Share Button

حين يسمع المرء بوفاة رجل منتج من رجال الفكر والفلسفة، يأسف كثيراً لسقوط القلم الذي بين يديه، فما بين القلم والقيم رابطة عضوية وعروة وثقى، ولكن هذا الأسف وإن يكن شجياً تعلوه لوعة مخامرة، لا يغير شيئاً من إرادة الله التي لا إرادة سواها على التحقيق، تعمل في هذا الكون عملها ولا مُعقّب، من بعدُ، لحكم الله، ولربما تكون رقدة الجسد أسعد لصاحبها بعدما استوفى عطاءه بين ما استدبر واستقبل من حياته، فملأها من فترة ميلاده إلى يوم وفاته بالعطاء النافع والعمل المفيد، وأحاطها بالقيم المعرفيّة إحاطة القدرة الباقية والسعي الحميد والتحقيق المنظور، وإذ ذاك تقصر المسافة عنده بين الموت والحياة لدرجة التداخل، ولا يلاحظ هذا التداخل مطلقاً من شغل نفسه بغيره وأحط من قدرها؛ لتكون قطعة عائمة في خضم هائل تجري مع القطيع في غير غاية ولا هدف إلا مساق التبعيّة والتسليم.

غير أن البقاء فيها لما ينفع الناس أولى وأهم وأقدر ثم هو أجدر بالنظر مقدار جدارة العبرة المُستخلصة من حياة كل عظيم معطاء، إذ يذهب الزبد جفاءً وتبقى المنافع الخالصة لوجه الله ينتفع بها الناس: ” فأمّا الزّبد فيذهب جُفاءً ويبقى ما ينفع الناس” .

تلك هى الحكمة التي تلخّص قانون الوجود من أعمال الإنسان، ولا تكشفها أبداً كل محاولة تخضع لسليقة الأهواء البشرية ثم تنصرف عنها إلى غيرها لتنسب آخر الأمر إليها !

فالذين انعزلوا عن الناس ولم يشاركوهم معمعان الهذيان قد حقّقوا في أنفسهم هذا القانون الإلهي؛ ليستخرجوا لهم ما ينفعهم، ويسمو بهم إلى تحقيقه فيهم قانوناً إلهياً وسنةً كونيةً تنتظم الغاية من وراء العمل كما تنتظم السلامة من هذيان الناس.

لفقيد الفلسفة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام مكانة عظمى بلغت من الإنتاج والتأليف والترجمة مبلغها الأوفى، فكانت حياته مُلآنة بالعمل الفكري والنشاط الفلسفي، فتميزت بالعطاء وتجاوزت المحدود إلى ما ورائه، فكأنما اتصلت القيمة الفلسفية فيها بالحياة العمليّة اتصالاً وثيقاً مشهوداً للعيان، وكأنما وافق النظر التطبيق موافقة الانسجام الذي لا خلل فيه ولا اعوجاج.

بيد أنها الفلسفة حين تكون قناعة وحيث تكون امتلاءً، فرجل الفكر والفلسفة عليه أن يبرهن عمليّاً بالعطاء على قناعاته، وعليه أن يثبت أن القيمة الفلسفية باقية في حياته هو قبل أن يطرحها بالنظريّة على المجموع، وأن حياته هو شخصياً مُلآنة بالحركة والنشاط والسعي الدؤوب نحو التحقيق من تلك القيمة كما يعتقد، وكما يدين، وكما يُوالي من المقبول والمعقول.

ولم يكن الدكتور إمام رحمه الله (1934- 2019) إلا واحداً من أولئك الذين تحققّت فيهم تلك القيمة ممثلة في إسهاماته الفلسفية : عكف على هيجل فترجم نصوصه وألف فيه وصنّف، فأخرج للناس من ترجمات الفيلسوف : أصول فلسفة الحق، وظاهريات الروح، وفلسفة التاريخ، ثم موسوعة العلوم الفلسفية، ومحاضرات في تاريخ الفلسفة لهيجل.

ولم يكن هيجل وحده مدار اهتمام الدكتور إمام بل ترجم كذلك كتاب الوجودية لجون ماكويي، واستعباد النساء لجون ستيوارت مل. وترجم عملين من أعمال الفيلسوف الإنجليزي “ولتر ستيس” هما “الدين والعقل الحديث” والتصوف والفلسفة.

وكما ترجم أعمال هيجل ألّف فيه واستوفي التأليف، فكتب المنهج الجدلي عند هيجل، وتطور الجدل بعد هيجل في ثلاثة أجزاء، وتطور هيجل الروحي .. دراسات في الفلسفة السياسية عند هيجل، ثم أخذت مؤلفاته تنحي باتجاه الفلسفة الوجودية، فكتب كيركجور، رائد الوجوديّة في جزئيين، وله من البحوث “مفهوم التهكم عند كيركجور”، وتنوّع قلمه في غير انتماء لاتجاه بعينه إلا أن يكون الإخلاص للفكرة المعقولة، فكتب المدخل إلى الفلسفة، وأفكار ومواقف، وهوبز فيلسوف العقلانية، ومعجم ديانات وأساطير العالم. واستهوته الفلسفة العملية، والسياسية منها على وجه الخصوص، فكأنما أراد أن يقيم نسقاً فلسفياً من وراء كتاباته تماماً كما أقامه القدماء؛ إذ قسّموا الفلسفة إلى نظريّة وعمليّة؛ فكما عكف في الأولى على هيجل وأقرانه، عكف في الثانية على السياسية والأخلاق، فكتب فيها “الديمقراطية والوعي السياسي”، “والأخلاق والسياسة”. والطاغية .. دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي، وهو كتاب من الأهمية بمكان يعول كثيراً على وجهة نظر مؤلفه، ويبسط مذهبه السياسي؛ إذ يعالج جرثومة التخلف لدى المجتمعات الشرقية التي استمرأت الاستبداد السياسي فاستغرقها. ومن أجل هذا نخصّهُ بالعناية هنا في هذا المقال.

يدعو الدكتور إمام في هذا الكتاب إلى قيم الديمقراطية بحيث تطبق في المجتمعات الشرقية تطبيقاً دقيقاً فتتحوّل قيمها فيما يشبه العقيدة إلى سلوك يومي يمارسه المواطن ممارسة يباشر فيها الطبيعة العاقلة، ولا يفتعلها افتعالاً يجئ مع الادعاء قشرة لا عمق فيها ولا قيمة ولا تقدير، مُجرّد مظهر خارجي أو لفظ ممجوج، فإن المجتمعات المتخلفة هى وحدها التي تفرض الطغيان وتستسيغه، إذ ذاك يكون الطاغية سارقاً لوعي الناس، يحيلهم إلى قطيع من الغنم، ليس له سوى وعي واحد ذو اتجاه واحد.
وكما لا يقبل الحكم الديمقراطي فكرة الطغيان فهو يرفض الاستبداد وفكرة المستبد العادل، ولا ينشط بالمطلق لقبول فكرة الدولة الدينية.

وما دامت المجتمعات الشرقية، والإسلامية منها على التخصيص قد تشرّبت ذلك الاستبداد ردحاً طويلاً من الزمن، فليس هناك من حلّ – فيما يرى الدكتور إمام عبد الفتاح، وهو يستعرض في كتابه نماذج من صور الطغيان مُطرّزاً بمقولات الفلاسفة ومركزاً على الاستبداد الشرقي خاصّة – إلا ظهور الشخصية الإنسانية الحرة المتكاملة التي يكفل لها النظام السياسي جميع الحقوق السياسية كاملة غير منقوصة، ويعترف المجتمع بقيمتها الآدمية وكرامتها الإنسانية.

ولا يكمن الحلُّ فقط في السلوك الأخلاقي الجيد أو في التديّن المحمود، فتلك أخلاق سلبية ليست بالفاعلة تشبه (عدّة النّصب) يمكنها أن تستغل الدين كما توظّف الأخلاق من أجل مكتسبات شرعية وسياسية زائفة، وهو الأمر الذي لا تخلو منه المجتمعات الشرقية، عربية كانت أو إسلامية.

ظاهر جداً في ظلال الحديث نزعة الفصل بين ميدان السياسية ومجال الأخلاق. ولكن هذه النزعة لا تخلو من نقض؛ لأن جرثومة الاستبداد لا تنشأ من فراغ ،وهى إذ تنشأ من الوهلة الأولى لا تنشأ إلا عن فصل السياسية عن الأخلاق، وتلك نزعة تواصلت مع معطيات الفكر السياسي الغربي، وتأصلت فيمن دعوا إليه، ليكون نموذجاً يحتذى عندنا في الأمم الشرقية. صحيح أن التاريخ السياسي للأمة العربية لا ينفصل عن التاريخ السياسي لأمم العالم الغربي اذ كانت التجربة الإنسانية مع اختلاف الشعوب واحدة ولكنها لا تمنع العبرة ولا الدرس، لأن المعرفة كما تصقل خبرة الفرد فهي كذلك تصقل التجارب للأمم والشعوب.

وإذا سألنا الدكتور إمام عن أيهما الأسبق في الترتيب: الأخلاق والتديّن أو السياسة المستقيمة؟! كانت الإجابة ولا شك في أن الأخلاق الجيدة والتدين الصالح نتائج مترتبة عن مقدمات النظام السياسي الجيد، لاحقة عليه، ولا يحدث العكس أبدا.ً

وهو لئن كان قد اقترح الديمقراطية حلاً بسيطاً يكسبنا مناعة ضد الطاغية، فإن هذا الحلّ وحده فيما نرى لا يكفي لتطهير مجتمعاتنا وسياستها المستبدة من جرثومة الاستبداد السياسي، فإن أكثر أفراد هذه المجتمعات لديها استعداد فطري للخنوع والانبطاح، ولديها الكفاية الكافية أن تكون قطيعاً من الأغنام لا يشذ عنها سوى من كملت آفاقه المعرفيّة واتصل الوعي فيه بمعرفة حقيقته الأصلية؛ فكان فرداً متفرّداً في ذاته لا يعرف للتقليد مكاناً ولا للجهالة العمياء طريقاً، ولن يكون هذا واقعاً فعلياً بغير أدوات معرفية يستخلصها العقل الشرقي الناقد من التعلم والتربية؛ فالديمقراطية لا تتحقق بغير نهضة التعليم وفلسفة التربية، والديمقراطية لا تمضي فاعلة في الشعوب والتربية فيها مشلولة أو منقوصة، والتعليم فيها فاسد أو هزيل.

وإذا كان الوعي أولى هنا بالتغيير؛ ليكون فردياً يسهم ويفيد ولا يخضع خضوع القطيع لطاغوت الطغيان، فإن الفكرة التي تستند عليها مقومات التغيير لا تفارق مطلقاً التعليم الجيد المتطور ولا التربية الواعية المستنيرة بنور العقل والمعرفة، فهما أساس الحرية ومطالبة الشعوب بحقوقها، ومقاومتها للطغيان والاستبداد.

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *