Share Button

إشكالية الهويّة من غائية الخطاب إلى ضرورة المشروع

(ندوة بالمعهد العالمي للتجديد العربي)

أ.د عصمت نصار

 

لمّا كان التفكير الناقد هو النهج المُنتج للآراء والتصورات والمُوؤل والمُحلل للإشكاليات والقضايا، فأعتقد أنه الضرب الأنسب والأوفق لهذا اللقاء الذي نستهل به برنامج التثاقف الفلسفي لعام 2023م تحت مظلة المعهد العالمي للتجديد العربي. وإذا ما سلمنا بأن التحاور والتناظر والتصاول هو رحم التجديد المولد للفكر الحر فأنني أدعوكم لمصاحبتي في تلك الجلسة لممارسة الإمتاع والمآنسة لإحياء سنة الفلاسفة والمفكرين المستنيرين. وعليه؛ سوف نبدء من السؤال الفلسفي لنصل إلى فلسفة السؤال التي تنطلق من خمس قضايا رئيسة هي:-

  • عتبة موضوع إشكالية الهوية.
  • الهوية بين التعريف والدلالة والمفهوم.
  • الهوية بين الإنتماء والإنضواء والتغريب والإغتراب.
  • ثقافة الذات المفكر وبنيته وأهوائه وميوله، وسلطة الهوية واستبداد المجتمع.
  • رسالة المجدد وواجبات الموؤل.

***

أولاً: عتبة الموضوع :

لماذا جعلنا موضوع الهوية العربية إشكالية وليس قضية؟ فكلنا نعرف أن معنى لفظة إشكالية أنسب للتعبير عما يتسم به موضوع الهوية من حيث المشكلات التي أثيرت ومازلت، ومن حيث التعريف والمضمون والمسائل ذات الصلة وتصارع الرؤى والتصورات حول ماهية المشخصات التي تشكل بنية الهوية من حيث أصالتها وطرافتها وإدراجها ضمن التليد أم المستحدث الجديد. ونتسأل ثانيةً هل الإشكالية هي الإلتباس والمغالطة في الإستدلال، أو الأمر الصعب المعقد الذي يصعُب الفصل فيه أو الإختلاف والتناطح والتصاول الذي لا يُقطع بصدقه والمشتبه فيه دون دليل كافي أو صفة لقضية لا يظهر فيها وجه الحق كما عند الفلاسفة، أم تراها المقُرر دون دليل؟

الحق أن جُل قضايا الفكر العربي الحديث يمكن إدراجها ضمن الإشكاليات بالمعنى السابق ويرجع ذلك إلى الوقائع والواقعات التي أنتجت تلك القضايا شأن قضايا التراث والتجديد والحرية والإصلاح. أما مسألة الهوية فقد خرجت من بوتقة الوعي وتربية الرأي العام وتوجهات أهل الحل والعقد والسلطات القائمة ومثاقفات أصحاب المنابر ورجالات الدين وكتابات المستشرقين، وذلك في أخريات القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين في بلاد الشام ومصر والعراق ثم المغرب العربي. وقد دارت الحوارات حول مفهوم الوطنية والقومية والأصول الحضارية وعراقة الأنساب وأصالة المشخصات والسمات المشتركة والصفات المتشابكة دون جدوى. وليس أدل على ذلك مما يتردد في حواراتنا المعاصرة حول الآراء المتباينة حيال بنية المصطلح.

وإذا ما انتقلنا إلى مصطلح الهوية العربية سوف نُدرك أنه لا يقل تعقيداً عن سابقه من ناحية، ولا يختلف في صفة الخلط والاختلاف والالتباس في التعريف عما نجده حيال مصطلح القومية  Nationalism في الفكر الغربي الحديث من جهة أخرى. حيث ورد في معظم المعاجم السياسية والإجتماعية بمعاني متباينة (الوطنية، الأمة، والجنس، الأصل) وجعلت معظم التعريفات (اللغة والمعتقدات والتقاليد والأعراف ووحدة المكان والمصير والمصالح والمقاصد) من أهم المشخصات التي يعول عليها في تحديد مفهوم القوميّة.

وإذا ما انتقلنا إلى المثاقفات في المجتمع العربي الحديث سوف نجد ما يشابه ما أشرنا إليه سلفاً. وذلك لأنه من العسير التمييز بين مفهوم الهوية والذات، وذلك في السياقات اللغوية والمنطقية العربية. ومن المستحيل فصل الذات عن الهوية عندما نتحدث عن المشخصات العربية ووجودها، ويرجع ذلك لأصالة وعقلانية عقلها الجمعي الذي دأب على غربلة المستحدثات الوافدة، والمتغيرات العالقة التي يحملها الأغيار الوافدون عليها. وقد ظهر مصطلح الهوية العربية كرد فعل مباشر لتحديات ثلاثة رئيسة أنتجها الواقع المعيش :

أولها: الربط بين الدين والهوية وذلك على يد الراديكاليين التراثيين (الجامعة الإسلامية).
وثانيها: تعصب الأتراك وأنتشار شعار التورانية على يد حزب الإتحاد والترقي وتركيا الفتاة.
وثالثها: الدعوة للكوكبة والعولمة وتزييف المشخصات وجحد التراث والسير في زيل الثقافة الغربية تحت العديد من المسميات (الوحدة الإنسانية، المدنية الحديثة، ثقافة البحر المتوسط، والشروق من الغرب وليس من الشرق).

وعلى مقربة من ذلك؛ نجد حركات إحياء للنعرات العرقية والعصبيات المذهبية؛ الأمر الذي دفع عبدالرحمن الكواكبي، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، ونجيب العازوري، ثم الشيخ على يوسف، وأحمد لطفي السيد، وعبدالله النديم، وعبدالرحمن الرافعي، وسعيد الشرتوني، وأمين الريحاني، وعبد الحميد الزهراوي، وأحمد زكي باشا، وأنطون سعادة، وعبدالرحمن عزّام، وغيرهم من الرافضين؛ لربط العروبة بالعقيدة وإقصاء المسيحيين والأغيار عن مفهوم المواطنة الكاملة، وتغليب المشخصات الفاعلة في بناء الذات العربية مثل اللغة والتاريخ والمصير والتحديات والمصالح المشتركة على غيرها، والراغبين أيضاً في التحرُّر من تعصب الأتراك وتعاليهم على الجنس العربي ومحوهم للثقافة العربية وإنكار دورها للحضارة الإنسانية، ناهيك عن الظُلم والإستبداد والقمع الذي عانت منه المجتمعات العربية في المشرق أو المغرب تحت وطأتهم باسم الخلافة الإسلامية وخوفهم من هجمة الإحتلال الغربي ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى وإتفاقية سايكس بيكو .

***

ثانياً: بنية القضايا المطروحة :

أعتقد أن الوقت لن يسعفنا في الإسترسال في الحديث عن القضايا التي يحويها عنوان ذلك اللقاء؛ أعني مناقشة الفارق بين الخطاب والمشروع حيال هذه القضية؛ فعلى الرغم من إجتهاد المُجددين الأوائل في تحديد بنية الهوية العربية ومشخصاتها ومقاصدها إلا أن جميعهم لم يحسن التخطيط في نقل تلك المفاهيم ومقاصدها من طور التنظير إلى طور التفعيل وليس أدل على ذلك ممّا نحن فيه الآن. فإذا ما عرضنا قضية الهوية العربية على مائدة الفلاسفة والتفكير الناقد؛ فسوف نُجابه العشرات من التساؤلات من منظور مبحث الوجود ومبحث المعرفة ومبحث القيم، بالإضافة إلى تهكم الساخرين من تطبيق المقولات المنطقية الرئيسة على دلالة المصطلح؛ فأتصور أن يكون الطرح على هذا النحو :

  • هل القومية العربية موجودة بالفعل؟ وبأي معنى؟ وبأي دلالة؟
  • وهل تلك القومية العربية ومشخصاتها يمكن الإستدلال على وجودها في الثقافة المعاصرة؟ وفي أي مرتبه يمكن وضعها، في مكانة الفاعل أم المفعول دوماً؟
  • وهل عقلنا الجمعي المنتمي، المجدد، الموؤل، موافقاً على وجودها أم ساخراً من الحديث عنها؟

والحق أن ثقافتنا العربية بهويتها تلك لم تنتقل من (القوة إلى الفعل) ولم يلتفت المنظّرون لها إلى صيرورة الزمان ووضع المكان وأحوال المنتمين والجاحدين.

  • وهل القضايا التي تشغلها في الحاضر يمكن الحكم على صحتها أو كذبها في المستقبل أو ستظل غير معروفة ؟ وهل سنظل نحلل قيمنا ومبادؤنا في ضوء (المنطق المتعدد القيم) أو (المنطق المائي) أم ( المنطق الضبابي أو الغائم) ؟
  • وهل سنبيت نؤمن بمقولة “إما… أو الإطاحي ” أم ” (مبدأ الثالث المرفوع)”؟
  • وهل إنتمائاتنا يمكن إدراجها في قوائم الحضور أم في سجلات الغياب؟
  • وهل في إمكاننا التخلص من شيفونيتنا وعصبيتنا أم سوف نمسي نزييف تلك الهوية المزعومة ونلبسها أوهام الشاعر الروماني الساخر بيلاوتوس (نحو 250- 184ق.م) على مسرح الحياة أم قبعات الفيلسوف الإسكتلندي توماس كارليل (1795-1881م) وتيجانه في ساحة الزعماء والأبطال وحديثه عن أشكال فلسفته للملابس؟

والإجابة يمكن إدراكها عند الجاحدين لتلك الهوية في شتات الإغتراب وتأوهات المغتربين في مجتمعاتهم العربية. وكذا في أكاذيب دعاة الأصالة والإصلاح تارة، وفي أوهام وإفك التفكيكيين والفوضويين وأرباب البدع تارة أخرى.

وخليقٌ بنا أن نعمل سويّاً لتجديد مبحث الوعي في مشروعنا الحضاري فنعيّن الثابت والمتحول في مشخصات هويتنا ونتخلص من الأوهام التي شغلت حيزاً كبيراً في خطابات ذواتنا عن الهويّة ونجعل دراسة الواقع بكل ما فيه هي سبيلنا إلى إعادة بنائها. ونؤكد على أن نجاح ذواتنا المتطلعة إلى الرقي والتقدّم لن يتحقق بمعزل عن العيش مع الأغيار في متنفس من الحرية  والتناغم والمحبة والتراحم والقيم الأخلاقية المستمدة من مكارم تراثنا التليد ووعينا الجديد حتى نتمكن من الإجابة التي ينبغي علينا البوح بها وإعلانها : من نحن؟ وماذا نريد؟ ولماذا؟ ونربي أولادنا على حكمة الأيقاظ الأصحّاء الخالدة القائلة :”إذا كانت كلمة نعم تطرب الآذان؛ فإن كلمة لا تُحيي العقول. وأن الولاء والإنتماء لا يقوى على مجابهة عذابات الواقع بمنآى عن قناعات الأنا المُفكر وإنضواء الذات العاقلة”. وأن غاية التأويل المعاصر يجب أن تنصب على فضح الأكاذيب وتوضيح المعاني والدلالات المستترة، وفك الرموز وإزالة الإلغاز وليس إختلاق المعاني والدلالات التي تبدّد المقاصد الواضحة بذاتها.

وقد أنتهت التعقيبات والمداخلات إلى عدّة توصيات ونتائج :

أولها : أن قضية الهوية لم تُعد مقولات خطابية ولا شعارات غنائية؛ بل ضرورة حتمية واجبة التحقق بتخطيط علمي ينطلق من الواقع المعيش ويرمي إلى النظر للمستقبل، باعتبار العرب فاعل وليس مفعول.

وثانيها : ضرورة العزوف عن الشيفونية المضللة سواء بين الرأي العام القائد للزعمات العربية والسلطات القائمة أو في مُخيلة الرأي العام التابع حيث الثقافة السائدة في كل الأقطار العربية. وأخيراً بين تصورات الرأي العام القائد وأهل الحل والعقد والمجددين الحقيقيين المسئولين عن حركة الأمة العربية وتقدّمها إلى الأمام أو إلى الخلف.

وثالثها: التخلص من كل قيود معوقات البوح وحرية الفكر والرأي والعمل على إنهاض الأذهان الراقدة؛ لتلج أبواب الصمت وتحريضها على قيادة ثورة المستنيرين التي تنشد البناء وليس الهدم.

ورابعها : تفعيل الخطوات العملية التي تُحيل الهوية اللفظية إلى وقائع وواقعات تثبت أن العرب أمة ووطن له حدود أمنة ومصانة تأوي شعوب متحابة متناغمة في العيش بمنآي عن العصبية الدينية أو الحزبية الأيديولوجية أو الرجعية العرقية؛ أي أمة تعبر عن كيان واحد واقتصاد واحد (عملة وسوق وإستثمار طاقات وموارد) وقرار سياسي ودستور أعلى يدين بالعلم والمصلحة التي لا تناقد مشخصات الهويّة التي لا تفصل في الولاء والإنضواء في رفعة القوميّة والإخلاص في الولاء للوطنية.

وأخيراً : مراجعة المشخصات العقدية وتخليصها من الأوهام والأكاذيب وإعادة تربية الأذواق والبرامج التربوية والتعليمية؛ وذلك لإنتاج جيل جديد من شبيبة راقية جديرة بحمل الهوية العربية التي تعبر دوماً عن يقظة التفكير الناقد وأصالة العقل الراجح الذي لا تضلّه الأكاذيب ولا تصرفه عن مقصده الأهواء والمطامع الزائفة.

كما رغب الحضور في ضرورة عقد حلقات بحثية عن قضايا الهويّة ومشخصات الذات والتخطيط للمستقبل بنهج عملي وآليات فاعلة وبرامج مُنتجة في ضوء فلسفة التجديد وعقلانيّة وواقعية التأويل.

بقلم : أ. د/ عصمت نصّار 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *