Share Button

التقوى وحدها هى من تُحدّد جانب الصّلة مع الله فتكشف عن مقدار قوته أو ضعفه. وليس من تعويل في هذا الجانب على شئ قدر ما يكون التعويل كل التعويل على القلب، على الباطن، على السرّ.

في الحديث الشريف قولهصلوات الله عليه (تعس عبدُ الدّرهم، تعس عبدُ الدينار).

ولم يكن الدرهم ولا الدينار يعبدان بركوع ولا بسجود، ولكن إشارته عليه السلام جاءت منصرفة إلى مجرّد التفات القلب إليهما.

ومجرّد التفات القلب وحده إلى السِّوى يقدح في العبادة لله فيبطلها؛ فلا يصحُّ من القلب ذكر (لا إله إلا الله) إلّا بنفي ما في نفسه وحذف ما في ذاته ممّا سوى الله تعالى، ومن امتلأ قلبه بصور المحسوسات ولاحظ “هذيان العالم”، لو قال ألف مرة (لا إله إلا الله) قلما يشعر قلبه بمعناها أو يتحقق من دلالاتها.

هذه هى خطورة العبادة على التحقيق !

وإذا فرغ القلب من مشاركة السِّوى ومعانقة الأغيار لو قالها مرة واحدة، لوجد من اللذة ما لا يستطيع اللسان وصفه، ولهانت عليه الدنيا كل الدنيا، وتقدّم الموت في سبيل هذه الكلمة على عبوديّة الحياة اليوميّة وهوانها ومذلّتها والعيش فيها نكرة بل حشرة على هامش الوجود.

جدلية العلاقة بين الإيمان والصبر تحدّد طبيعة التقوى لتكشف صلة العبد بخالقه، على أقل تقدير تكشفها لنفس العابد لا لغيره، وتحيطه بمعرفه نفسه قبل أن يطمع في معرفة الأخرين.

في سورة يوسف آية مباركة (90) تقول :” إنّه من يتق ويصبر؛ فإنّ اللهَ لا يضيع أجر المحسنين”.

وفي الآية المباركة عند التأمل أسرارٌ عظيمة : منها أن جعل الإحسان أجراً قائماً على فعل التقوى وفعل الصبر. ولم يكن الصبرُ تابعاً للتقوى فقط، ولم تكن التقوى مقدّمة على الصبر وكفى، ولكن العلاقة بينهما جدليّة. غير أن الجدل هنا ليس بالنظريّة بل هو مستعار للعمل وللحركة فلا صبر بغير تقوى، ولا تقوى يمكن تحصيلها بغير إعانة الصبر عليها.

الصبر والتقوى حركة فاعلة داعمة تغذي النفس الإنسانية بموردين من موارد النور : التقوى من جهة والصبر من جهة ثانية. على أن حركة الصبر مع التقوى حركة متسقة ليس فيما بينها انفصال بحيث يعمل الصبر على جهة وتعمل التقوى على جهة أخرى .. كلا بل ها هنا تكامل يؤدي بدوره إلى ترقية للنفس بفعل الصبر وعمل التقوى. لو كان هنالك تنافر لكانت الحركة سلبية على النفس من حيث لا صبر ولا تقوى.
هذه واحدة.

أمّا الثانية فشرط الأجر من الله تعالى أن يكون ها هنا إحسان : إحسان في التقوى، وإحسان في الصبر. نعم؛ فأنت قد تتقي وتصبر لكن في غير إحسان.

قد تتقي يوماً أو يومين أو أسبوعاً، وقد تصبر على فعل التقوى أياماً بل شهوراً، وقد تحسن في هذه الأيام المعدودة والشهور المحدودة وقد لا تحسن، فليس من تقوى وليس من صبر!

إذا لم تستطع أن تداوم على “فعل التقوى”، وعلى ألْفة الصبر الدائم ثم على الإحسان في فعل التقوى وفي فعل الصبر، فقلَّ أن يكون لك أجرٌ في غير ضياع.

إنّ الأجر الذي لا تخشى منه الضياع مشروط بالإحسان، لكأنه يُرادف العمل الدائب الموصول، ويواكب مسيرة الجهد المستمر في الطاقة النافعة نحو تغيير النفس وتحويلها من أخسّ العادات إلى أطيبها وأرضاها وأجملها في ميادين الإصلاح.

فكل عمل نافع يزكّي فعل التقوى وينميّه ثم يقويّه. وكل عمل نافع ينقل إلى النفس فضائل التقوى، مرهون بالاستمرار في الإحسان ومشروط على أساسه.

فلن يُقال لك أنك رجل تقي ما لم تكن التقوى ديدناً لك وعادة، ناهيك عن قول القائلين فيك، ليس هذا هو المهم، إنمّا المهم أن تأتيك من الله إشارة بتقواك، وأن تدرك علامة ذلك من نفسك فيما يعترض حياتك من مواقف وأحداث.

ولن تعرف هذه الصفة فيك، ولن تدرك رضى الله عنك بها ما لم يكن فعل التقوى طبعاً لك لا تفارقه ولا يُفارقك، فإذا هو كان على هذه الطاقة النافعة من ضوابطها ومقاييسها؛ فها هنا يجوز عليها أجر المحسنين.

على أن فعل التقوى وحده كفيلٌ بموهبة الفضيلة التي هى “موهبة الصابرين”، فكأنما التقوى فعل لا يقدر عليه إلا صابر، وكأنما الصبر في جوهره طريق المتقين، وكلاهما في مراتب الإحسان على ترقي وعلى مزيد من علو الأسرار …. ثم ماذا؟

انظر نفسك وقد عاقرت الآفات، فلا أنت بالذي يتقي ولا أنت بالذي يصبر؛ لأنك لم تحسن فعل التقوى ولم تحسن فعل الصبر، ولم تداوم عليهما بادي ذي بدء، فكيف تنتظر، من بعدٌ، جزاء الصابرين؟

كيف ترجو من الله أن يقطعك عن سوء عاداتك؛ لتفارقها في غير عودة؟
وإذن، فلتُقدم بالصبر على التقوى، وبالتّقوي تذرّع بالصبر وكلاهما للنفس كما تقدّم موارد النور.

لكن مع هذا لنثق : أنّ الذي في معيّة الله لا يُضام من مكروه آذاه، فالله قادر على خلق القوة فيه لمقاومة المكروه. وعليه؛ فلنكره أنفسنا على تطبيق دعائم الإيمان من : يقين، وصدق، وصبر، وجهاد، وإخلاص، وعدالة، وإحسان كيما نكون أهلاً بالمواجهة، جديرين على الحقيقة بصفة المؤمنين.

ومن أقوال الإمام عليًّ كرم الله وجهه :” إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله، وإنّ النفاق ليبدو نكتة سوداء، فإذا انتهك العبد الحرمات نمت وزادت حتى يسودّ القلب كلُه فيطبع عليه”.
الصبر للإيمان زاد لا غنى عنه أبداً.
ونجاح المرء دوماً بطاقة الصبر وفضيلة الاحتمال. وهما علائم النور، لأنهما علائم الإيمان.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *