Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

نستخلص من هذا كله نتيجة مهمة، وهى أن تجربة الصوفي في حد ذاتها سابقة على الفكرة. وحيث أقول “الفكرة”؛ فإنما يتوجه القصد مباشرة إلى الفكرة الفلسفية، فلا يفكر الصوفي أولاً ثم يُجرب، ولكنه يجرب أولاً ثم يأتي الفكر شارحاً لتجربته. ولا يكون العكس صحيحاً بوجه من الوجوه.

وهذا في تقديري هو ما يميز العرفان (Gnosis) عن الفلسفة؛ إذْ العقل في مجال الفلسفة أسبق من التجربة في مجال التصوف، والمتصوف أقدر على فلسفة تجربته العرفانية من الفيلسوف الذي لم يذق فتوح التجارب الصوفية؛ فأفلوطين مثلاً كان أخضع تجربته لعقله ولم يخضع عقله لتجربته.

وقد صَحّ عنه أنه قال لم يذق في هذه التجربة شهود الوصال (الجذب Ecstasy) مع الواحد إلا أربع مرات في حياته كلها. ومعنى هذا لم يبلغ حالة التسامي الفنائي (ecastitic trance) التي بلغها أصحاب التجارب العليا من صوفية المسلمين .. ربما لافتقاره إلي الوحي (Revelation) من جهة.

ومن جهة أخرى؛ لأن الفكر سبق لديه التجربة، فكل ما عرفه عن الواحد كان نتيجة تأمل عقلي وتفكير نظري، ولا يحدث هذا في بطن التجربة الصوفية ليتم بفضلها الشهود المباشر؛ لأنها تكون هى السابقة المُقدّمة على كل ما يثمره العقل أو يشكله بمقولاته تشكيلاً أوليّاً سابق على التجربة.

مقولات العقل وإطاراته الذهنية في مجال الفلسفة مُقدّمة على التجربة الصوفية مستقلة عن الاحتكاك بها، حتى إذا ما جاءت التجربة بعد ذلك جاءت ضعيفة بالقياس إلى إعمال العقل قبل ذلك؛ إذْ القوالب العقلية المفروضة تسيطر على الحالة الروحية وتحد من طلاقتها؛ فتأخذ الحالة الشكل الذي فرضته عليها تلك القوالب الجامدة، فتفقد جذبتها إلى الملأ الأعلى بمقدار ما تفقد خصوصيتها وتفرُّدها وامتيازها.

حقاً ! ربما تصبح تجربة عقلية فلسفية بامتياز، ولكنها ليست حالاً ولا سراً يشهد الملأ الأعلى شهوداً بالمباشرة.

والعقل بلا شك له زاويته التي لا ينفك يرى بها الأشياء التي تزخر بها طبيعتها بعد أن يكون قد أختار منها ما شاء وأسقط منها ما شاء، بحسب نظرته الذاتية الخاصّة بمحض ما تفرض عليه مقولاته لا غير، فلا يدع من ثمّ التجربة أن تستكمل طريقها في مسارها الروحي؛ لكأنما يستعجل هذا المسار: يعوقه بفروضه ويقطعه بتحليلاته ويسلط عليه أنظاره من غير أن يُتمم للتجربة مسارها. على العكس من ذلك كله يحدث في مجال التجربة الصوفية؛ إذ هى التي تفرض على العقل فيما لو كانت هى المقدَّمَة، وحين يعجز عن الانصياع لها والتقيد بأوامرها يتوقف عن الإدراك فيحيل إلى مدراك أعلى منه وأرفع، هى بلا شك مدراك البصيرة. والبصيرة لازمة بالضرورة للتجربة هي الأداة الإدراكية العليا لصنوف التجربة الصوفية باصطلاح “وليم جميس”.

أمّا العقل؛ فلا .. إذا سلّم العقل للبصيرة أمره، نجح الإنسان في إتمام مراقي الشهود. وإذا ناطح العقل البصيرة، خذلته الرؤية فما أتمّ الشهود. ولكن هذه الشروط والضوابط ليست حَديّة فاصلة، وإنما تأتي كما لو كانت صياغات تقريبية لفهم عمل التجربة الصوفية في ميدانها. ويبقى بعد ذلك دورٌ غير منكور للعقل لا يتخطاه، وهو أنه أحال أولاً على البصيرة. وهو ثانياً يظل شارحاً للتجربة ينظمها ويسترشد في التخريج بمعطياتها ويأخذ منها ولا يأخذ من نفسه. وبمقدار ما يتصالح معها ويحاول فهم أسرارها يُخضع قوالبه لها ويكيف مقولاته في إطار التعاطف معها من حيث لا يخضع المرء تجربته كما يحدث في مجال الفلسفة لقوالب عقله ومقولاته.

لكن سؤلاً يثيره الذهن المترقب في هذه الفروق : وهل يدخل الصوفي تجربته وهو مُجرّد بلا علم ولا فكر ولا معرفة؟ وأي تجربة هذه التي يخوض غمارها وهو جاهل، والجهل لا يُعوّل عليه؟

هذا سؤال يبدر من الوهلة الأولى نقضاً لدعائم التجربة الصوفية : علام تستند؟ وهو سؤال وجيه، لكنه قاصر في نفس الوقت، إذْ الصوفي أولاً يعلم من الشرع أصوله ومن العلم مبادئه ثم من بعدٌ لا يُشغل نفسه بكثرة الأقوال، ولكن يزج بها في بحار الأنوار؛ فالعلوم التي تعلمها والشرائع التي حصّلها تستدعي إعمال العقل وتتطلب جهد التفكير المُضنى الذي يصرف المرء عن غاياته ويشتت مقاصده، ويقدح في خلوصه من جهة. ثم من جهة أخرى؛ فإنّ بعض قدماء الأولياء من المسلمين كانوا يعدّون الإغراق في العلم يبعث على الزهو والخيلاء. والعلماء ذوي الإيمان الضعيف يراكمون العلم ويأخذون بناصيته إلا أنهم لا يطبقونه في حياتهم العملية ثم يبيعون العلم لقاء المال. ومن صحة الرأي عندهم أن العالم يكون متكبراً، دنيوياً، مسيئاً، ” إذا كثر بقباقبه وانتشرت كتبه وغضب أن يرد عليه شئ من قوله” كما يقول أبو نعيم في حلية الأولياء.

وهكذا لم تتغير على مدى السنين الطوال صفات المتكبرين من العلماء؛ لأنها صفات نفوس ملوثة يأكل العجب فيها كما السوس إلى حيث يقضي عليها وعلى ما تعلمت في غير تعليم. إنما الصوفي الذي يخوض غمار التجربة في المقابل، ليس مطلوباً منه أن يستغرق عمره في شتى صنوف المجادلات النظرية بل يقتصر على الفروض والرواتب، ويأخذ في العلم ويشتغل بدوام الذكر.

وهنا نقطة تبدو لي في غاية الأهمية ينبغي التنبُّه إليها وهى أن هذه المرحلة ليست دائمة بل هي مرحلة موقوته بزمانها ومكانها : (خلوات) على فترات متباعدة للتصفية والتنقية، يعول عليها عمل الباطن؛ لأن الصوفي لا يمكث طوال حياته متبتلاً منقطعاً دون أن يمارس أعماله في حياته اليومية عبادة في مواعيدها المناسبة واستخلاصاً لما يمليه عليه واجبه تجاه نفسه ومجتمعه.

غير أن هذه المرحلة الموقوتة، الفترة الزمنية التي يخوض فيها التجربة، تستغرقه بالكلية وتملك عليه أقطاره وهى مع ذلك تجربة مُمَنهجة لا تقوم فيه جزافاً بلا هدف ولا غاية يتغذى فيها الباطن بالأذكار لا بالأفكار، أو على حد قول ابن خلدون يتغذى فيها الروح العاقل بالذكر. وأكثر من تحدّث في فترة التجربة هم أقربهم إليها، هم من مارسوها، وكان الغزالي في ميزان العمل قد منهج خطواتها على مراحل، واستفاض ابن عربي من بعده في رسالة (الأنوار) شارحاً كيفية ممارستها على أصول منهجية وضعها. وإليك منهج خوض التجربة الصوفية كما وصفة الغزالي في خطوات :

(1) أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل، وولد، ووطن، وعلم، وولاية، أو ما شابه ذلك من القواطع والأغيار؛ بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها … (ولكن لا بأس من عناية القالب لا القلب بكل هذا).

(2) تخلو بنفسك في زاوية تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب.

(3) تجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مقبلاً بذكرك على الله تعالى، وذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول (الله .. الله .. الله) مع حضور القلب وإدراكه.

(4) لا تزال على هذا الحال إلى أن ننتهى إلى “حالة” لو تركت تحريك اللسان؛ لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك لكثرة اعتياده عليها.

(5) ثم تصير مواظباً على الذكر لا تنقطع إلى أن يمحي أثر اللسان؛ فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على هذا الذكر من غير حركة اللسان.

(6) تواظب ولا لاتزال تواظب إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ وهيئة الكلمة، بل يبقى المعنى المجرد حاضراً في القلب على اللزوم والدوام. ولك اختيار إلى هذا الحد فقط، ولا اختيار بعده لك إلا في الاستدامة لدفع الوساوس الصارفة.

(7) ينقطع اختيارك فلا يبقى لك إلا الانتظار لما يظهر من فتوح ظهر مثله للأولياء، وهو بعض ما يظهر للأنبياء. 

هذه الخطوات بادئ الرأي فيما لو تمت بحرص وعناية أظهرت فيمن يطبقها منهج الكشف كما يصوّره الغزالي : منهج تجريبي عملي (ممارسة عملية) لا يتسنى تطبيقه إلا إذا وجدت دوافع توفيقية من الله تعالى سابقة، ووجد معها القصد بالاستعداد. وعين ما يذكره الغزالي في الميزان والإحياء، ذكره ابن عربي في “رسالة الأنوار” مع اختلاف اللفظ وبقاء المعنى : المواظبة والاشتغال بالذكر بلا توقف حتى ينمحي الاختيار، ولا يتم هذا وعلائق الدنيا موصولة، والتعلق بشواغلها ومنغصاتها مستقرة في الباطن، رابضة كامنة في العقل، موجّهة للفكر إلى المحظور وغير المحظور.

هذا المنهج دالٌ من الوهلة الأولى على أسبقية التجربة الصوفية على الفكرة النظرية؛ فمجرد التفكير في شئ من أشياء الدنيا، قل أو كثر، عائق عملي أمام فاعلية التجربة داعياً إلى تعطيل مسارها، فضلاً عن انغماس الفكر في التفصيلات النظرية، فهو أيضاً عائق معرفي بكل تأكيد، لأن ما يتلقاه المرء بعد سقوط الاختيار علوم ليست من جنس علوم الأفكار النظرية، ولا هى من تصرفات العقل الفلسفي النظري فيها، ولكنها علوم تنقش نقشاً على رقائق القلب، ويعز التعبير عنها بالمباشرة بلغة العبارة العادية، لأنها صادرة عن وعي عالي، هو الوعي الصوفي (Mystical Consciousness)، والوعي العالي لا يُكيف مباشرة باللفظ المعتاد ولا بالعبارة العادية؛ لذلك كان الرمز هو المناسب للإشارة المُلغزة، وللومضة البارقة، وللذوق الفياض بثمار الأذكار.

 غير أن هذا لا يحدث في حقل الفلسفة؛ لأن الفيلسوف إذا سلط عقله على شيء يستغرقه بالكلية، ناهيك عما يتضمّنه محض التفكير من جوانب ذاتية متصلة بكل ما للمرء من عبادة الأنا واستشعار الذات واستبقاء الآنيّة التي لا تتلاشى أبداً من باطن الفيلسوف في حين لا تقوم للعارف قائمة، وهي فيه قائمة.

ما تعطيه التجربة ويُفاض عليه من علوم مُمدّة بفعل الهمة تكون عطايا الفهم الجديد لا الشّرع الجديد؛ لكنه يكون إذْ ذَاَكَ فهم على غير مثال مسبوق، فهم ممزوج بالمعاناة مخلوط بتعب الانتظار والترقب.

مثله، ينقطع الفيلسوف إلى شواغله النظرية ويخوض تجربته مع المقروء والمكتوب في إطار التأملات العقلية، ولا يخرج بالعقل ليُعَبِّر عن الحقيقة إلا كما يخرج غربال من بئر بتعبير الشاعر الفارسي فريد الدين العطار، طيّب الله ثراه، : ضع الغربال في بئر ماء ثم أنزعه من فورك؛ فهل تخرج بشيء سوى قاذورات ونفايات تلقى بها بعيداً غير آسف؟ وكذلك العقل الذي يدعي كشف الحقائق الإلهية بلا وعى البصائر والأنوار والتجليات، يحكمها وعى محدود بحدود ما تفكر فيه على شرطها، وعلى شرط مقولاتها لا على شرط القصد المُوجّه من وعى الإلهام والاستبصار، وهو أعلى وعي يمكن تحصيله من ذوق مقامات الإحسان.

الفاعل الأكبر في (الحقيقة) التي هي باطن الشرع هو هذا الوعى، وليس من فاعل غيره على التحقيق بكل تأكيد. ولهذا؛ ومن أجل هذا؛ يكون للوليّ خاصية الفهم الجديد لأجل تجربته الفياضة بعلوم الأذكار؛ وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وهى فيوضات التقريب (Emanation) أو تجليات (Manifestation) النور الإلهي في قلب الولي أو (Revelation) أو هي الحقيقة المطلقة التي تكشف عن نفسها فيما لا يتناهى من الصور والأشكال كما يسميها المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي في دراسته عن ابن عربي (The Mystical philosophy (of Myhyid Din Ibn Arabi, Cambridge, 1939, p.62).

ولأجل معيته الدائمة مع ألطاف الحق الله يتعلم الولي من فيوضات الحق وتجليات أنواره علي قلبه ما لا يتعلمه الفيلسوف من معارفه التأملية العقلية وهو يعلم من شرع الله ما لا يعلمه الفقيه المحدود بحدود العلوم الظاهرة.

ومحال مرة أخرى؛ على مستوى التجربة أن تكون عطايا الباطن كعطايا الظاهر سواء. ليس الوليّ يجاوز الشرع بتجليات علوم الحقائق على قلبه، لا ولكنه يتحقق من باطن الشرع، من النبع الصافي الذي يكرع منه شراب الأنس ووصلة الوصال.

الأولياء نجوم مضيئة في سماء الولاية يتجسد فيها قمر الحقيقة الساطع، وهو باطن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخالفون شرعه وهم قطع من نوره المشرق على التحقيق، كل واحد منهم قبس من شمس الحقيقة؟

إنما الذي يقدح في الأولياء طمع الأغبياء ممّن غرقوا في وحل الوقائع الظاهرة والأحداث اليومية الجارية؛ فاستغرقتهم وطمعوا في إقبال الدنيا عليهم؛ فحجبتهم عن نور الحق وأضواء الحقيقة.  

بقلم : د. مجدي إبراهيم      

                               

         

                 

         

          

 

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *