Share Button

يوسف كرم وقراءة مُبكرة لفلسفة الدين

بقلم : د. عصمت نصّار

تباينت تعريفات فلسفة الدين (philosophy of religion) في المعاجم الفلسفية المعاصرة غير أن جميعها لم يذكر الأصل الذي أنتج هذا المصطلح، واكتفى معظمها بذكر أول من ذكره في مؤلفاته، وأول من أجتهد في تعريفه وتحديد ميادين بحثه، والنظريات التي انبثقت عن تلك الميادين ومقاصدها ومآلاتها، وأثر تطبيقها في الثقافات المختلفة، كما خلطت بعد المعاجم بين مصطلح فلسفة الدين وفلسفة اللاهوت وفلسفة الروح؛ الأمر الذي تسبّب في الكثير من المشكلات البحثية استناداً على التعريف العام للمصطلح (النظرة النقدية الفاحصة للدين) التي تحتكم إلى العقل وحده في تناول كل ما يتعلق بعالم الأرواح والربوبية والكتب المقدسة والنبوة والمعرفة الغيبية والمعجزات والعقائد المؤله بوجه عام.

وقد أدى ذلك إلى التعميم في إطلاق مصطلح فلسفة الدين على مباحث كانت تُدرج في حقل الميتافيزيقا (Metaphysics) ناهيك عن المناهج والنظريات الفلسفية المعاصرة التي توغلت بدورها في قرأتها للدين (قراءة فينومولوجية للدين، ورؤية تأويلية للنصوص المقدسة، وتفسير سياسي أو اجتماعي أو نفسي أو نفعي أو مادي للغيبيات) أو كل ما ينطبق عليه مصطلح دين.

غير أن المفكر المصري “يوسف كرم”، (1886- 1959م)، الرائد الأول للدراسات الأكاديمية اليونانية العربية، كان له رأي آخر في توضيح العلاقة بين الفلسفة والدين من جهة والعقل وعالم الربوبية، وما ينتج عنه من جهة أخرى. وذلك عن طريق منهجين سوف نبسط القول عنهما في مقام آخر ألا وهما المنهج التحليلي، ولا سيما المهتم بدراسة المعنى والدلالة في هذا السياق. ومنهج علم تاريخ الأفكار المعني بتتبع ظهور المفاهيم ووجودها ومراحل تطورها بغض النظر عن الحقل المعرفي الذي لفظها والثقافة التي تأثرت بها وأثرت فيها؛ الأمر الذي قادني إلى التأمل والتعجب من مقالة مفكرنا في مجلة السياسة الأسبوعية خلال احتفالية كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول؛ بإدراج المعارف الفلسفة في المناهج الدراسية للمرحلة الثانوية، عن أدق المصطلحات الفلسفية وأكثرها أهمية في الفكر المعاصر تلك التي حاول فيها تأصيل المفاهيم وتحديد المجالات والكشف عن العلاقات المتشابهة بين المصطلحات ذات الصلة (بالميتافيزيقا) ذلك المصطلح الذي كان مسار المتهكمين من بعض المتخصصين قبل العوام بحجة أنه يعبر عن عالم (غير المعقول) أو الخرافة أو المعتقدات الغيبية أو التصورات الخيالية محاولاً إثبات أن مصطلح الميتافيزيقا لم تأت تسميته عشوائية ولا عن طريق المصادفة، وأن موضوعه لا ينفصل عن الفلسفة أو الحكمة العقلية، وأنه أقرب إلى دراسة اليقينيات المجرّدة أكثر من غيره من المباحث التي تحدثت عنها المعاجم والموسوعات الفلسفية المتخصصة.

وها هو يوسف كرم يحاول عن طريق تحفيره في المفاهيم الفلسفية ينظر إلى مصطلح الميتافيزيقا الأرسطي على أنه الفكرة الرئيسة التي شكلت بنية مصطلح فلسفة الدين؛ فيرى أن اندرونيقوس الرودسي (فيلسوف يوناني مشائي من القرن الأول ق.م) قد وضع المصطلح للإشارة إلى أبحاث أرسطو المتعلقة بموضوعات خارج نطاق المعارف الحسية والعلل القريبة المباشرة، فالميتافيزيقا تختص بدراسة المعرفة في ذاتها والحكمة الكلية المجردة والعلل الأولى، أو الأصل الذي ليس له أنواع، المتفرد في صفاته الذي لا يسبقه في المرتبة أو الزمن أي من الموجودات والجواهر التي ليس لها أعراض محسوسة والوجود المطلق المجرد.

ويعني ذلك أن المصطلح لم يكن اختياره عشوائياً أو عن طريق المصادفة كما يتوهم بعض المؤرخين، ويقول مفكرنا عن هذا العلم أن الميتافيزيقا أو علم النفس والربوبية والحقائق الكلية (يذهب إليه العقل بفطرته غير متعثر ولا مرتاب. وإنّما ينشأ الارتياب حين يتوهم العقل بعض الحقائق الجزئية ومبادئ كلية، فتنعكس عليه آية الوجود وتظلم البديهيات وتطمس الفطرة تحت قشرة سميكة من النظريات ولقد وقع هذا في العصر القديم والعصر الحديث).

وهذا القول على بساطته يؤكد على حقيقة طالما تجاهلها بعض القدماء والمحدثين أيضاً ألا وهي ضرورة التنبيه على عدم إقحام الفلسفة العقلية المنوطة بدراسة المعارف التي يتلقاها الذهن من خلال الحواس أو التصورات المولدة عنها والمعقولات المستنبطة من الخبرة والمشاهدات المختلفة التي يمكن للعقل استيعابها أو تخيلها أو التنبؤ بها. أمّا عالم الحقائق في ذاتها – التي يعجز العقل عن إدراكها أو تصورها لأنها في مرتبة أعلى من ألياته في التحصيل، ومن ثمَّ ينتهي العقل إلى إنكارها أو جحدها أو التمرد عليها والشك فيها، أو تطويعها لرؤيته الجزئية – فيختص بها العقل الفعّال أو العقل الكلي.

ويشير مفكرنا إلى بعض الفلاسفة الذين خلطوا بين المعارف العقلية الجزئية المستنبطة – من المشاهدات الإنسان العاقل- وتلك المعارف الإلهامية والرسائل المشفرة التي ترسلها النفس من حين إلى آخر إلى العقل الإنساني الذي شغله عالم الظواهر عن تذكر عالم الحقائق، فطمس ذلك الانصراف ذكريات تلك النفس في العالم الذي كانت تعيش فيه قبل اتصالها بالبدن.

مثل هيرقليطس (الفيلسوف اليوناني الذي عاش في أواخر القرن السادس قبل الميلاد) الذي تصوّر أن الوجود الحقيقي في عالم الأضداد، وكذا عند السفسطائيين الذين اعتقدوا أن العقل شاغل بالمعارف المتناقضة، وينتج بدوره تصورات متعارضة الوجود. فالأشياء عندهم تبدو في عيون الأفراد حقائق مُبررة ومحسوسة ذلك رغم التسليم بتباين أحكامهم عليها (فالحقيقة في ذاتها غير موجودة واليقين وهم والصدق نسبي).

ويضيف يوسف كرم أن هذا التخبط عند الفلاسفة قد دفع أرسطو (384-322 ق.م) للفصل بين عالم ما تحت فلك القمر وعالم ما فوق فلك القمر، فالعالم الأول يدرس بالعقل الطبيعي؛ لأنه لا يقوى على إدراك المعارف العلوية. أمّا النفس الكلية هي التي في إمكانها مشاهدة المعقولات في ذاتها والحكمة المجردة.

(فخطأ الحواس يصححه العقل الطبيعي. وخطأ العقل تصححه النفس الكلية العاقلة).

ويستشهد مفكرنا يوسف كرم بمقولات أرسطو نفسه التي نسبت إليه وأقرّها شراحه المشّائين (فمن ذا الذي يجهل أن الأشياء تختلف عند الحس بإختلاف مسافتها منه ومن ذا الذي لا يميز بين إدراك السليم والمريض والحالم واليقظان والعالم والجاهل، ولا يمكن أن يكون التغير كلياً ولكنه تغير في موضوع هو الذي يتغير بالعرض مع بقائه هو هو بالماهية أي أن التغير المدرك بالحس يستند إلى جوهر ثابت يُدرك بالعقل) بإلهام من عالم الحقائق المجرّدة التي لا يتسلل الشك إليها).

ويمضي مفكرنا مُوضّحاً أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650م) وتلميذه مالبرانش (1638-1715م) والفيلسوف الأيرلندي بركلي (1685-1753م) قد انتهوا إلى نفس الحقيقة التي تقطع بأن هناك يقينيات يستند إليها العقل بإلهام أو وحي من عالم الإلهية. وذلك على النقيض مما ذهب إليه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704م) زعيم المدرسة الحسية الإنجليزية الذي أنكر معارف النفس القبلية وميز بين نوعين من المعارف الحسية، الأولى بدائية ومباشرة مثل التعرف على المحسوسات وما ينتج عنها.

أمّا الثانية فتتعلق بالتفكير الذهني وموضوعها الحقائق المولدة من التجارب الحسية. ومن ثم ينبغي على الفلسفة – في رأيه – ألا تتعرض للقضايا التي تخرج عن نطاق التجربة الحسية التي أعتبرها العقل مسلمات أو يقينيات ذهنية. وتبعه الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776م) الذي وصف العلاقة بين السبب والمسبب بأنها عادة مثبتة بالتجربة الحسية، وليس لها تفسير آخر.

ويضيف الفيلسوف الإنجليزي جون استيوارت مل (1806-1873م) على ما تقدّم (أن العلوم الرياضية لا تخرج عن كونها علوم تجريبية، وأن العلم بالإجمال نسبي حادث).

(وللحديث بقية عن هذه المقالة الفريدة في زمنها ومعالجتها)

بقلم : د. عصمت نصّار

 

 

Share Button

By Ahram.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *