Share Button

الإمام الجنيد .. سيد أولياء الإسلام (4)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

قلنا في المقال السابق إنّ أحدهم لم يعتمد في رأيه أو رأي من نقل عنه التجربة الذوقية، فراح ينسب تصوف الجنيد إلى العقل النظري والتأمل الفلسفي الأمر الذي أثار فينا العجب والدهشة لا لشيء إلا لأنه رأي  يخالف نصوص الجنيد المقطوع بها صراحةً وضمناً، ويتقوّل عليه إذْ يحمل نصوصه فوق ما تحتمل؛ بل ليس ما تحتمل.  

وقلنا إن أمثال هؤلاء قد تناسوا أولاً : الطابع العام لمذهب أفلوطين وهو طابع حركي يؤكد الانتقال الدائم بين الحركتين الصاعدة والهابطة، ويفصِّل الكلام في هبوط النفس من مقرها الأعلى إلى عالم الأجسام، ثم عودتها بالتطهير من العالم المحسوس إلى العالم المعقول.

صحيح أن هذه الصفة الحركية نادراً ما تظهر في مذهب عقلي خالص؛ بل تهيب المذاهب العقلية في أغلب الأحيان بفكرة الثبات والسكون، ولكن مع ذلك فهذا الطابع العام لمذهب أفلوطين موصوف بالتصوف العقلي وليس هو بالتجربة الصوفية المعتمدة أساساً على القلق وحدَّةِ العاطفة ويقظة الشعور أو توتره، أو على الانفعال. هذا فضلاً عن أن أسلوبه دجماطيقي جازم حافل بالتأكيدات القاطعة والأسلوب التوكيدي الذي يبعد بصاحبه عن أن يكون من ذوي الخيال الجامح والرؤيا الصوفية.

وتناسى هؤلاء ثانياً : “المضمون الديني” الذي يشكل فهم التجربة الروحية (الصوفية الذوقية) للآيات القرآنية فَهْمَ تحقيق وتجريب ليس فيه من تقليد الفلسفات القديمة شيء إلا ما يكون منها تشابه في طلب الحقائق الباطنة، وهى مطالب إنسانية وعامة ومشتركة ينزع في طلبها الإنسان في كل زمان ومكان، وتتمثل في “وحدة الروح الإنساني”.

عندي أن الجنيد قد أستقى الفكرة مباشرة من الآية الكريمة في سورة الأعراف :” وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَتهُم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىَ أَنْفُسِهِم ألَسْتُ بِرْبِكمُ؟ قَالوا : بَلَى شَهِدْنَا؛ أنْ تَقُوُلوُا يَومَ القيامة إنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِيِنَ” (سورة الأعراف : آية 172).

في هذه الآية تحديداً، آية الميثاق كما يُطلق عليها المتصوفة في كتاباتهم – الآية التي ذرَّ اللهُ فيها الخلائق – قال الجنيد:” فمن كان، وكيف كان، قبل أن يكون، وهل أجابت إلا الأرواح الطاهرة العذبة المقدسة، بإقامة القدرة النافذة والمشيئة التامة : الآن كان، إذْ كان، قبل أن يكون، وهذا غاية حقيقة الموحِّد للواحد يذهب هو؛ وهو أن يذهب كما لم يكن، ويتلاشى وتنمحي أوصافه، وتبقى أوصاف الحق كما لم يزل”.

هذا هو موطن الفناء في التوحيد، مأخوذ بالمباشرة من آية الميثاق؛ ولا زيادة عليه لمستزيد.

وددتُ لو أني أطلتُ الكلام عمداً في هذه الآية التي تكلم فيها متصوفة الإسلام كل بقدر ما يفتح الله به عليه، وكل بقدر أنفاسه الرَّحَمانيَّة وفتوحاته الإلهية : إنهم يسمونها “آية الميثاق”؛ ويطلقون الفهم فيها فهم تحقيق قائم على الذوق القلبي وبصيرة الشهود لا على النظر العقلي أو على التأمل الفلسفي كما هو الحال عند أفلاطون أو أفلوطين.

شَتَّان ما بين العقل والتجربة أو بين التأمل الفلسفي ووحي العقيدة. الأول يعتمد النظر الخالص، واعتماد الثاني على التجربة المباشرة. الأول أفلاطوني أو أفلوطيني والثاني جُنَيْدِيٌ مُستقى من العقيدة التي ينتسب لها ويدين بالولاء.

وللإمام الجنيد كتابٌ خاصٌ بهذه الآية الكريمة يُسَمْىَ بكتاب “الميثاق”؛ وكتاب الميثاق يشرح فيه الجنيد شرحاً صوفياً خالصاً آية الذر كما وردت في سورة الأعراف، ويلتقط منها المعاني القرآنية لا الفلسفية التقاطاً روحياً لا كما توهم أحدهم فحاول أن يشوه مثل هذا الأثر الخالد للجنيد؛ لأن العلاقة بين التصوف والفلسفة هاهنا لهى أبعد ما تكون.

 وفيه إشارات عالية عن حال الفناء تأخذ بلب القارئ، وله مخطوط “دواء الأرواح” يَتَحَدَّث فيه عن “آية العهد”؛ أو “آية الميثاق”؛ إذْ جاء في مطلع المخطوط المذكور قوله :” الحمدُ لله الذي أبَانَ بِوَاضِح البرهان لأهل المعرفة والبيان بما أخصَّهم به من قديم الزمان، وَقَبْل كَوْنِ القَبْلِ حِيِنَ لا حِيِنُ، وَلا حَيْثُ، ولا كيف، ولا أين؛ أنْ جعلهم أهلاً لتوحيده، وإفراد تجريده، والذَّابِّين عن إدراك تحديده؛ مصطنعين لنفسه والمصنوع على عينه ..” (يراجع : أبو القاسم الجنيد : دواء الأرواح؛ مخطوط 57 على ميكروفيلم رقم 4965، بالهيئة المصرية العامة للكتاب – 3 ورقات- لوحة رقم (1)، وانظر دواء الأرواح : ضمن مخطوطة رسائل في التوحيد (لوحة 53ي). وهذا المخطوط شأنه كشأن غيره من أكثر كتب الجنيد – ككتاب السر في أنفاس الصوفية؛ أو كأجزاء من كتاب “دواء التفريط”- غير مذكور ولا مُدْرج ضمن مؤلفات الجنيد؛ في “رسائل الجنيد” التي قام بتحقيقها على حسن عبد القادر، وقد أشرنا إلى ذلك كثيراً منذ فترة مبكرة في كتابنا ” التصوف السني .. حال الفناء بين الجنيد والغزالي” (راجع من هذا الكتاب ص 295، وص 409).  

فالأرواح السعيدة العارفة هى التي أجابت بنعم؛ أجابت بقدر استعدادها، فاختارت “نعم” فحقت عليها السعادة. أما الأرواح الشيقة التعسة؛ فإنّ استعدادها للضلالة شيء قد تقرَّر سلفاً، قدروه ونهجوه وسلكوا طريقه منذ أن كانوا خلائق روحية بين أرواح في عالم الذَّر، خاطبهم الله بهذا الخطاب :” أَلَسْتُ برَبّكُم”؟!، فمنهم من أختار الهداية، ومنهم من حقَّت عليه الضلالة، فكانوا هم أهل الضلالة لا محالة، تماماً كما أن السعداء كانوا هم أهل السعادة باختيارهم طريق الهداية.

ومن لطائف الإشارات في تفسير هذه الآية الكريمة أن القشيري قال فيها من بعض ما قاله : أخبر بهذه الآية عن سابق عهده وصادق وعده؛ فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بصر أو ظهر في قلوبهم لمصنوع أثر. جمعهم في الخطاب ولكنه فَرَّقَهُم في الحال : وطائفة خاطبهم بوصف القربة؛ فعرفهم في نفس ما خَاطَبَهُم، وفرقة أبقاهم في أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم. أقوامُ لاطفهم في عين ما كاشفهم؛ فأقروا بنعت التوحيد. وآخرون أبْعَدَهم في نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود. وأسمع أقواماً بشاهد الربوبية فأصْحَاهم عن عين الاستشهاد؛ فأجابوا عن عين التحقيق، وأسمع آخرين بشاهد الربوبية؛ فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود ” (: لطائف الإشارات، م1، ص 585).  

على أن المقصود بالميثاق عند الجنيد – كما قلنا في كتابنا “التصوف السني … “، هو السلب المطلق للشعور بالذوات في حال الفناء أو بالأحرى حال الدعوى أو حال العهد؛ فلما سألهم الحق مخاطباً إيّاهم :” أَلَسْتُ برَبّكُمْ ..؟”، أخبر تعالى أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم، إذْ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم. كان الحق بالحق في ذلك مَوْجُوُداً بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ولا يجده سواه “.

فهذا المعنى من قبيل الجنيد لا يؤكد كمون التوحيد في الفطرة فقط. ولكنه يأخذ العبد أخذاً بما تجري فيه من تصاريف الحق عليه كيما يكتشف بتجربة الفناء حقيقته الأصلية؛ وهى التي أشار إليها برجوع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان إذْ كان قبل أن يكون؛ هنالك يتأكد المعنى الجديد للتوحيد، يتأكد بفعل التجربة؛ فتتأكد معه حقيقة الموحِّد : يَذْهَب هو ويبقى الباقي حقيقةً : يبقى الباقي كما كانَ ولا شيء معه، ويفنى الفاني كما لم يزل. فليس التوحيد قُصَارَاهُ أنه كامن في الفطرة وكفى؛ وليس قُصَارَاهُ أنه ساكن فيها أو مغروز في الحقيقة الآدمية فقط بمقدار ما هو شهود بالتجربة المباشرة لهذا التوحيد على الحقيقة؛ أي ليس فيه كمون – كما يذهب بعضهم (د. عبد القادر محمود : الفلسفة الصوفية في الإسلام؛ طبعة دار الفكر العربي، القاهرة سنة 1966م؛ ص 195- 196)؛ فيروح فيستخرج من هذا النص معنى الكمون فيقول :”إنّ الجنيد يؤكد كمون التوحيد في الفطرة”؛ لا؛ لأن كلمة الفطرة وحدها تحتوي ضمناً معنى التوحيد، فلا معنى للعبارة من أساسها؛ بل معناه أن هاهنا حركة باطنة – لا كامنة – في الوعي الصوفي، في حقيقته الآدمية، في ذات العبد الموحِّد، يدرك بها إدراكاً ذوقياً حقيقته الأصلية؛ أو قُل إنه يكتشفها من جديد؛ فيعرف على الحقيقة أن التوحيد شهادة أصلية يوم ذَرَّ الله أرواح الخلائق؛ فأجابت. 

وممّا ذكره الجنيد في كتاب “الفناء” تدليلاً على آية العهد والميثاق هذه؛ قوله:” نَطَقْتٌ بغيبتي عن حالي، ثم أبدى عليَّ من شاهد قاهر وظاهر شاهر، أفناني بإنشائي كما أنشأني بدْياً في حال فنائي، فلم أوثر عليه لبراءته من الآثار، ولم أخبر عنه إذ كان متوالياً للأخبار، أليس قد محي رسمي بصفته، وبإمتحائي فات علمي في قربه؛ فهو المُبْدي كما هو المعيد”.

هنالك في بطن التَّحَقُّق؛ في بطن التجربة؛ يكون السلب المطلق لشعور الذوات بأنفسها وانمحائها عن كل ما سوى الله تحقيقاً للوحدة التي يكون الحق تعالى فيها فَرْدَاً على الحقيقة، ويكون العبد عبداً على الحقيقة، وليس من وصف ولا رسم لغيره تعالى؛ بل المخلوقات ممحيَّة الصفات والرسوم ظاهرة بشاهد قاهر وظاهر شاهر، متحققة بصفة الإلوهية، موقوفة على سر معنى قوله هو المُبْدي لها وهو المعيد.

وحين يرجع العبد إلى هذه الصفات الأولى، يكون قد بلغ المرتقى من الفناء في التوحيد؛ يعرف حقيقته، ويدرك الوحدة إدراكاً من طريق الذوق والفتوح الروحي لا من طريق النظر الفكري أو التأمل العقلي. إنما الوحدة هنا “وحدة التوحيد والفضائل الإلهية”، هى وحدة شهود في حال الفناء، وليست بوحدة وجود كما هى حال الوحدة عند ابن عربي وتلاميذه من مدرسة الوحدة الوجودية. الوحدة التي يقول بها الجنيد هى وحدة لا تتم إلا بفضل من الله؛ لأن الله كان واجداً لما أن خَاطبَ الأرواح في عالم الذَّر ولم يكن لوجودها وجود مستقل؛ فأوجدها بمعنى لا يعلمه إلا هو ولا يجده سواه؛ فقد كان واجداً محيطاً شاهداً عليهم بَدْيَاً في حال فنائهم عن بقائهم الذين كانوا فيه في الأزل للأزل.

وقد أجمع الصوفية فيما بينهم على فهمٍ تحققوا منه خَاص بتلك الآية المباركة، فيما يسمى بـــ “الاستنطاق للذرية”؛ فكما كان للجنيد حديث عن الميثاق؛ كان كذلك للحكيم الترمذي حديث آخر عنه في كتابه “الرياضة وأدب النفس”؛ وهو أن الله تعالى حينما قسم الحظوظ يوم المقادير، أستخرج ذرية آدم من الأصلاب واستنطقهم كما في الآية الكريمة المشار إليها سلفاً من سورة الأعراف؛ ثم رَدَّهم إلى صلب آدم عليه السلام. غير أنه يخرجهم في أيام الدنيا للأعمال وإقامة الحجة؛ فكل من وقعت عليه جبايته واختياره، وصبغ قلبه – أي غمس قلبه – في ماء الرحمة حتى طَهَّره به؛ وهو قوله عز وجل:” صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَة” (سورة البقرة : آية 138)؛ ثم أحياه بنور الحياة، وقد كان قبل ذلك بضعة من لحم جوفاء فلمَّا أحياه بنور الحياة تحرك وفتح عينيه اللتين على الفؤاد، ثم هداه بنوره وهو نور التوحيد ونور العقل.

فلمّا أن أشرق في قلبه وأستقر الفؤاد، وهو القلب، إلى ذلك النور؛ عرف ربه عز وجل بهذا النور المبثوث بين طَوَايَا القلب وشغافه، ومنه يُفهم قوله تعالى :” أوَمَن كَانَ مَيْتاً فأحْيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورَاً يَمْشِي به في النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجِ منهَا؛ كذلك زُيِّن للكافرين ما كانُوا يَعْمَلونَ” (الأنعام : آية رقم 22).

فإنّ الذي يفهم من آيات القرآن الكريم هذا الفهم الذي يشكله المعتقد الديني ينتسب إليه؛ يفهمه بتحقيق الإيمان وتحقيق التوحيد، ولا يفهمه بالنظر إلى تراث اليونان وأمامه كتابه الكريم حتى ولو كان التشابه موجوداً شكلاً طفيفاً ينقصه المضمون. على أنه ليس تشابهاً في الجوهر ولا في المضمون ولا في الأسس التي قامت عليها أركان الحياة الباطنة كطريق يعرفه صوفية الإسلام، ولكنه تشابه في الوسائل التي لا تنفذ إلى الأغوار العميقة يستقي منها الصوفي ما من شأنه أن يكون مُعتمدَه في طريق الله.

(وللحديث بقية)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *