Share Button

 

قضيتُ يومي كاملاً، وأنا أفكر في حديث قرأته شريف، حتى أن رأسي كادت تنفجر، وأيقنت أنني، ومن جري مثلي – لولا حُسن ظني بربي – مع الهالكين.

أبدأ أولاً بالإطار النظري ثم أتبعه بالحديث الذي قلت عنه إنه أشعرني بالهلاك المُحقق لقلة توافر معناه الإيجابي في،َّ وفي غيري، ممّن لا يوالون منه سوى المعنى السلبي.

الإطار النظري يقول : إنّ العقيدة شكلُ خاص للممارسة الدينية؛ لا توجد العقيدة قائمة بذاتها، ولا تعكس تفرّودها منعزلة عن الممارسة؛ إذ الممارسات العملية؛ تقوم بها الحركات الدينية لاتجاهات تعبر – من قريب أو من بعيد – عن دعائم الثقافة الإسلامية أو عن أنشطة الفكر الإسلامي؛ إنما تمثل مواقف تعكس أنظار الفلاسفة وحجج المتكلمين ومذاهب الفقهاء وآراء المجتهدين؛ فيُستخلص منها التطرف أو الاعتدال من خلال الممارسة نفسها ..

خذ مثلاً : إذا أستخدم العنف بأبعاده المتنوعة أو صوره المختلفة أو أشكاله المتباينة، دلَّت هذه المواقف من فورها على التطرف من الوهلة الأولى، بمقدار دلالتها المباشرة على عنف التأويل الديني ..

وعليك أن تنظر في حركات إسلامية حملت على عاتقها الواهن عبء الوصاية على الدين، منذ الوقت البعيد لزمن الوهابية وتأثيرها على الجديد من الحركات الإسلامية المتطرفة : الإخوان المسلمون، الجماعات الإسلامية في باكستان، وحماس والجهاد الإسلامي؛ وصولاً إلى القاعدة، ومروراً بعصابات داعش وجماعات النصرة وأنصار الشريعة؛ وغير هذا كله من أصناف وألوان لحركات دينية اتّخذت من العنف مطيّة لها، ثم بلغ بها العنف مبلغه ليكون سياجاً لها يعصمها من الفرقة والاختلاف أو يحجبها عن تعرية نشاطها الديني المغلوط.

الأصل في الموضوع كله – باعتبار العقيدة إنْ هى إلا الشكل الخاص للممارسة الدينية – هو أن الحسنة تسرّ والسيئة تسوء، وذلك في قلب المؤمن شهودُ للعمل الحسن الذي يسرّ صاحبه أو العمل السيئ الذي يسئ إلى فاعله .. يتقرّر هذا، مع الاعتراف بكون أعمال العبد الحسنة والسيئة علامتين على وجود رضا الله عن العبد وسخطه عليه؛ فإذا وفق الله تعالى عبده للصالحات سرّه ذلك؛ لأنه علامة على رضاه، وغلب حينئذ رجاؤه، وإذا خذله ولم يعصمه، فعمل بالمعاصي (فضلاً عن الكبائر من قتل وتشريد وتفجير وسفك دماء وتنكيل)؛ ساءه ذلك وأحزنه؛ لأنه علامة على سخطه عليه، وغلب عليه إذْ ذاك خوفه، ومن لم يبالِ بالخوف، دلّ ذلك على موت قلبه بالكلية .. هذا هو الأمر الطبيعي في الجبلّة الإيمانية والفطرة الدينية والطبع السّويّ.

وكذلك؛ يكون الأصل في الموضوع كله – كون العقيدة شكلاً خاصّاً للممارسة الدينية – هو سلامة القلب، وتفاوت درجته في السلامة، من حيث استقبال الموافقات والمخالفات .. كيف لقلب يدّعي صاحبه الإسلام عقيدة وسلوكاً؛ فضلاً عن كونه يدعو إليه؛ أن يحمل سلاحاً ليفتك بأخيه المسلم ويذيقه وأهله وأسرته وذويه ويل النكبات؟! مع أن الأصل هو أن مجرّد وجود الزلات داعياً بالمباشرة إلى موت القلب بالكلية؛ فمن علامات موت القلب فيما يرى المحققون :” عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات، وترك النّدم على ما فعلته من وجود الزلّات “.

إنما القلب، إذا هو كان حيّاً بالإيمان، حَزَنَ على ما فاته من الطاعات، وندَم على ما فعله من الزلّات، ومقتضى هذا : وجود الفرح بما يستعمل فيه من الطاعات، ويوفّق له من اجتناب المعاصي والسيئات. وإذا كان الرجاء يبعث على الاجتهاد في الطاعات، وهو عنصر مُقَوّم للعمل البنّاء ومؤدي إليه دفعاً ايجابياً، فليس من مقتضاه تركها وعدم الحزن على ما فاته منها أمناً واغتراراً. وكذلك الخوف، إذا هو كان يبعث على المبالغة في اجتناب المعاصي والسيئات؛ فليس من مقتضاه فعلها، وترك الندم عليها إيّاساً وقنوطاً.

الخوف والرجاء معياران توازن العمل في الشخصية الإسلامية المعتدلة والسويّة، بغض النظر عن الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب.
كيف بمن دفعت به العقيدة التي يدين لها بالولاء إلى موت القلب، فلم يلاحظ عليه علامات ترقّيه أو تردّيه فيما هو مقبل على فعله : أخير هو أم شر ؟! كيف؟!
نأتي إلى الحديث الذي استوقفني طيلة اليوم كله، مفكراً فيه، ومقارناً إيّاه بما انتهت إليه الممارسات الناتجة عن خلخل يكاد يَجُبُّ الاعتقاد .. إنها لممارسات مفصومة عن صحيح الدين وصحيح العقيدة بحيث يأتي السلوك في ناحية، والاعتقاد في ناحية أخرى، ممّا عساه يوحي بازدواجية المعايير الخلقية، فضلاً عن قدحه رأساً في يقين الاعتقاد.
في حديث ابن مسعود؛ رضوان الله عليه، حَسَنٌ ممّا رواه الطبراني في الكبير عن أبي موسي قال : بينما نحن عند رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إذْ أتاه أتٍ، فلما حاذانا ورأي جماعتنا أناخ راحلته؛ ثم مشى إلى النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله : أوْضَعْتُ راحلتي (أي جعلت بعيري يُسْرع في سيره) من مسيرة تسعٍ فسيّرتها إليك ستاً، وأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وأنضيتُ راحلتي (أي هزلتها وأضعفتها) لأسألك عن إثنتين أسهرتاني :
فقال النبي ـ صلوات الله عليه ـ : من أنت ؟
قال : زيد الخيل .
قال : بل أنت زيدُ الخير؛ سَلْ فربَّ معضلة قد سَألْت عنها .
قال : جئت لأسألك عن علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد.
فقال النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بخٍ بخٍ ؛ كيف أصبحت يا زيد ؟
قال : أصبحتُ أحبُّ الخير وأهله، وأحبُ أن يُعمَل به، وإذا فاتني حَنَنْتُ إليه، وإذا عملت عملاً قلّ أو كثر أيقنت بثوابه.
قال : هى هي بعينها يا زيد، لو أرادك الله للأخرى هيأك لها ثم لا تبالي في أي واد هلكت. فقال زيد : حسبي ، حسبي ؛ ثم أرتحل ولم يثبت .
لاحظ في الحديث هذه الأربعة :
(١) حبّ الخير وأهله. (٢) حبّ العمل به. (٣) الحنين إليه فيما لو فات عنوة. (٤) الإيقان بثوابه جزءاً وفاقاً.
ففي كل واحدة من هذه الأربعة فيض من المعاني مترع بالخير واليقين بثوابه ، فمن جافت قلبه وأمتلأ بغيرها من رذائل وآفات كان صاحب قلب ميّت لا محالة، لن يعود إليه النور ما لم يخالطه حب الخير.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *