدلة المنطقية البرهانية. وهم فيما أداروه من بحوث كانوا مُبدعين، مضيفين جديداً، مبتكرين، إلى جانب تأثرهم بالفلسفة اليونانية ولم يكونوا عالة على أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان الذين كانوا تأثروا بهم في بحوثهم ودراساتهم الفلسفية، والتي عرضوها لنا قائمة على العقل، والعقل وحده دون سواه.

والمطلب الثاني : كان من اختصاص المتكلمين، علماء أصول الدين، الذين استهدفوا الدفاع عن العقيدة الدينية بأدلة من العقل غير أنها أدلة حوار وجدال تقترب إلى الخطابة وإثارة موضوعات جدلية؛ لتجيء مع تطبيق منهجهم؛ بعيدة عن العقل البرهاني والنظر المنطقي الاستدلالي الذي توافر لدى الفلاسفة الخُلّص وقاموا به على أكمل وجه.

وكان المتكلمون في دفاعهم عن العقائد الدينية بين ما هو منقول وما هو معقول، مسلحون بسلاح المنطق والدليل، وإنْ كانوا يميلون إلى مقررات الدين أكثر من ميلهم إلى مقررات الفلسفة على خلاف السائد بالفلاسفة الخُلص؛ فميلهم إلى التوفيق بين الفلسفة والدين أقرب إلى النزعة الدينية الخالصة، فلم يكن أحد من المتكلمين يقول بقدم العالم مثلاً كما قال خُلص الفلاسفة. ولم يكن أثرٌ بالمباشرة توخونه لأرسطو أو لأفلاطون إلا وكان ضعيفاً ليس بالقوة التي كان عليها التأثير الفلسفي كما ظهر سواء لدى فلاسفة المشرق العربي كالفارابي وابن سينا، أو فلاسفة المغرب العربي : كابن باجة وابن طفيل وابن رشد.

أمّا المطلب الثالث : فقد أختص به المتصوفة، فكانت مقولاتهم تهدف إلى ثورة الروح وخدمة الوجود الروحي في الإنسان في أول مقام. لم تكن النظرية لديهم أولى بالعناية من الممارسة العمليّة، ولم يكن التجريد الفلسفي غاية الغايات لديهم ما لم يكن خاضعاً للوهلة الأولى للتجربة الصوفية.

وفي كل مطلب من هذه المطالب الثلاثة، مفتاح منهجي لدراسة المشكلات الفلسفيّة والكلامية والصوفية بمجالاتها الفلسفية ذات التراث الحضاري الضخم في الإسلام. وكان هذا المفتاح المنهجي هو بمثابة “التنوير” الذي قصدناه حين قلنا : إنّ الفلسفة تعني عندنا التنوير : تنوير العقل، وتنوير القلب والوجدان، وتنوير الشعور الديني بنور الإيمان قصداً على التحقيق.

فالمفتاح التنويري الذي أقامه الفلاسفة منهجاً لهم هو العقل. والمفتاح التنويري الذي توخاه المتكلمون واستقام مع المنهج هو أدلة الجدل في بث الخطاب دفاعاً عن عقائد الإسلام. والمفتاح التنويري الذي اتخذه المتصوفة منهجاً لهم يسيرون عليه هو الذوق؛ من حيث يخاطب الضمير، ويُعلى من شأن الشعور الديني، ويرقى دخائل الوجدان. ففي فلسفة فلاسفة الإسلام تنوير، وفي علم الكلام تنوير، وفي التصوف تنوير .. وأي تنوير؛ ففي الحالة الأولى؛ تصبح الفلسفة تنويراً للعقل.

وفي الحالة الثانية؛ يهتدي المتكلمون إلى جانب العقل بنور الشرع. وفي الحالة الثالثة : يكون التنوير للقلب بغير شك في هذا ولا خلاف؛ لأن التنوير في هذا كله هو الرؤية الحضارية تنهض بها فلسفة الإسلام في معالجة القضايا الكبرى والمسائل الشائكة العميقة التي أختص بها الفلاسفة والمتكلمون والصوفية اختصاص العمق المعرفي، وهو ـ أي التنوير ـ منهج العقل العربي ممثلاً في فلاسفته ومتكلميه وصوفيته، غالباً عليهم في إبراز المشكلات الفلسفية، ومحاولة طرح الأسئلة التي تحاول الإجابة عليها، مع التثاقف الدائم حول قضايا الفكر الإسلامي.

وبمجرّد طرح السؤال (فلسفياً) يصبح العقل فاعلاً مفكراً وقادراً في الوقت نفسه على الحلول المتعددة ذات البدائل، وإذا لم يصل إلى الحل ـ وفي الغالب لن يصل في المباحث الميتافيزيقية إلى حلول ـ يكفيه شرف محاولة طرح الأسئلة؛ إذْ السؤال الفلسفي عموماً أبلغ وأعمق من محاولة الإجابة عليه.

وربما جاءت الحلول التي يطرحها العقل وفق منهج يتخذه بإزاء المشكلات المفروضة هى مما يراه المنهج موافقاً للعقل تارة، أو مخالفاً له تارة ثانية، أو جامعاً بينه وبين غيره من مناهج تتلمس أسباب التوفيق تارة ثالثة، على المقدار الذي يختلف فيه علم عن علم، ويتميز فيه علم عن علم آخر في الموضوع والمنهج والغاية.

فليست العلوم الشرعية على الجملة ذات موضوع واحد، ومنهج واحد، وغاية واحدة. ولكنها تختلف باختلاف ما هو متواتر في نشأتها على سبيل التصنيف بين علم يبحث الأحكام الاعتقادية كعلم الكلام، وعلم يبحث الأحكام العملية بتباين فروعها كعلم الفقه : شرائعه وأحكامه من حيث ما يتصل منها بكيفية العمل وحسن الاستعداد بالطاعة والموالاة، وعلم آخر ينظر إلى الأحكام الشرعية (النظرية منها والعملية) من جهة ملابستها بنفس الطالب، المؤمن بها، نظرة ذوقية روحانية موصولة بشرايين الفكرة القلبية؛ فيفسر ما جاء فيها تفسيراً ذوقياً متفقاً لا مع منطق العقل المحدود بل مع منطق الشعور الوجداني القلبي، وذلك هو التصوف.

وجميع هذه العلوم ليست بخارجة عن بدائع الحركة الفلسفية الكبرى في ظل الحضارة الإسلامية؛ فإنها ـ ولا شك ـ كانت حركة تهيئت معها الأذهان للإبداع الفكري، وهو أساس البناء الحضاري في ظل الإسلام. ليس هذا فقط؛ ولكنها بمقدار ما هيئت أذهان القدماء إلى بناء حضاري، هيئت كذلك أذهان الباحثين المعاصرين في التراث الفكري إلى خطورة الوقوف بالضرورة على تفهم الماضي، والماضي المستنير منه على وجه الخصوص؛ لأنه قِوام الأصالة وقوام الهُوية، وقوام المواصلة والإبداع على سُنن الأقدمين ممّن شيدوا أساس البناء بقدرات الصبر والإخلاص والاحتمال؛ ليكون أساساً حضارياً للشخصية المسلمة المستقلة تصل طارقاً بتليد؛ وليصبح مقوماً من مقومات الذات العربية الإسلامية في نشدانها الوعى الأصيل بأصالة تراثها بين تراث العالمين.

(وللحديث بقية)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *