Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

أظهرت الدراسة التي قدّمها المفكر المصري الأستاذ الدكتور عصمت نصار أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي بجامعة القاهرة على مدار أربع حلقات متتالية عن شخصية عبد الله بن المقفع (724- 759م) الخلقية والسياسية، تمايزاً يُلفت الأنظار من الوهلة الأولى إلى خطاب ابن المقفع بين الأدب والفلسفة، مطروحاً برؤى نقديّة، ومعالجاً مع الطرح النقدي بمسحة فلسفية أهم خصائصها هو الرمزية التي توخّاها الأديب في كتاباته.

أنصفت الدراسة الرجل حين خذله التاريخ، وحققت آراءه حين أهملها المصلحون في الغالب إلاّ القليل منهم، ودققت في رؤى النقاد من القدماء والمحدثين حول الأثر الخالد “كليلة ودمنة”؛ لتقابل بينها وبين المأثورات الفلسفية كما جرت لدى الفلاسفة سواء في قصة حي بن يقظان لابن طفيل، أو إشارات التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، أو مأثورات إخوان الصفاء ورسائلهم السريّةّ؛ ولتجلي عناية الكاتب بالأديب منهجياً في هدف واضح محدّد، هو كما قال : ” الكشف عن تلك المسحة الفلسفية التي ضمنها ابن المقفع كتابه “كليلة ودمنة”، وهو الذي يعدُّ من البواكير الأولى للكتابات الأدبية التي أرتدت الثوب القصصي المُلغز اتقاءً لغضبة السلطات القائمة سواء سلطة الحاكم ممثلاً إذ ذاك في أبي جعفر المنصور(ت 775م) الذي اتسم بالشدة والعنف تجاه الكتّاب والمبدعين والحكماء والفقهاء كذلك، أو كانت سلطة العقل الجمعي التابع مُشخّصاً في الجمهور”.

كان هذا هو الهدف الذي توخّته الدارسة بادئ ذي بدء، وإنه لهدف بلا شك يعمق النظرة الثاقبة إلى باكورة أدبية وفلسفية اتخذت مدادها الفعال من الرمز والتجريد والتحليق في سماوات الخيال، سبحاتها الفلسفية ومداركها العقلية، وكلها – كما ترى – مطالب أدبية وفلسفية لا غنى عنها، ولا مناص من تسليط الضوء عليها وتحليل معطيتاها السياسية والخلقية في إطار ممارسات حيّة فاعلة لا تقدح مطلقاً في قيمة العمل الذي يُنظّر له كيما يبقى أثره فاعلاً ممتداً غير مهمل ولا منكور في ثقافتنا العربية.

نشأ ابن المقفع مستعرباً في البصرة بين آل الأهتم الذين اشتهروا بالفصاحة والعلم، وأتقن اللغتين وآدابهما : الفارسية، لغة قومه، والعربية لغة الدولة والبلاد التي نشأ فيها، وتكسّب بعد وفاة والده (المقفع) بصناعة الكتابة، وكان مجوسياً يقال له (روزبة) وأعلن إسلامه وهو بصحبة عيسى ابن أخ الخليفة المنصور، وسمى بعبد الله، وكنى بأبي محمد.

كان الخلاف في زمنه على أشدّه بين مؤسسي الدولة العباسية، وكان كاتباً لدى عبد الله بن عليّ الذي خرج على ابن أخيه الخليفة المنصور. ولمّا طلب المنصور تسليم عبد الله إليه، رفض أخواه سليمان وعيسى تسليمه إلا بأمان منه يمليان هما شروطه، وكتب الأمان ابن المقفع فشدّد وبالغ في شروطه خوفاً من غدر المنصور، فنقم المنصور عليه، وراح يتربص الفرص للإيقاع به.

كانت الجراءة من صفات ابن المقفع، والصراحة في إبداء رأيه سمة غالبة عليه مع كونه – كما وصفه أحد معاصريه – أنه كان أذكى العجم المستعربين وأفصحهم، كريم الخلق، سخي اليد، شديد الوفاء، وهو مع ذلك كله كان ينتقد سير الحكم في البلاد أيام المنصور، فزاد حقد المنصور عليه، ودبّر المكائد للتخلص منه، فأشيع بعد قتله أنه كان زنديقاً يظهر غير ما يبطن ولا يؤمن بالدين، غير أن مصنفاته لا تشير إلى شئ من ذلك أبداً. مات وهو في السادسة والثلاثين من عمره.

كان ابن المقفع ضليعاً في اللغتين الفارسية والعربية، ترجم من الفارسية إلى العربية وأجاد في الترجمة، ونقل كثيراً من الكتب، ضاع أكثرها. ويرجّح أن تكون شخصية الفيلسوف “بيدبا” واضع الكتاب باللغة الهندية شخصية خيالية من وضع ابن المقفع نفسه، نظراً لاضطراب الحياة السياسية إذ ذاك على زمن المنصور وإشاعة القلاقل ممّا دفع ابن المقفع أن يضع الكتاب مرموزاً على ألسن الحيوان والبهائم والطير، وقد سماه “كليلة ودمنة” من باب تسمية الكل باسم الجزء نسبة إلى ثعلبين شقيقين يقومان بدور كبير في أحد أبوابه، وانتشر الكتاب في الأوساط الثقافية انتشاراً واسعاً، وهو أول كتاب عربي في الأخلاق يتضمّن نصائح وتوجيهات بطريقة المثل المعقول غالباً على ألسنة البهائم.

فلئن كان الأستاذ الإمام ” محمد عبده ” أوّل من وجه الأذهان عام (1902) إلى العناية بكتاب “كليلة ودمنة” ليكون على رأس الكتب المدرسية، وكان الأستاذ “أحمد أمين” أوّل من نوّه إلى ضرورة درس ابن المقفع مبيّناً أثره في الأدبين : العربي والفارسي، ومنتصراً لرأي الذين درسوه من قبل من المستشرقين كون كتاب ” كليلة ودمنة” يعدُّ أثراً رائعاً تظهر فيه آراء ابن المقفع السياسية والأخلاقية، فإن للدكتور “عصمت نصار” فضل استخلاص نسقية تلك الآراء من ثلاثة جهات رئيسية :

من جهة الفلسفة والمنهج، ومن جهة دلاتها الرمزيّة، ومن جهة التطلعات النقديّة فيها وفرز الأخلاق السلبية (الرذائل) عن الأخلاق الإيجابية (الفضائل)، ثم تأصيل ذلك كله فلسفياً، وهو من بعدُ، فضلٌ ليس بالقليل. ناهيك عمّا كنتُ ذكرته في خاتمة المقالة السابقة عن ابن المقفع الأديب والفيلسوف والإنسان، والسابق للفكر الإسلامي تأصيلاً لأسس الأخلاق، والقادح على الجملة فضلاً عن التفصيل في أقوال غير مسؤولة قيلت عن هذا الفكر جزافاً واعتباطاً من أنه لم يُخرّج لنا بحثاً واحداً أصيلاً في الأخلاق باستثناء كتابي “يحيى بن عدي” و”مسكويه” الذين نهجوا منهاج أرسطو والرواقيين من فلاسفة اليونان.
وقلتُ إن الفضل يرجع في تهافت هذه الأقوال وسقوطها إلى دراسة الدكتور عصمت نصار، وكنت أعني قصداً ما أقول.

فأولاً : هناك رمزية ظاهرة في التعبير عن مساقات الأبطال الذين اتخذهم الأديب ليجري عليهم مقاصده الخلقية في صورة حكم ومأثورات من القيم، ربما تنتسب إلى الفلسفة بصلة أو تتصل بأواصر الأديب أو تتوافر في رباط قوي يمزج بين الفلسفة والأدب في حكمة الأديب وذوق الفيلسوف، شأن كبار الفلاسفة والأدباء في التعبير عن قيم روحية وفلسفية بالرأي الذي يراه من وراء المرموز إليه، وفك الشفرات الباطنة الخفية والمضي بها إلى حيث ظلالها الدلالية، يحدث هذا في المسائل الأخلاقية على وجه العموم كما يحدث في نفس تلك المسائل حين يسقطها على الحاكم أو الرئيس من جهة التلميح لا من جهة التصريح؛ ” فإذا كان أفلاطون – كما يقول عصمت نصار- قد وضع الحب والحكمة في ذروة سلم الفضائل والمكارم، وراق لأرسطو تعظيم فضيلة الصدق والصداقة والوسطية على دونها من القيم المحمودة في ميدان الأخلاق، فإن ابن المقفع قد أكد على أن النبل والشرف والحب والعدالة ينبغي أن تكون في صدارة خصال كل حاكم في رعيته وسلوك كل راعٍ في معيته، فالحياء والعفة والوفاء والصداقة هى من العمد المؤثرة والأسس الرئيسية التي لا تستقيم بدونها الأنفس الخيرة والعقول المتسامحة والأعمال الناجحة”.

وقد صاغ ابن المقفع هذه القيم في صورة حكم وأمثال تجري على ألسنة أبطاله ممّن حكى عنهم ورمز لهم.

وثانياً : هنالك نظرية سياسية لابن المقفع تامّة الملامح والأركان، ذات أبعاد نقديّة كشفت عن أطوار الترقي في اختبار المجموع، وأظهرت أدوار التطور لمعالجة أقدارهم ومناقبهم، بمقدار ما كشفت عن مركزية البطل : الحاكم أو الرئيس الذي تناط به صلاح الرعيّة، تقترب من الديمقراطية في الإسلام، لا الديمقراطيات الحديثة المكذوبة كما يُصدّرها لنا العالم الغربي، فهو لا يزال وراء الحاكم بسياط العبرة ورقة الحكمة ولطافة الأنظار الفلسفية حتى يثنيه عن آفات الضعف أو المرض، ويرغّبه في الكمال الذي يزينه ولا يشينه، ولأنه هو الأبقى دوماً على رأس الدولة، فإن الفساد الذي يلاحقه هو الفساد الذي يحيط به ممّن يجتمع معهم فيقرّبهم، مؤيدين ومعارضين.

لكن الذي يُعارضه، إن لم تكن غاية المعارضة عنده في تقويم خلقه وبناء نفسه وتسويه ملكاته، فهو أبعد لديه من كل بعيد، وأدنى أن يكون خليطاً قذراً من المنتفعين والوصوليين والانتهازيين : “ذيول الكلاب” الذين يغتنمون فرص الانقضاض في كل حين ولو على الحاكم نفسه، ولا يتورّعون قيد أنملة أن يكونوا لؤماء من أجناس الطبع اللئيم، متى أقمتهم على طعمة المنفعة أُقيموا، وإذا فككت عنهم رابطها عادوا مخذولين إلى طباعهم اللئيمة.

هذه نقطة للأمانة تتقوّم بها المقاصد في نظرية ابن المقفع السياسية وهى ولا شك نظرية شرعية تتخذ مصادرها من تربية إسلامية قصداً وفعلاً، وأصالتها تعبير عن هذا المصدر من أول وهلة.

فإذا كانت الأخلاق لا تكاد تمسُّ الصلة بالسياسة من الوجهة العملية واقعاً معاشاً في الديمقراطيات الحديثة؛ فإنها هنا في أنظار ابن المقفع لا تفرقها عن السياسة ولا تفرق السياسة عنها.

أمّا النقطة الثانية التي تجعل من نظرات ابن المقفع نظرية سياسية تقترن بالديمقراطية في الإسلام فهي دحر الفساد بالعدالة، وتقييد الحاكم بقيود النقد والمعارضة، بالنظر بعين الاعتبار إلى الفلاسفة والحكماء وذوي العقول القويّة والآراء المنزهة عن المصالح، والآفاق المتسعة الراجحة في موازين الحياة بجوانبها المختلفة، فعلى هؤلاء تكون المرجعية النقدية واختيار أسس الإصلاح الذي يغنم به الحاكم كما تغنم الرعيّة، ولا يُساء من جرّاء فقدانه إلّا مجتمع لا تسود فيه العدالة ولا تشيع الخيريّة بل يسود الفساد في مرافقه ومؤسساته وسائر توجهاته ممّا يقدم على إصلاحه، وإصلاح ما فسد فيه.

لاحظ هذه النسقية كيف تمضي في تفكير ابن المقفع حين يربط العدالة رمز الخير والفضيلة بالسياسة بالقيم الخلقية في وحدة واحدة ليس فيها جور ولا نكوص، فلا السياسة تنفصل عن الأخلاق، ولا الأخلاق تجئ بمعزل عن السياسة، ولا كلاهما في منأى عن القيم الفاعلة المعززة بوحدة القصد في مطالب المجموع.

بصدق، فإنّ الوقوف على تلك النظرات الشاملة لابن المقفع لا يتأتى إلاّ لرجل خبير وقلم محيط وعقلية قادرة على تفصيل الأجزاء وتفريق الفروع الكلية، ثم إعادة صياغتها في نسق محكم يهدف إلى الوحدة والشمول، وهو ما فعله صديقي الأعز الدكتور عصمت نصار في دراسته عن خطاب ابن المقفع بين الأدب والفلسفة في محاوره الأربعة، المنهجية النقدية ثم النظرية السياسية ثم الأخلاق الإيجابية وأخيراً الأخلاق السلبية.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *