Share Button

منهج الدّرس الفلسفي في الإسلام

(رؤية نقدية)

(10)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

ــ ملكة النقد الذاتي في التصوف خاصّة :

إذا نحن انتقلنا إلى حقل معرفي آخر من حقول الفكر الفلسفي الإسلامي، وهو حقل التصوف : الحقل الذي جعل من توجهات التصوف الروحية الجزء المتمم للفلسفة العقلية، ومن المعرفة الذوقية كمالاً للمعرفة البرهانية، ومن علوم الحقائق والأذواق آفاقاً علياً لعلوم الرسوم والحروف، وجدنا أن التصوف يقوم على منهجية ـ كما تقدّم ـ ذوقية، ربما لم يستبصروها كثيراً أولئك  نقدوه، ولم يتبيّنوا دلالاتها فيه؛ فغاب عنهم قيام التصوف على تلك المنهجية الذوقية. لكن أكثر الذين بحثوا فيه ووالوه العناية والرعاية أبرزوا دفاعهم عنها ضد منتقديه من المستشرقين وغير المستشرقين من دوائر الفكر الإسلامي سواء كانوا فقهاء أو قرّاء أو استدلاليين، وقارنوا بين ماضي البحث الأمين عن طلب الحقائق كما تحقّق في الدّرس الفلسفي الإسلامي، وبين حاضره الذي تنقطع فيه الأصالة أو تكاد.

يظهر  في هذا الحقل المعرفي عبق التبتُّل للفكرة الفلسفيّة العلوية، ومذاقات الروح، ومطالب الوعي العالي ـ لا العادي ـ بكل تأكيد.

في هذا الحقل المعرفي نرى منهج النقد واضحاً عند كبار الصوفية سواء كانوا محققين كالجنيد والنوري وأبي العباس ابن عطاء والشبلي وأبي على الدقاق وغيرهم ممّا لا يحصى لهم عدد في هذا المقام، أو كانوا كتّاباً مؤرخين كالسَّرَّاج الطوسي صاحب “اللمع” وأبي طالب المكي صاحب “قوت القلوب”، والكلاباذي صاحب  “التعرّف لمذهب أهل التصوف”، والقشيري صاحب “الرسالة القشيرية” وغيرهم وغيرهم .. هذا المنهج النقدي يحلو لنا تسميته بــ “ملكة النقد الذاتي” في التصوف خاصّة، وإنْ شئت فانظر نظرة خاطفة سريعة إلى الحارث بن أسد المحاسبي في كتابيه “الوصايا أو النصائح الدينية” و”الرعاية لحقوق الله”، أو إلى أبي القاسم الجنيد في بعض رسائله كرسائل في التوحيد، و”دواء التفريط” أو إلى كتابه “السّر في أنفاس الصوفية” بتحقيقنا، أو إلى القشيري في “رسالته” أو إلى أبي حامد الغزالي في “إحيائه”.

أقول؛ لك أن تنظر نظرة خاطفة إلى أعمال هؤلاء الفكرية ومصنفاتهم العلميّة؛ لتجد أول ما تجد فيها : أنّ مسحة نقدية يشع منها النور بمقدار ما يشع الاستبصار تشمل الوعى وتهدف إلى التهذيب والتشذيب، وأن سياجاً حافظاً من نظر الفكر إلى جانب نورانية الإيمان ووعي العقل البصيري ومراقبة القلب؛ يقودهم إلى ما عساهم يفكرون فيه ويرتأون الرأي على هُدى ما يفكرون.

وربما وجدت هؤلاء الطبقة من العارفين صوفيين عقليين قبل أن يكونوا صوفيين ذوقيين وكفى. وأن العقل يمثل لديهم أهمية كبرى تحميهم من الخطأ ولا توقعهم في مزالق الشطح والدعاوى الرعناء مع الوضع في الاعتبار أن العقل عندهم غير العقل عند الفلاسفة.

أقول؛ لك أن تنظر نظرة خاطفة إلى تلك الأمثلة القليلة من أقطاب كثيرين في التصوف؛ هم صوفية أساساً وجهوا سهام النقد اللاذع لأدعياء الصوفية الذي قصروا أنفسهم على ظاهر اللّباس، وارتداء الخرق والمرقعات، وشطحوا بعيداً عن معقول الناس، وتلونوا ولم يتمكنوا، ولم يُفرّقوا بين صحة التحقيق وخبط التخليط.

لك أن تنظر إلى مثل هذا كله؛ لتدرك أن “ملكة النقد الذاتي” قائمة في التصوف باقية لدى المتصوفة لا تفارق طريقهم لا في البدء ولا في المنتهى؛ لأن الطريق لسان صدق؛ فإذا خالطه الكذب أو مازجته الدعوى العريضة بغير بيان ولا دليل من واقع النفس عليها، أفسدت هذا العلم فساداً قلَّ أن يُعالج؛ فكان طبيعياً أن يحيط النقد الداخلي حركة الوعي الصوفي إحاطة بالغة، وأن يراقبها مراقبة شديدة.

وكان طبيعياً كذلك؛ أن تكون المراقبة لله هى الفاعلة، ولأن الطريق لسان صدق؛ فلم يعد يتمكن الهوى من فعل السلوك، كما لم تعد الدعوى العريضة الصادرة من رعونة النفوس قائمة ولا باقية.

ويكفي أن أحيلك إلى فصل عقده السراج الطوسي صاحب كتاب “اللمع” تحت عنوان “ذكر من غلط من المترسِّمين بالتصوف، ومن أين يقع الغلط، وكيفية وجوهه”؛ لترى فيه نقداً من الداخل، ذاتياً هو من قبل الصوفية أنفسهم لأنفسهم، لأولئك المترسِّمين بالتصوف وهم ليسوا منه، كما تجد نقداً مغلّظاً للآفات والأغلاط التي وقعوا فيها سواء من جهة الشرع أو من جهة العقل، بميزان معتدل وقرت فيه ملكة المناهضة واستقباح الآثام؛ بمثل ما نقد القشيري في مفتتح رسالته أدعياء التصوف ولصقاء المعرفة الإلهيّة بمنهج نقدي تحليلي ذوقي.

وإذن؛ ليس التصوف من الأشكال حتى نقصره على الحرف والعنوان. وإنما هو ـ وبهذه الملكة النقدية الذاتية ـ جوهر تتكامل حقيقته الأصلية الباطنة في قرارة الإنسان مع معطياته الظاهرة في العمل والسلوك؛ ليحيي بها ضميره، ويقوم من ثمّ ذاته، ولا ينكرها عليه إلا متعنت تهبط دونه مطالب الروح حيث يعلو الفكر ويترفع الشعور ويسمو الإدراك. وبهذه الملكة النقديّة أيضاً هُوجم التصوف السلبي (تصوف الأدعياء من ذوي المظاهر والأشكال والعناوين) في المقابل، وانتقدت طوائف المتصوفة؛ وإنّا لنجد كثيراً من زعماء الإصلاح في العصر الحديث شنوا هجوماً شديداً ووجهوا ضرباتهم على لصقاء الصوفيّة، على الأدعياء، فكانت نوعاً من أنواع التنوّر البصير جاء من أجل التطهير ويهدف إليه، ولكنه يُضاف إلى الملكة النقدية الذاتية التي أستنّها أقطاب العارفين أنفسهم، تتطهر فيه طرائق الوعي بُسبُل الحقائق الإلهيّة.

حارب جمال الدين الأفغاني (1838 ـ 1897م) أحد أعلام التجديد والإصلاح في عصر النهضة العربية والإسلامية الحديثة؛ أدعياء الصوفية، وأخذ عليهم ما أخذ من سلبيات التواكل والتعلق بغير الله من المشايخ ونحوهم، وهو مع ذلك لا يخلو جهاده من إمارات التبتل للخدمة الروحيّة.

ونعى محمد عبده (1849 ـ 1905م) سلوكيات وأفعال المتصوفة، واعتبرهم مسؤولين عن تخلف الأمة الإسلامية، وما خلت قط كتاباته من روح صوفية راقية كما لم تخلو نشأته الأولى من تربية كانت قائمة على أساس التصوف الحق المتزن المعتدل : تصوف العلم والجهاد والبحث في كل فضيلة وتوخي العمل بمقتضاها.

وحذى الإمام عبد الحميد بن باديس (1889 ـ 1940م) في الجزائر حذوهما في مناهضة الفاسدين المعطلين من الصوفية ومحاربة الأهواء والبدع. وهؤلاء جميعاً، وغيرهم الكثير والكثير، لم يبتدعوا هذا المنهج النقدي من عندياتهم لولا أن وجدوه ماثلاً أمامهم في نماذج صوفية مُبهرة. وهل من أحد ينكر مثلاً جهود الشيخ أحمد رزوق (846 ـ 899 هـ) ذلك المصلح الشاذلي في مقاومة البدع ومناهضة آثارها وتأليف المصنفات فيها كما فعل في كتابه “عدّة المريد الصادق”؟

كل هذا أو بعضه جهادٌ شريف فيه ضربٌ من ضروب التصوف الرفيع، وذلك لأن التصوف في أصل عنصره مجموعة من القيم الروحيّة الشريفة والخالدة، قيم الإنسان الفاضل الماجد في بني الإنسان. هو “القيمة” الشريفة في معدنها الأصيل وجوهرها الخالد الباقي.

ولاشك عندي و لاخلاف في أن التصوفَ مصدرٌ من مصادر النفخة الإلهية العالية المقررة بنص الكتاب العزيز (ونفختُ فيه من روحي) : مناط التكريم الإلهي للإنسان، نفخة من نفخات الارتقاء الروحي. ولا شك كذلك ولا خلاف في أنه قيمة خالدة، لكنما يقع الشك دوماً كما يقع الخلاف عندما نخلط مفهوم القيمة بمعنى رفيع وآخر وضيع، ونتصوّرها في ذاتها بصورة جميلة مقرونة بنفس التصور بأخرى قبيحة.

وليس في القيم ما هو قابل للخلط والتزيد والإضافات. وإنّما القيمة بذاتها واضحة. أمّا ما يتراكم عليها من مفاهيم وتفسيرات وما يتراكب فيها من عوالق الآراء المختلفة باختلاف قائليها ومرائيهم، وما عساه رُكب في طباعهم من أهواء ترتفع أحياناً وتهبط أحياناً، وهى لا ترتفع إلا بهوى ولا تهبط إلا بهوى؛ فهو عينه الأمر الذي يُفسد القيمة ويلوثها بعوالق الجراثيم الخبيثة من حيث لا ينفع معه سوى البتر والإزالة تماماً كما يلوث الوجه الجميل بجرثومة تعلق به ولا يصلح إلا إزالتها ولا يحسن إلا بترها. وعلى قدر مهارة الطبيب الذي يبتر والمعالج الذي يزيل تكون النتيجة في نهاية المطاف. وهذا وذاك ضربٌ من الإصلاح والتطهير أختص به أطباء النفوس وزعماء التربية الشعورية، والمعنيين بفكرة تطبيق الإصلاح الروحي في العالم الإسلامي؛ ففرّقوا بين القيمة وعوالقها، ونقّحوا المضمون من أخلاط القشور، وبيّنوا أن القيم في أصل عنصرها الرفيع خالدة لا يجوز الشك في فاعليتها، وإنّما هى تتسق مع الذوات الفاعلة حتى تبلغ مبلغ العلو والاتساع إذا وقفت وراؤها الطاقات الروحيّة، وكان لها من الفوائد المرجوّة ممّا من شأنه أن يجتمع تحت هدف سامٍ يسعى الإنسان إلى تحقيقه وبلوغه، ثم يقتدر في سعيه على البلوغ والتحقيق كيفما ينشد ويتوخى.

وكانت عنايتهم  بمراقبة القيمة في مظانها الرئيسة كونها مطلقة، لا تقتصر على زمان دون زمان، ولا على عصر دون عصر، ولا على فئة من الناس دون فئة أخرى.

على أنّ هناك فرقاً بين “القيم” ومجموعة “الأعراف والتقاليد” السائدة في مجتمع ما؛ فما يقبله مجتمع من المجتمعات من تقاليد وأعراف، يلفظه مجتمع آخر لا يكون مؤمناً بمثل تلك التقاليد والأعراف التي كان قبلها ونهج على منهاجها المجتمع الأول. الأعراف والتقاليد الخاصة بمجتمع من المجتمعات نسبية. والقيم مطلقة لأنها تتصل بالوجود الروحي.

(وللحديث بقيّة)

بقلم : د. مجدي إبراهيم  

 

Share Button

By Ahram.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *