Share Button
بقلم : د. مجدي إبراهيم
يَمْتلكُ الإنسان المؤمن المسئول قدرة على الانفتاح على “المبدأ” قدر امتلاكه القدرة على الاعتقاد؛ فلئن كان الاعتقاد ممَّا يمليه الإيمان القلبي, فاعتناق “المبدأ” ممَّا يفرضه لديه التوجُّه العقلي, فهو على الدوام – عبر تاريخه الطويل – يتولى بالرعاية والتقدير مجموعة من المبادئ هى في الأصل “منظومة القيم”؛ التي تشكل وجدانه أو يفرزها عقله ويرعاها ضميره, وأنه لينظر إليها كل حين نظر التقدير والاحترام ما دامت هى التي, في كافة الأحوال, تشكل وجدانه وتحدِّد مساراته وتقوِّم شخصيته الحرة المستقلة؛ إنْ في الاعتقاد القلبي الإيماني, وإنْ في الاعتناق العقلي النظري؛ وسواء كانت هذه القيم ممّا يؤيده الدّين ويقره الشرع, وهنا يكون للاعتقاد القلبي أثره الفعَّال, أو كانت من جنس المبادئ العقلية التي لا يغفل عن الإيمان بها رجل عرف للعقل قيمته.
قد ينفق المرء من مداده – رخص هذا المداد أو غلا – فلا يستطيع أحد كائناً ما كان أن يضع له عنواناً على التقدم المعمول به في الفكر وفي الثقافة على وجه العموم حتى كأننا لم نعدْ قادرين على التكيُّف مع الواقع. فالواقع أشدُّ وقعاً على قهر النفوس والعقول والأفئدة لقبوله كما هو دون تغيير فلا كأننا درسنا, ولا كأننا تعلمنا, ولا كأننا نظرنا وفكرنا ورحنا في كل يوم وفي كل ساعة نقول : إن العلم هو الأساس فانهجوا سبيله تتحقق لكم نهضة الأقوياء العاملين؛ وإن التهذيب والتثقيف هما المقوم الحقيقي الجوهري لبني الإنسان.
حياتنا كلها لغط, منفِّر, أجوف, خربان! وهذه الأوصاف الأربع ( اللغط, المنفِّرُ, الأجوف, الخربان) هى الثمرة التي يتجرَّعها الفرد من الاجتماع والاختلاط. ليست للفردية قيمة مع الجماعة إذا كانت للجماعة قانونها الذي يقيد حرية الفرد فيطغى على كيانه واستقلاله. وليس للإنسان وجود مع أهواء الآخرين ومسايرة آفاتهم وأمراضهم النفسية. ما أجمل أن تكون منعزلاً مستقلاً بعيداً عمَّا يفرضه الآخرون عليك ممَّا لا يلق بالوعي الأدبي؛ فضلاً عمَّا لا يليق بالوعي بالآخرين. إن وعيك بالآخر ليس شرطاً أن يجيء مسايرة له فيما يفعل أو يقول وإنما هو يأتي بمقدار استقلالك عنه والنظر إليه من بعيد حسب اعتقاد الموقف واختيارك له. من بعيد قد ترى الصورة أوضح ممَّا هى عليه فيما لو اقتربت منها؛ إنك لو كنت قريباً منها لرأيت أشباحاً وظلالاً ليست هى ممَّا يمس الحقيقة في شيء, وإصلاح الجماعة إنما يكون في إتاحة الفرصة لذوي الاستقلال أن يمارسوا مهامهم الكاشفة عن عنصر” القيمة” في هذا الوجود. متى يأتي اليوم الذي يمتلك فيه المرء زمام نفسه؟ ومتى تحين “اللحظة” التي ينفرد فيها الإنسان بخالقه؛ ليعرف فتتكشفُ له – بعد المعرفة – سبلُ الحقيقة مجردة عن الزخرفة والرياء, خالصة عن كل ما هو مُبَهْرَج, مُزَركش, كاذب, خدَّاع؟ متى يمتلك الإنسان زمام نفسه فينفرد ليكون متفرِّداً؟ متى يتصل الإنسان فينا بالوعي الأسمى، بحقيقة الإنسانية فيه، ليكون سامياً في نفسه, قبل أن يسمو في نظر الآخرين, وليكتشف حقيقته الأصلية كلما رعي الوعي فيه. لماذا لا نعطي أنفسنا هنا, وهنا فقط, حَقَّها بمقدار ما نطالبها بواجباتها؟
وأول حقوق النفس هنا؛ وهنا فقط؛ أن تواجه الحقائق بمعوان “العقل البصير” والذوق النبيل والتصرف المقبول, وبمقدار مواجهتها للحقائق يكون اتصالها بمعدن القوة في ذاتها وفي طبيعتها, بل وفي وظيفتها المنوطة بها بقاؤها في هذا العالم.
نعم! حياتنا كلها لغط منفر أجوف خربان, وبعد التجارب الحقة إذا بالعلم الذي جعلناه هو الأساس فأردنا أن ننهج سبيله كيما تتحقق لنا نهضة الأقوياء العاملين, يصير هو نفسه المصيبة الكبرى التي يظل الإنسان يقاوم آفاتها وسلبياتها، وإذا بالفكر همُّ طويل, طويل, لا يخرج منه صاحبه إلا على أحوال متصارعة ومتداخلة من البؤس والشقاء والمرض والتعاسة وسوء الحال وقلة الموارد إلا أن يكون صاحبه متحذلقاً “نصَّاباً”, يجيد فنون الحذلقة “والفهلوة” بمقدار ما يجيد فنون التسلق على أكتاف الآخرين.
والجهلاء – أعازك الله من سلاطة الجهلاء! – ينعمون بنعيم الجهل؛ ولكنهم لا يشكون قط مرارة العيش وشظف الحياة! أما العلماء المفكرون المثقفون, فهم على الدوام؛ ناعون أنفسهم للتعاسة، شاكون شظف العيش وقلة الموارد التي تهيئهم أن يكونوا سعداء, وعزاؤهم الوحيد أنهم مهمومون بدرء المفاسد وإصلاح أحوال الأمة التي ينتسبون إليها ويدينون لها بالولاء. ومع ذلك؛ فهم أكثر خلق الله نبذاً من مجتمعاتهم وسلباً لمزاياهم وانتقاصاً لمواهبهم وتقديراتهم.
لقد بلغ السيل فيهم الذُّبَىَ : ماذا عليهم لو أنهم نكّسوا الراية وطووا اللواء؟ إنهم ليقولون مع الفخر الرازي مردِّدين قوله كما كان هو يردده في يأس من الإصلاح :
فأرْوَاحُنَا في وَحْشَة مِنْ جِسُوُمِنا وَحَاصِل دُنـْيَـــانا أذَى وَوَبـَــــالُ
لمْ نَسْتَفْدْ مِنْ بَحْثِنَا طوُلَ عُـمْرنــــا سِوَى أنْ جَمَعْنَا فيهِ قِيَل وَقَالوُا
إنه لحديث شريف ذلك الذي تقول كلماته الطاهرة :” لمدادٌ جرت به أقلام العلماء أفضل عند الله من دماء الشهداء في سبيل الله “, فهل يجوز بعد ذلك ألا تكون الكلمة العليا في المجتمع المؤمن برسالة الإسلام, لغير ما خطَّه العلماء بمدادهم الطاهر النبيل؛ كلُّ في مجال اختصاصه؟ ثم من ذا الذي يفترض فيه أن يتبع الآخر : أهل العلم يتبعون الناس أم الناس تتبع العلماء؟ وأيهما أرفع منزلة : العالم أم صاحب المنصب الذي يشوش على العالم سبحانه العلوية وينغِّص عليه حياته المباركة حين يقطع دوماً طرائق تفكيره؟
الواقع الذي تحسَّه الأيدي وتراه الأبصار : هو أن صاحب المنصب هو الذي ترفعه عيون الناس وتقدره نظراتهم, ولا تكون الصدارة في ظل أوضاع المجتمع المقلوبة إلا له, ناهيك عمَّا يتمتع به صاحب المنصب من تطاول على خلق الله واستخفاف بأهل العلم أحياناً كثيرة, ولِمَ لَمْ يستخف صاحب المنصب بأهل العلم وهو نفسه لم يصل إلى منصبه هذا إلا “بالحنجلة” والنفاق والتطبيل والتحايل على العلم وادعائه وهو مُجرَّد عنه ونبذ قيمه الظاهرة والباطنة ومطاردة العلماء الخُلَّص الذين لا يقدِّرون مطلقاً صاحب المنصب الوضيع (أو الرفيع سيان!) لأنهم يعرفون جيداً أنه لم يصل إلى منصبه إلا حين تخلى عن العلم, ولكن الواقع هو أن العلم تخلى عنه قبل أن يتخلى هو عن العلم؛ فإن للعلم أهلاً وجنوداً, وله كرامة مصانة في قلوب العلماء, وله عشائر يخدمونه بشرف البقاء في محرابه صباح مساء. له جنوده البواسل الفدائيون الذين يحرسونه من الباطل والسفيه, فيثبِّت عليهم أقدامه الراسخة في هذا العالم الغريب المأفون.
أما المنصب؛ فزائل لا يسعي إليه إلا الذين فرغت حواشيهم عن المطالب العلمية, فأثرتهم المريسة الإدارية, فصاروا يصدرون أحكامهم على العلماء خاطئة وكاذبة وهوائية, وهم في الواقع أبعد خلق الله عن الاشتغال بالعلم، وبالتالي عن تقدير رجاله.
للعلم رجاله الذين لا يخطئهم بصر الأعشى قبل المبصر, وينبغي لأصحاب المناصب أن يكونوا خُدَّاماً منقادين لهؤلاء العلماء, لا أن يضعوا أمامهم العوائق والعراقيل ويكسروا ما كان تبقى لديهم من عزائم أو يقيدوها بقيود من حديد, لتضيق حياتهم, فيشتغلوا بكل ما هو أدنى وأخس في دنيا كل ما هو فيها في الغالب خسيس ودنيء.
إن للعلم كرامة يعرفها العالم الذي يُحسن المجال الذي نبغ فيه؛ فإذا قابلته في طريقه ألوان المهانات التي يفرضها عليه أصحاب المناصب حقداً أو غيرةً أو حسداً أو كبرياء وجهالة, فقد يعز عليه أن يمضى مُعَافاً في طريق العلم لولا العزلة أو الهجرة, يأخذ نفسه بإحداها إلى حيث تكون وسائل الاحترام والتقدير. أما العزلة؛ فهى عزلة عن المجتمع الذي يعيش فيه, والناس, وانشغاله بعالم غير العالم وحياة غير الحياة, وفي تلك العزلة تكمن رياضة النفس على إبداع الجديد : متعة العالم الذي روَّض نفسه على الانعزال الإرادي لينتج وليبدع جديداً لا يبدعه ولا ينتجه وهو مهموم بشواغل الآخرين.
وأما الهجرة؛ فإلى وطن يرحم شقاءه, ويقدر عناءه, فيكفل له المواطنة الصالحة والتقدير المأمول, ولا عليه بعد ذلك لو فقد العالم المهاجر وطنه الأصلي, وظل حياته يستوطن أوطان الناس كما المتسوِّل على موائد كل لئيم.
مرة أخرى :” لمدادٌ جَرَتْ به أقلام العلماء أفضل عند الله من دماء الشهداء في سبيل الله”, لكن هذا المداد الذي تجري به أقلام العلماء ينبغي أن يعرف وجهته كيف تجري, ووحدة قصده كيف تسير في سبيل الإخلاص لله في الوجهة وفي وحدة القصد. إن صداقة العلماء لأقلامهم أغلى عندهم وأكرم من كل صداقة, وبالتالي فينبغي أن تكون أكثر إخلاصاً في سبيل الله الذي لا يعلو عليه سبيل مقصود؛ فليس هناك أوفى من قلم العالم وأفضل, وليس هناك أحفظ منه للسِّر ولا أكتم, ولا أنهج لخير الطرق ولا أبدع, هو الطريق الوحيد الذي يجيده العالم مخلصاً في علمه وعمله, ويبتغي مع الإخلاص راضياً أن يسير فيه؛ وذلك لأنه الطريق الوحيد الذي تبدو فيه الصداقة الحقة بغير زيف ولا بهتان وبغير نفاق ولا تطبيل؛ ففي القلم أبدع آيات التواصل المجيد بين عقل وعقل, وبين فؤاد وفؤاد, وفيه كذلك آيات المجد النافع وقناعات الصداقة الباقية الدائمة؛ فإذا تمَّ الحفاظ عليه, فقد تمَّت بالضرورة مصادر الثقة بكل ما هو نافع وخالد وجميل.
وعليه؛ فإذا لم تنقشع تلك الغمَّة ويسود في المجتمع نوع من الوعي والاهتمام بعقول الأمة التي ترغب في المشاركة, وتجد لديها القدرة على توجيه العقول إلى ما ينفع ويفيد؛ فلن يكون هناك إصلاح حقيقي نابع من ذوات هذه الأرض التي أرضعت أبناءها من ضرع الطين المصري الخالص الأصيل.
لا شك أن إصلاح هذا الواقع الذي تعيشه أمتنا العربية بضروبه المتناقضة حُلمٌ كبير يحتاج إلى جهاد طويل. والجهاد شأن عظيم من شئون الروح والضمير, ففيما لا يكون الجهادُ, والواقع الذي نعيشه يزخر بضروب التناقضات : الأخلاقية, والدينية, والمفارقات السياسية. فأما (الأولى) الأخلاقية : فالهيكلُ النظري غالبُ عليها, وما أبعدُ الفاعلية التطبيقية عن الواقع العملي حين يزعم لك الزاعمون أنهم يتحدثون في مجال الأخلاق.
وأما (الثانية) الدينية : فالسلوك فيها شيء لا يدلُ على الاعتقاد. والعمل الواجب تأديته غير القول الذي قيل للناس يهدفُ إلى البر, ولا عليه – من جهة أخرى – إنْ جاء حظ النفس من مطالب البر والتقوى والسلامة والصلاح في غفلة النسيان.
وأما (الثالثة) السياسية : فقد لخصتها فطرة الشاعر العربي حين قال :
ونشربُ إنْ أردنا الماء صبواً ويشرب غيرنا كدَراً وطيناً
فهذا هو بالضبط ما ينطبق على المفارقات السياسية في العلاقات الخارجية بين الدول. هنالك دول أنظمة) تنادي بأعلى صوت, بالحرية, والديمقراطية, والمواطنة, والتسامح, والأمن, والأمان, والعقلانية, والانتماء, والتعاون, والشـرعية الدولية, والسلام, والتعايش السلمي, وتحاول تطبيق هذه الأفكار الكبرى على شعوبها, أو مع الدول التي تتكافأ معها قوة وجنساً وعدة وعتاداً, حتى إذا ما خرجت تلك المفاهيم الكبرى إلى ميدان التعامل مع الشعوب العربية, تغيَّرت وأصبحت استبداداً وقهراً وظلماً وعَسَفَاً وغطرسة وعنفاً وحرباً ودماراً؛ فإذا المفاهيم مقلوبة, والكيل الذي هو بمكيالين لا يسري إلا على الدول العربية والإسلامية, وإذا بقول الشاعر حقيقية ليس فيها مجاز !
هذا الواقع المشحون بضروب المتناقضات والمفارقات .. كيف نواجهه؟ وما السلاح الذي نمتلكه ليساعدنا في فهم هذا الواقع ومحاولة إصلاحه؟ إننا نمتلك أسلحة كثيرة, لكنها مفقودة رغم وجودها الظاهر في الحياة عموماً, بل وفي سائر الحيوات التي نعيشها بأسلحة مزعومة؛ الأمر الذي يدعو المرء إلى كثير الأسف حين يجد في حياته الثقافية مثلاً أوضاعاً مقلوبة بمقدار ما يجد هذه الأوضاع المقلوبة تتواجد في غير الحياة الثقافية : اجتماعية كانت أو سياسية. أقول؛ يأسف المرء – كل الأسف – حين يرى الأوضاع المقلوبة سارية في أصلاب هذه الحيوات, ويشتدُ أسفه حيناً بعد حين عندما يشهد الفوضى والتخبط ،ثم لا يقوى من دخائله على تعميم فريضة الإصلاح, ونقلها من إطار النظر إلى مستوى العمل؛ فليس أمامه – من بعدُ – إلا الاستسلام للقيود التي تَغِلّه صباح مساء, وتكتفي بالأغلال ولكنها تطالبه أن ينساق وراءها كما تساق السائمة!
وربما كانت تلك القيود قيوداً غير مفروضة عليه .. ربما, بل هى قيود داخلية قبل أن تكون قيوداً خارجية, مردَّها إلى تكبيل العقل وتقييد الضمير وامتناع الحركة عن الانطلاق الحر وفقدان الثقة الباطنة في شعور العاطفة الدينية وسيادتها في أرجاء هذا العالم الحيران. وعليه؛ فكل ما يقابله من صدود وقيود من هذه الجهة إنما هو صدود داخلية وقيود ذاتية لا يقوى على تغييرها في نفسه, ولا هو بقادر على كسر أغلالها في باطنه.
ومن عجيب الملاحظات؛ إنك ترى فئات المفترض فيها أن تقول الحق في غير بطلان, وأن تتوخى الصدق والهداية في كل حال, لكنها في أغلب الأحيان, إنْ لم يكن في كلها, لا تقول – إنْ هى قالت – غير الباطل ولا تجاهر إلا بالبهتان, لكأنما عيشها على “النفاق” هو كل الغاية من الحياة لديها. وأسلوبها الذي تسير عليه هو الأسلوب الذي لا تمتلك على الإطلاق أسلوباً غيره ترتفع به زاعمة, راغمة, إلى دنيا الإصلاح, إنْ في مجال الفكر, وإنْ في دنيا الواقع والتطبيق؛ فلا جَرَمَ أن ما يصدر عنها من كلمات وعبارات أو أفكار وآراء, هو خواء في هواء : تضييع للوقت والجهد بمقدار ما فيه تضييع للقيمة من ورائهما؛ لأنه في الحق عبارة عن فراغ كهذا الفراغ الذي يحيط بنا, فلا نرى بعده نهاية كلما نظرنا إلى السماء أو توجَّهنا بأبصارنا شاخصين نحو ما يحيطنا من فراغات الوجود.
السلاح الذي تمتلكه هذه الفئات هو بلا شك من ضمن أسلحة كثيرة نمتلكها موجودة غير مفقودة, وبمقدار ما هى موجودة لا تجد لها صدى على ضروب الحياة التي ينبغي أن نملي عليها – قادرين لا عاجزين – فروض التغيير. هل هذا يعدُّ تقدُّماً تسير فيه دعوة المتقدِّمين إلى فروض التغيير؟ أم هو التخلف بعينه : التخلف النفسي والقلبي والمعنوي؛ فالذي لا يملك نفسه ولا قلبه ولا شئونه المعنوية والروحيّة هو يضربٌ بمعول هدم في جذور وجوده فتنهار كل القيم لديه من حيث يشعر أو لا يشعر.
هنالك أقلام شريفة تجاهد, وتسعى إلى الجهاد بطريقة أو بأخرى, صادقة في الوصول إلى الحقيقة الباطنة من وراء الزَّرْكشَات الفارغة والمظاهر الكاذبة, لكنها مع ذلك ينتابها الأسى من عراقيل تثبط الهمم, غير أنها على الدوام تؤمن بما هو أأمن لها من طريق الجهاد. وما دام الجهاد شأناً عظيماً من شئون الروح, فهو أدعى إلى بذل النفس في سبيله؛ وذلك هو “الإخلاص” الذي أشارت إليه حكمة مأثورة للإمام “محمد عبده” حيث قال :” الدليلٌ على صدق الإنسان فيما يدّعيه من “الإخلاص” أن يبذل من نفسه في سبيله؛ فإن لم يبذل فهو كاذب. ومهما يبلغ الإنسان, ولم يُظهر هذا المحك إخلاصه فهو غير مخلص”؛ لكأنما الإخلاص الذي يريده الأستاذ الإمام هو خيريَّة الصدق في العمل, والدأب على تحصيله, فلو كان صادقاً لكان مخلصاً, ولو كان مخلصاً لكان خيِّراً فيما يقوله وفيما يعمله.
واكتشاف “محك الإخلاص” هذا, والدأب على تحصيله مرة ثانية, لهو التقدُّم الروحي والنفسي والخلقي المرتهن بوعي”الذات الفردية” تجاه ذاتها أولاً ثم تجاه ذوات الآخرين .. ماذا عَسَاهَا تفعل, وماذا عَسَاهَا تترك؟ وإلى مَنْ تتوجه بما تفعل أو بما تترك؟
إن اكتشاف “محك الإخلاص” هذا لهو الرضى كل الرضى بالفعل أو بالترك, لا لشيء إلا لأجل جلال المُبتَغَى وجمال التوجُّه, ولا يتأتَّى الإخلاص عموماً بغير بذل النفس في سبيل الإخلاص كما قال الإمام عليُّ بن أبي طالب, رضوان الله عليه : ” خيرُ العَمل مَا أكرهت نفسك عليه”
هذا هو السلاح المفقود الذي نحتاجه أكثر مما نحتاج إلى غيره من أسلحة ظاهرة الوجود غير أنها في حقيقتها مفقودة : أن نكره أنفسنا في جميع الأحوال على العمل الخيّر.
إنّ وَلاءَنَا للتفكير المادي هو بلا شك سبب الكوارث الأخلاقية, والخصومات السياسية بين الأمم والشعوب, وهو كذلك سببٌ قويُّ من أسباب ضعف الوطنية والتنافس الغبي بين المواطنين على نهب خيرات الوطن, وسرقة أموال الفقراء والمحتاجين. وليس أشنع في تصوِّر العقلاء الصادقين مع أنفسهم, من أن تنقلب القشور والمظاهر, والسطحيات, والتفاهات, والأعراض الزائلة دون الجواهر الباقية, والغباوات الآدمية … تنقلب كلها إلى “حقائق” يصدقها الأعمى والمُبصر والكاذب والصادق, وذكي العقل وبليده على حد سواء.
ليس بالإمكان مطلقاً أن تجيء “الكماليات” أولى عندنا بالعناية والرعاية من “الأساسيات”, ولا أن تكون حقيقة الإنسان الأصلية مؤخَّرة عمَّا يُقدِّمه الإنسان نفسه من تقدّم في المادة واستخدام لها, أو من إبداع فيها وتطور معها, ولا يصح أن تكون استطاعته وإرادته أولى بالرعاية من حقيقته الباطنة في جوفه, فإذا لم تكن هذه الحقيقة موطن تقدُّم وإصلاح ورفعة فلا تنتظر منه أن يقدم شيئاً ذا بال في مظاهر المادة ووسائل الواقع الذي يعيشه بحواسه الظاهرة عيش العجماوات!
يمكن للإنسان أن يستغني عن كثير من مظاهر “التمدن المادي”, ولكنه لا يستغني بحال عن المدنية الروحيّة والتقدم الفكري؛ فليس أخطر على المرء من أن يتصور أن التقدم المادي وحده كفيل بإلغاء كل تقدّم في الأخلاق, وكل تطور في الحياة الروحيّة التي من شأنها أن تفرض التسامح, وتلغي في الغالب نزعات التعصب, وتقلع من الأساس جذور التطرف, وتزيل الكراهية بين القلوب والعقول.
وإنه لمن العجب العاجب, أن ترى أناساً من بيننا اليوم يسوؤهم أن يجدوا مَنْ يدعو في عصرنا هذا, إلى مثل هذه القيم, لكأنهم يعتبرونها اليوم قيماً ساقطة بمقدار ما يَعدُّونها دعوة إلى التخلف والرجعية؛ إنما واقع هذا العصر نفسه يشي بالنقيض, ويشير من أقرب دلالة إلى أن السقوط هو فيما يبدو ظاهراً فيما يصيب الإنسان من غفلة عن حقيقته الأصلية : من انفصام داخلي وتجزيء باطني وافتقار إلى معرفة التوحيد من جرَّاء مثل هذه الانتكاسة الشعورية بين ما يعتقد في الباطن من قيم ومبادئ ويسلك في الظاهر كل ما يناقضها. هذه هى “جرثومة التخلف” الذي يمليه اليوم ولاء الفرد المعاصر للتفكير المادي.
تلك هى جرثومة التّخلف وليس فيما سواه؛ فالمتخلفون حقيقةً لا مجازاً هم الذين يقلبون الحقائق لتكون فوضى بغير قانون يحكمها أو ناموس تسير عليه : كلِّ يُدْلي بدلوه فيها على هواه, ويقلبون “القيم” لتجيء قيَمَهُم الساقطة وحدها هى الحاكمة – هذا إذا صَحَّ أن تكون القيمة ساقطة وحاكمة في نفس الوقت! – ولكن هذا هو الواقع الصحيح المشهود اليوم. ولم تكن القيم الروحيّة أبداً في زمن من الأزمان ولا في عصر من العصور مدعاة للتخلف والرجعية, ولم تكن الدعوة إليها كذلك تعدُّ دعوة متخلفة إلا أن يكون المراد بالتخلف هو تخلف الإنسان عن حقيقته الأصلية, وعن مسائل مسيره ومصيره, فلا يدرك – من ثمَّ – على الحقيقة سوى ما تراه عيناه وتلمسه يداه ممّا عساه لا ينفذ بالمطلق وراء المحسوس الملموس.
أعودُ فأقول؛ إنّ التقدم المادي وحده, وأخصُّ بالذكر التقدم العلمي منه, لا يرشدنا في كل الأحوال إلى السعادة المنشودة؛ فهو إذا كان لا يتناقض مع الأخلاق, غير أنه لا يعطينا تصوُّراً واضحاً نتقوَّى به إلى معرفة القيم الخلقية ثم سلوك هذه القيم سلوكاً طيّباً يرضى عنه الله, بل بالعكس قد يكون عائقاً أمام التقدّم الخُلقي فيما تشهده اليوم أنظار المشاهدين لصفحات الفيسبوك والتواصل الاجتماعي التي خربت عقول الكثير من الشباب وغير الشباب، وأضاعت أوقاتهم وأعمارهم أكثر مما أفادتهم؛ فالشئون الروحيّة هى عمل القدرة الإلهية, والكشوفات العلمية هى عمل القدرة الإنسانية المحدودة. والإنسان لا يسعد نفسه بنفسه سعادة الأبد الدائمة إلا إذا أتكئ على قدرة الله الذي خلقه؛ ولا يزال مفتقراً إلى هذه القدرة ما دامت فيه أنفاس الوجود. وقديماً قال الفيلسوف الفرنسي “ديكارت” أبو الفلسفة الحديثة :” إن أولئك الذين منحهم الله عقولاً, لامناص لهم من أن يستعملوها في السعي الدائب إلى معرفة الله تعالى, وإلى معرفة أنفسهم …”.
ولك إنْ شئت أن تتأمل مثل هذه الكلمات الديكارتية البسيطة العميقة في آن؛ لترى الدلالة فيها تُوحي بأمرين : الأمر الأول؛ إنّ سلاحين أساسيين نفتقدهما في مواجهة الواقع الكدر المظلم الذي تعيشه أمتنا العربية, فلا بدَّ من استرجاع ما فقد واستعادة ما سُلب : أحدهما سلاح “النور العقلي”. والآخر سلاح “النور القلبي”.
الأول : يمنحنا قدرة الانفتاح على “المبدأ”؛ والمبدأ هنا هو العقل. والثاني : يهبنا الهداية الإيمانية، وكلاهما يعبِّران بالضرورة عن وعي الإنسان الهادف بحقيقته الأصلية.
والأمر الثاني : إنّ نوراً فطرياً مغروزاً للعقل في أعماقه, يصل الإنسان بمقتضاه, فيما لو عرف كيف يستخدم هذا النور, إلى معرفة الحقيقة التي هو عليها في نفسه, تماماً كما يصل بمقتضى هذا النور الباطني, فيما لو أحسن استخدامه, إلى معرفة الله تعالى.
والمعرفتان على السواء : معرفة النفس, ومعرفة الله؛ هما “اليقين” الذي لو أنطفأ معه نور العقل ما يصح له من بعد ذاك وجود, ولصارت معارف الإنسان كلها أهواء شائبة, ومظالم بينة, وأوهاماً متبعة, لا نورانية فيها ولا ضياء يهدي سواء السبيل.
د. مجدي إبراهيم
Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *