Share Button

تستند الزعامات على فكرة تقديس الأشخاص وموالاتهم، والنظر إليهم كما لو كانوا قديسين، بيدهم الحل والعقد، والخفض والرفع، والهبوط والصعود، واعتبارهم عنصراً فاعلاً بحق وبغير حق تجري عليهم مسائل المصير الإنساني.

وهذه آفة العقل العربي عامة وآفة العقل الدعوي بصفة خاصّة؛ فلا يقدح في هذا العقل شيء قدر ما يقدح فيه شلل التفكير؛ تُقدس فيه الأشخاص تقديساً يخرجهم عن مجاوزة النقد أو يجلّهم فوق المؤاخذة والاعتراض؛ لكأنما ما يقولونه هو الحق الذي لا مِرْية فيه، ولا يعتريه باطل بوجه من الوجوه، وهو الصواب الذي لا يتطرق إليه الخطأ.

ومن أسف؛ أن تكون هذه الآفة هى السائدة في ثقافتنا الدعويّة، وهى نفسها العائق الأكبر أمام تقدّم العقل العربي على التعميم، بمقدار ما تكون هى العائق الأفعل أمام التوجه القلبي باتجاه النظر إلى بنية الخطاب الديني؛ لأن هذا الخطاب الديني في المجمل يقدّس الأشخاص، ويُعلي من قدرهم وزيادة؛ ليطغي على الوعي القلبي ويتسبّب في إزالة مقومات التوجه والتفرد لله الواحد القهار؛ فلا يبقى في العقل طاقة النقد لأخطائهم وهم بشر يجري عليهم النقص كما يجري على سائر البشر.

وإنْ يكن الدين طاعة لرجل فهي المصيبة الكبرى وهي الكارثة العظمي، تكفي وحدها إلى قيام “النقد” ماضياً فاعلاً في بنية هذا الخطاب؛ فلا يتجرّد الوعي القلبي مطلقاً إلا للخالق وحده، أمّا أن ينقلب فيختلط عليه في الشعور والوجدان طاعة الله بطاعة الأشخاص وموالاتهم؛ فهذا هو الداء الدفين الذي يحتاج على دواء ناجع. ناهيك عن طلب الزعامة باسم الدين وتحت لوائه ومظلته، والتماس السّلطة من خلاله، ثم ما يندرج تحت هذه الزعامة الدينية من مسارب النفس وغوائل الشيطان ممّا يقدح في الإخلاص لله إن في العمل وإن في العبادة، فضلاً عن التوجُّه من قبل ذلك.

وعلى هذه الزعامة تنبت بذرة الإرهاب، وتظل تنمو في النفوس المريضة إلى أن تتحول إلى رفض دجماطيقي قاطع للآخر؛ ليصبح حال الزعيم “ما أُرِيِكُم إلّا مَا أَرَى”؛ استبداداً بالرأي وبالفكر يُفرض قهراً وتسلطاً على الناس.

إنما الإسلامُ في حلِّ عن الأشخاص .. مهما كان هؤلاء الأشخاص وأينما كانوا : أعرف الحق تعرف أهله، ولا تعرف الحق بالرجال؛ فإنّ معرفة الحق بالرجال فيها من النكوص والبطلان ما يؤخِّرها عن رتبة المعرفة الحقة؛ لاختلاف الأهواء والتَصورات ومواطن القوة لديهم ومواطن الضعف.

لا تعرف حقاً قط على ألسنة الرجال؛ بل أعرف الحق من الحق أولاً تعرف في الوقت نفسه أهله .. وتمادي في العرفان ! ليس كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص، ولا كل شخص يستقلُ في نفسه بالإحاطة بالعلوم؛ وليس كل إنسان في مستطاعه أن يدرك الحقيقة المجرَّدة عن نزغة الهوى، ولا كل إنسان بمقدوره أن ينظر إلى الواقع الفكري والثقافي نظرة الذين يفكرون ويعقلون ما هم يفكرون فيه؛ ولا كل إنسان بقادر على أن يكون من أولئك الذين يرون الأشياء بالله من خلف حجاب السبب. ولكنما هى مواهب وقدرات تتصل بتكوين العقل، وإحاطة القلب بنور المعرفة في غير حجاب.

ومن أجل ذلك قال سيدنا الإمام عليّ بن أبي طالب – رضى الله عنه – :” لا تعرف الحق بالرجال؛ أعرف الحق تعرف أهله”.
وأهل الحق يأخذون الحق من الحق لا يحيدون عنه، ويأنفون من أخذ الباطل ولا يطيقون استطالته وطغيانه.

ومن هنا؛ فينبغي معرفة الشيء في ذاته بعيداً عن خزعبلات الأشخاص؛ ومن هنا أيضاً؛ فقد لا حظنا أن أغلب الذين يَدْعُون إلى الإسلام اليوم – إلا مَنْ رَحَمَ ربك – ممَّن نراهم على شاشات الفضائيات؛ أو في ساحات الميادين والمنابر والطرقات، ويعقدون من أجل الدعوة أحكم المؤتمرات وأحشدها ويعبِّرون في وداعة عن فروض “العقل الدعوي”؛ يدعون له وهم في الواقع يدعون لأنفسهم ولمصالحهم ليعبدهم الناس بدلاً من عبادة الله. إنما يريدون أن يكتسبوا المكانة الاجتماعية، وربما ما هو فوق المكانة الاجتماعية أيضاً؛ بمثل هذه الدعوات التي لا تدلُّ علي الحقيقة بل تحتكرها.

واكتساب الزعامات الدينية فضلاً عن كونها تسيء إلى الإسلام، فهى تقدح في نيّة طالبها وفي وعي صاحبها بهذا الدين : روحه وخطابه وتبليغه بهذه الروح وبذاك الخطاب.

وفي الحق؛ قد كشفت أدبيات القدماء عن مثل هذه الزعامات المتسلطة؛ إذ كانوا يتنبَّهون إلى فعل الأهواء والمطامع والأغراض والمصالح فيها جيداً، ربما أكثر مما نتنبَّه نحن إليها اليوم، مع تطور الزمن وشدة الادعاءات فيه. وكان الإمام أبو حامد الغزالي أحد هؤلاء الكبار الذين أفاضوا في الجزء الثالث من “الإحياء”، في شرح تلك السدود والحواجز والقيود؛ ووجوب رفع تراكم الحُجُب التي تقف حائلاً منيعاً بين العبد والوصول إلي الحق؛ مما ليس ينحصر هنا تحديداً إلا في إشارات.

فهناك زعامة “الرياسة”، وهناك زعامة “الجاه”، وهنالك زعامة “المنصب”، وهنالك زعامة “السلطة” .. لا ريب كانت هذه الزعامات يشملها جميعاً مفهوم العلو، والتعالي، المجموع في التقدير القرآني تعبيراً بقوله تعالى :”تلك الدَّارُ الآخِرَةِ نَجْعَلهَا للَّذِيِنَ لا يُرِيدُونَ عُلوَّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً, وَالعَاقِبَة للمُتَقِينَ”( القصص: آية 83).

هذا العلو هو في بعض التخريجات يعني : النظر إلى النفس. أمّا الفساد؛ فيعني النظر إلى الدنيا، والأمن من المكر والكبر والعجب والغرور. وأصل ذلك كله من الجهل، (وليس الجهل هنا بالطبع جهلاً بالعلم، لا .. فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه في هذا الموطن هو من أجهل الجاهلين. الجهل هنا جهلُ بالنفس؛ ثم جهل بالله؛ مع كون الجاهلُ هنا عالماً من حملة الشهادات البرَّاقة واللافتات العلمية الكبرى؛ غير أنه يعدُّ جاهلاً مادام علمه لم يتحوَّل إدراكيَّاً إلي علم بالجهل؛ فالعلماء بالله على هذا هم علماء بجهلهم؛ أي هم الذين يدركون جهل أنفسهم عن أن تصل إلى “حقيقة الحقائق”؛ أو حتى ما دونها، ناهيك عن احتكارها أو امتلاكها؛ فضلاً عن التعبير عنها بعد العلم بها. فأما الذين يعلمون ويقولون مع شدة الادِّعاء إننا علماء فهم جهلاء على التحقيق؛ وعن الجهل يكون الكبر وطلب العز في الدنيا، والعلو في الأرض، والتلهف على السلطة والاستبداد بالدين من طريق الزعامة.
وطلب العز في الناس هو الذي يتولد منه العُجْب؛ فالوصول إلى قرب الله تعالى، وإلى مراتب دنوِّه كما نبَّه عليه سبحانه في الآية الكريمة، لا يكون مطلقاً لمن له حب “الزعامة” : رياسة، وجاهاً، وسلطة، ومنصباً، ونفوذاً .. وأترك لك أن تعدِّد أنت أنواع الزعامات التي تلاقيها في نفوس البشر ممَّن يحيطون بك وألوان الاستبداد بها.

وهو كذلك لا يكون مطلقاً لمن تمكن حب هذا كله أو بعضه من قلبه. وإنما يكون لمن حذف هذه الآفات المُمْرضة عن قلبه ولم يباشر حظوظ نفسه وهواه، ولم يخضع لمصالحه ومطامعه وأغراضه فيما يتوجَّه به إلى خالقه. هنالك يَخُصُّه الله بالدرجات الشريفة والسعادات الدائمة فلم تعد تأتي منه إذْ ذاك أفعال الخبيثين.

الدين لله لا للأشخاص. والجماهير العريضة، وقطاعات وفيرة منها في الغالب، تقدِّس الأشخاص الذين يتحدثون في الدين من حيث لا يشعرون بألوان الخطابات الطاعنة في الدين نفسه؛ شعروا بذلك أم لم يشعروا؛ وتُلْبِسَهُم أثواب القداسة لمجرد أنهم يتكلمون عن الله ورسوله، هذا إذا مسَّت دعوة الداعي مشاعرهم, وذلك لأنها جماعات تنزع إلى المحسوس في كل ما ترى, وفي كل ما تحسّ وتشعر، فتتخذ من الداعين إلى الله مكاناً للتجسيد القبيح؛ ليتسلط الداعي بعدها تسلطاً بغيضاً من حيث لا يشعر، فتتحول الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة على يده إلى سُلطة, وتتحول الموعظة الحسنة إلى سياط يعلو فيجلد قلوب الناس وعقولهم لا إلى رحمة للعالمين.
د. مجدي إبراهيم

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏‏نظارة شمسية‏، ‏نظارة‏‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

2 thoughts on “إيّاك أن تعرف الحق بالرجال ! بقلم : د. مجدي إبراهيم”

اترك رداً على عادل عبود إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *