Share Button

بقلم : أمل مبروك عبد الحليم

 

 

أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة

كلية الآداب – جامعة عين شمس

الشعور بـ “العبث” أو “اللا معقول” شعور مفاجئ، غير منتظر، مجرد من كل عزاء، قد يباغت الإنسان في أي لحظة، وقد يستولى علينا ونحن نباشر أعمالنا اليومية بحيث يظهر في السلوك المعتاد عند “منعطف شارع، أو في داخل مطعم، أو على محطة المترو”. إنه تجربة شخصية وحيدة، لا سبيل إلى توصيلها للآخرين، وقد يكون الإنسان راضيًا عن نفسه أو غير راض، ولكنه مستسلم على كل حال لمصيره، مذعن لدورة الزمن؛ وإذا بيوم يأتي فيطرأ عليه طارئ مفاجئ، وإذا بعجلة الزمن تتوقف وتأبى يده أن تقوم بما ألفت من أعمال، ويتوقف عن المضي في التفكير. إنه – كما يقول الفيلسوف الوجودي الشهير “البير كامي” – نوع من الملل، نوع من السأم، نوع من النفور، شيء ما حزين يستولى على كيان الإنسان فيشل هذه الآلة عن دورانها المعهود، ويطرح على ذهنه السؤال عن جدوى هذا السعي، ومغزى هذه الحياة.”العبث” أو “اللا معقول” هو اللحظة التي تخرج عن حدود الزمان، وتجمع فيها كل شيء ولا شيء؛ إنه – بكلمة واحدة – الصمت الذي يتضح فيه كل شيء. هذا الشعور يرجع إلى أسباب عديدة أولها: طابع الآلية الذي تتسم به حياتنا التي نعيشها كل يوم، أي الروتين اليومي والأعمال المتكررة، والمواعيد وأيام العطلات وأيام العمل، والأعياد…إلخ كل شيء يسير وفق إيقاع واحد، هذا الإيقاع الآلي الرتيب الذي تسير عليه حياتنا اليومية يقابله إيقاع آلي آخر ينظم أفعالنا وسلوكنا. فليس اللا معنى يسيطر على حياتنا فحسب، بل هو كامن في نفوسنا أيضًا؛ بمعنى أننا نحيا الحياة بكل ما فيها من متاعب ولا نلتفت إلى معناها، ونعيش أيامنا الرتيبة ولا ندهش لما فيها من ملل ورتابة.”العبث” أو “اللا معقول” هو ذلك الصراع القائم بين مظهر العالم اللا عقلاني وتلك الرغبة المضطربة حول الصفاء والوضوح والبحث عن السعادة. “العبث” أو “اللا معقول” يكمن في وجود الإنسان والعالم المشترك، وهو ينشأ بتناقض الطرفين؛ والرابطة الوحيدة بينهما هي اللا منطقية التي نحياها والحنين الإنساني إلى بلوغ الحقيقة واليقين. “العبث” أو “اللا معقول” يوقظ في نفس الإنسان حركة الوعي بالسؤال الجوهري “لماذا”؟ وما “جدوى” أفعالنا؟ إنه يتغلغل في وعي الإنسان تغلغًلا مفاجئًا في اللحظة التي يشعر من خلالها بالفراغ، أي بإرهاق الحياة اليومية؛ لأن الوعي – في هذه اللحظة – يتوقف عن استيعاب الغاية من تكرار هذه الحياة اليومية ورتابتها.لقد صاغ ” كامي” تجربة “العبث” أو “اللا معقول”، عندما عبر – بشكل أدبي رائع – عن “واقع الإنسان المعاصر”، والظروف الاجتماعية والتاريخية التي طرأت عليه، وصاغ مفهوم “العبث” أو “اللا معقول” في ظلها؛ وهي ظروف الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، والإفقار الضخم، والإبادة غير المبررة في استخدام الغاز لقتل سجناء معسكر الاعتقال، وإلقاء القنابل على السكان المدنيين. كذلك الشعور بالتشتت والضياع بسبب الانهيار الكبير لما لا يقبل التفاوض في مشروع الرأسمالية، والدول الديمقراطية وطغيانها وتسلطها. لقد رأى “كامي” أن العقل الأوروبي قد تعرض لصدمة وضعته أمام حقيقة لا مفر منها، وهي حقيقة الحرب الدامية، وأن الكم الهائل من الدمار والقتل أفرز حالة من الإيمان بعبث الفعل الإنساني وعدم جدواه ولا معقوليته. لذلك حمل “كامي” آلام العصر على كتفيه وعاش ألوان الصراع التي كابدها جيله إلى حد التوتر والتمزق. وراح يدافع – في كتاباته – عن كرامة الإنسان، ويوقظ في النفوس معنى العدل؛ ويدعو إلى تجديد الفكر السياسي بالشجاعة والتفاهم والنبل.جَسد “كامي” مفهوم “العبث” أو “اللا معقول” في شخصية “سيزيف” الأسطورية الذي نجح بدهائه ومكره أن يخدع الآلهة بكراهيته للموت وعاطفته نحو الحياة. لكنه لم يستطع أن يفلت من العقاب، حيث حكمت عليه الآلهة بدفع حجر ضخم من أسفل الجبل إلى قمته؛ وما أن يصل إلى القمة حتى يعود الحجر إلى السفح من جديد، ليقوم بالدورة نفسها بلا جدوى. ومن هنا، أصبح “سيزيف” يرمز إلى الجهد العابث الذي لا طائل تحته.و”سيزيف” هنا هو النموذج الأصيل لـ “عبثية الحياة ولا معقوليتها”، فهو الذي يهبط في كل مرة من الجبل إلى الوادي ليقبض على الصخرة ويدفعها من جديد إلى قمته؛ ليكون نموذج لجهد دائم عقيم، وتكرار مجدب رتيب، إنه في اللحظة التي ينحدر فيها من على الجبل ليدفع الصخرة بصدره وذراعيه يظل على وعي بضرورة اللحظة التي تليها، أعني بالتكرار المتصل العقيم، في هذا الوعي تكمن قوته. وهنا يبدأ “كامي” بسؤال كثيرًا ما نوجهه إلى أنفسنا وهو: هل تستحق الحياة أن نحياها؟ إن “كامي” لا يهمه أن يسأل كما سأل الفلاسفة منذ القدم، ما نحن ولا من أين جئنا؟ ولا تعنيه مشكلة الماهية ولا مشكلة المصير، بل مشكلة الوجود والمعنى.حاول “كامي” أن يثبت – في أسطورة “سيزيف” – وجود “العبث” أو “اللا معقول”، ويثبت معه أن الوعي به يؤدي إلى التمرد على الوضع القائم. ولذلك كان تمرد “سيزيف” تعبيرًا عن سخطه على الموت وعاطفته الجياشة بالحياة، وكان إنكارًا للآلهة وتحديًا للعبث. وهنا اقتدى “كامي” بالبطل الإغريقي، الذي أراد أن يوجه العالم ويستزيد من الحياة بقدر ما يستطيع، ويستنفذ طاقاته في سبيل لا شيء؛ ويفقد الأمل في إدراك معنى الوجود ويتجرد من كل الأوهام التي تعده بالخلاص. وهكذا قدمت أسطورة “سيزيف” صورة منطقية أو منهجية للسلوك غير المنطقي ولا المعقول، ووضعت الإنسان أمام قدره الظالم غير المفهوم، وعلمته أن من واجبه وكرامته احتمال هذا الوجود العبثي وتحديه.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *