Share Button

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

إذا كان الاتجاه إلى وحدة القصد بالمباشرة لهو السبب الذي يجعل من القرآن طراوة في النفوس بفضل تأثير أسلوبه على القلوب مهما تطاول عليه الزمن وتداولت على عباراته وكلماته الأيام، فالإيحاء في طليعة هذه الأسباب. ولقد لاحظ المستشرق الفرنسي”ليبون” تلك الخاصَّة حين قال عن القرآن الكريم:”حسبُ هذا الكتاب جلالاً ومجداً أن الأربعة عشر قرناً التي مَرَّت عليه لم تستطع أن تجفِّف ولو بعض الشيء من أسلوبه الذي لا يزال غضاً كأن عهده بالوجود أمس”.

 

هذا ذوق باحث أوروبي له صلة غير مباشرة بالقرآن، وهو مع ذلك يكتشف ما فيه من طراوة الكلمة وحلاوة الأسلوب، على ما مَرَّت عليه من أزمنة ودهور لم تستطع أن تغير في جماله شيئاً. وهنالك آراء تَوَصَّل إليها كبار الباحثين الأوربيين حول القرآن، لا يكاد المرء لقوتها وعمقها أن يظفر بها في بحوث الباحثين العرب، منها ما نبَّه أحدهم عليه، وهو أنه:” لابد لقارئ القرآن إذا هو أراد أن يفهم رسالة القرآن أن يذكر أنه كتاب فرائض وكتاب إقناع وكتاب هداية، وأن الإعجاز فيه لا يرجع إلى فصاحة اللفظ وحدها ولا إلى نسق البيان وحده، ولكنه يرجع إلى “إيحاء اللفظ ” و”إيحاء” البيان بما يعجز كل كلام (غير إلهي) عن الإيحاء بمثله”.

 

ولنضع تحت كلمة “إيحاء” هذه، خطوطاً حمراء ملفتة للنظر تميزها؛ فهذا “الإيحاء” هو سرٌّ الإعجاز الذي لا يقوى على فضِّ بكورته إنسان كائناً ما كان، ففيه تكمن الهداية إلى النور الإلهي، وفيه تكون الدلالة العملية في الفريضة المفروضة، وفيه القناعة التي تهدي العقل إلى العمل بأحكام الكتاب، وفيه التفسير الإشاري الذي يعلمه القادرون على استنباطه من أهل الذوق والمعرفة فضلاً عمَّا هو كامنُ في الإيحاء من أسرار لا تحيطها مدارك المحجوبين.

 

ولسنا نتجاوز الصواب فيما لو قلنا إن دراسة إعجاز القرآن إذا هى أغفلت الإيحاء إنما تغفل رافداً غنياً يستند إليه التفسير الإشاري، ويمكن أن تضرب أمثلة سريعة توضح طريقة القشيري مثلاً عندما كان يتصدى لبعض الجوانب التي يغذيها الإيحاء في الأسلوب القرآني؛ فمن اللفظة المُفردة تنبعث إيحاءات جميلة تزيد المعنى قوة وتأكيداً، كأن يقول عند قوله تعالى:”بل هم في شك يلعبون”: اللعب فعل يجري على غير ترتيب، تشبيهاً باللُّعَاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، فوصف المنافق باللعاب تصويراً لتردده وتحيره وشكه في عقيدته. والتسبيح عنده مرتبط ” بالسباحة في بحار التوحيد بلا شاطئ؛ فبعدما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح فحازت أيدهم جواهر التفريد، نظموها في عقود الإيمان ورصعوها في أطواق الوصلة “. والفجر  ” انفجار الصبح كما يَتَفَجَّر الماء من الصخر “؛ وهكذا إلى كثير من الأمثلة التي لا حصر لها للتفسير الإشاري تنبعث من الإيحاءات القرآنية تخريجات إيمانية نادرة ممتعة مبهرة.

 

كان المستشرق الفرنسي “لويس ماسينيون” وضع منهجاً في قراءة النصوص الدينية المنزلة، ومنها بالطبع (القرآن الكريم)، هو أساس ما نعتمده هنا لقراءة الإيمان للقرآن. يدور هذا المنهج على “فهم المعنى” من النص المطروح للقراءة، ويتخذ أشكالاً أربعة على النحو التالي:

 

المعنى الأول: وهو لا يتجاوز الفهم الحرفي للنص. المعنى الثاني: وهو الفهم الرمزي للنص. المعنى الثالث: وهو ما يستخلصه الباحث من قراءته للنص؛ وهو أعمق من المفهومين السابقين. المعنى الرابع: وهو “الشعور الديني”؛ المستخلص من النص المقدس. هذا المعنى الرابع والأخير هو الأكثر عمقاً، وهو ما يطلق عليه الباحثون” المعنى التأويلي” الذي يقود إلى التأمل والخشوع. وبمقتضى هذا المنهج تكون قراءة الإيمان للقرآن حيوية شاعرة بما تقرأ، مُنفعلة بما تحس وتشعر أثناء القراءة هى وحدها من المؤكد التي تورث الإيحاء.

 

ولكي نلمُّ ببعض تطبيقات الإيحاء في القرآن كونه خاصّة ذاتية، علينا أن نتوسّع بعض الشيء في استناد المعرفة التي يقوم عليها الإيحاء ويستند على خصائصها، وسنجد في القرآن الكريم اتصال الفكر بالذكر اتصالاً  تصدر عنهما معرفة ثالثة هى رمز الإيحاء في الكتاب الكريم.

 

مصدرُ العرفان في حقل الفلسفة هو العقل الإنساني مُجَرّداً عن لواحقه الشعوريّة، ومُجَرِّداً الإنسان عن أي شيء سواه. ومصدر العرفان في الدين، وخصوصاً الأديان الكتابيّة، هو الشعور الديني، هو الله تعالى يُغذي طاقات العقل الإنساني بشتى المعارف وشتى العلوم، كلما فتحت طاقة من طاقات المعرفة فتحت معها على التوالي طاقة أخرى، وهكذا بغير انقطاع. ومدد الفتح لا ينقطع إذا كان المصدر هو الحكيم العليم:”وإنّك لتلقّى القرآن من لدُن حكيم عليم”.

 

الاستقلال الفكري العقلي في الفلسفة لا يجور، ولا ينبغي له أن يجور، على خصوصيّة الدين وطبيعته، كونه يسمح لطاقة الإنسان بالانتقال من حياة إلى حياة، ويوجّه توجهاته الدنيوية ناحية الآخرة، مُستقره الأخير.

 

والاقتصارُ على مثل هذا الاستقلال العقلي وحده عائقٌ للعقل البشري نفسه لفهم ملكات أعلى منه وأمضى، مهما حاول العقليون أن يقيّدوا طاقاته العقليّة بقيود من حديد نحو ما يفهمون منه، ونحو ما يدركون. نعم ! ما لا أدركه أنا بعقلي المحدود قد تدركه أنت بعقلك المتسع المفتوح الذي يقبل (الإحالة) ويأخذ بمعطياتها كلما توقف وقفات تُشبه العجز فيما هو أمامه مطروحاً من مسائل الغيب أو مسائل المصير.

 

وليس معنى عجزي عن الإدراك عن مسائل بعينها، أنها غير موجودة بل عجزي هو الذي صَوّر لي سلفاً أنها معدومة، فلو كنت من القادرين على إدراكها لأصبح وجودها أسبق عندي من تصور العدم: عجز العقل عن الإدراك ليس معناه العدم، ولكن معناه أنّ ما لا أدركه بعقلي المحدود قد يدركه بباصرته غيري ويقتدر عليه، ويخوض فيه ويعوم، في حين تظل حدود مدركاتي النظرية لا تسمح لي بتجاوزها قيد أنملة.

 

هذا هو الإنصاف المطلوب في كل حال.

 

إنْ أردت التي لا لوْمَ فيها: فلتبحث معي عن ملكة التَّعَلُّق: فيما عَسَاكَ توجهها؟ أفي شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم في شغل العلم بالله؟

 

فلئن كانت الحالة الثانية، فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة قريبة. ولئن كانت الحالة الأولى؛ فلقد أورثت صدأ على وجه القلب، فكانت مانعاً كثيفاً من تجلي الحق فيه؛ فانقطع.

 

الغريب في الأمر، أنّ قبول مجلى تجلي الحق أو عدمه يرجع إلى القلب، فلو كان على القلب صدأٌ لم يَعُدْ يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل غيرها فاستغرقته بالكليّة، أي قبل الاشتغال بالأسباب، فاستغرقت طاقة النور القلبي لديه بكليّتها؛ فَحُجِب.

 

والاشتغال بالأسباب والاعتماد عليها صدأُ قلبي، بالتعبير القرآني البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والرّان). هذا هو الإيحاء القرآني؛ فإن قلت: فما بالُ العقل؟ ألم يُعْرَف الحق بالعقل؟ أقول لك ما يقوله ابن عربي في هذا الخصوص: مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهات أربعة: جهة الجوهر، وجهة الطبع، وجهة الحالة، وجهة الهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء.

 

وهذه الأشياء لا توجد في الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذي يستند إليه هو الحسّ أو الضرورة أو التجربة الحسيّة. وكلمة الضرورة تعني من حيث ما يُعلم لدى العقل بالضرورة، وهذا لا يكون إلَّا لوقائع عينيّة مشهودة.

 

يقدح الدليل العقلي في العلم بالله، ويعجب المرء حين يرى الفلاسفة المسلمين يقدّمون أدلة عقليّة على وجود الله. ألم يقرأوا حديث رسول الله : أنَّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد … وفيه: أنّ جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن. ثم هل خلت أنظار الفلاسفة من قلوب تعقل، في أنفسها، عن الله دليله؟

 

أيحتاج وجود الله إلى دليل غيره؟

 

أتحتاج معرفة الله إلى دليل سواه؟

 

كيف، وهو الحق الواضح بذاته، وهو الحجة على كل شيء. الله هو الذي يبرهن على الوجود، ولا يصحُّ أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله تماماً كما نقول: إنّ النور يبرهن على النهار، ونعكس الآية لو قلنا: إنّ النهار يبرهن على النور.

 

والله يقول في حديث قدسي:”أنا من يستدل بي، أنا لا يُستدل عليّ”. ومن الحق أن نقرّر كما قرَّر المفكرون من ذوي الأذواق الرفيعة أن الاستدلال على وجود الله مسألة بدَاهة فطرية لا تحتاج إلى أكثر من ذلك. وقد بيّن الإمام الغزالي في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد”، أن الإنسان له وعي يقيني بوجود الله وحقيقته الذاتية، واعتبر الشعور الفطري في الإنسان هو الدليل إلى معظم المعارف مهما تقدّمت العلوم، مثله كمثل الجوع والعطش والأمومة، وسائر الوجدانات والعواطف، كل ذلك نشعر بوجوده ولا نحتاج إلى دليل نبرهن عليه، وكذلك فإنّ شعورنا الفطري بوجود الله لا يحتاج إلى دليل أو برهان.

 

ومؤدّى نقص البراهين العقلية التي يستدل بها الفلاسفة على وجود الله – فيما يقول أستاذنا العقاد رحمه الله – أن البرهان قوة ترغم العقل على التصديق، ولا يتأتى الإيمان بإرغام، بل بطلب وشوق، واجتهاد في التحصيل (تحصيل الإيمان) من طريق الذوق والحماسة الدينية، فإن لم تشعر النفس بمكان الإيمان منها فلا محل للبرهان فيها، وإنْ شعرت بهذا المكان فالبرهان متممٌ لشيء موجود يعاونه ويزيد عليه. (عقائد المفكرين في القرن العشرين؛ ص 27)

 

شَغَلَ الفلاسفة أنفسهم، وشغلونا من بعدهم، بحُجب الأدلة العقلية، ولم يتحقّقوا قيد أنملة أنّ معرفة الحق مُتجلّاه على الدوام بغير انقطاع في النفس وفي الآفاق لا يُتصوّر في حقها حجاب عنّا، غير أنّ مجلاها القلب الصافي عن لوثات التكدير، الخالي من ظلمة حُجُب الأسباب. وعلى الله وحده، توفيقه ورعايته، يكون جلاء القلوب حين تصدأ من كزازة الدنيا ومعاطب الأسباب. ومع ذلك؛ فلهذه المعرفة وسائل لا بد من تحقيقها وأهم وسائلها وسلتين هما الأساس الذي تستند عليه معرفة الله: الذكر والفكر.

 

*    *     *

 

فالذكر رياض الإيمان، تفرضه في الذاكر جلالة المذكور: قوة عليا تتوجَّه بها لطيفة الذاكر (قلبه) إلى خالقها لتدرك بفضيلة الذكر ما لا يدركه سوى هؤلاء الذين يعلمون ما لا نعلمه نحن، ويدركون ما لا ندركه نحن؛ لأنهم على الدوام في رحاب المذكور.

 

يستحضر العبد الذاكر “الذات الإلهية” بدوام التسبيح في كل عمل يعمله رقابة داخلية عليه، فلا يفرط في عمل يراه موصولاً بالله مُوصِّلاً إيّاه إلى خالقه.

 

ومن هنا كانت الصورة الكاملة هى هى صورة التسبيح الذاكر يتجرَّد فيها عن ملابسة الأهواء، فيغادر كلما أستطاع ذلك العالم المحسوس إلى غيره من عوالم روحيّة، يرى فيها الحقيقة كاملة؛ ليجيء كماله على مقدار ما يرى. فلولا أن وفّقه الله لأن يكون ذاكراً لله ما كان بمستطيع أن يتحقق بالفناء في المذكور. والعبد الذاكر هو الله المذكور إذا كان الفناء. والفناء غيبة وقتية عن العوالم، خلاصة تجربة الروح في تساميها، وهو كذلك حضور وبقاء مع الله: أساسه العمل الدائب المتواصل على شرط الحضور الذي يؤكده الإيمان، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل هاهنا إلا في خدمة قضية الإيمان.

 

ومن إيمان الذاكرين أن يدرك الذاكر وجه الحق في كل ما عساه يعمل وفي كل ما عساه يقول، فهو بالحق ومع الحق فناءً في جلال المذكور. والمعنى: هو ألا يشغله عن الله شاغل ولا يعوقه عن سواه عائق من حواجب النفس أو حواجب المجموع، يشهد الإيمان باليقين بعد أن يُحَقِقَ القول بالعمل. جاء في الخبر: إنّ العبد ليقرأ قوله:”إيَّاكَ نعبد وإيَّاكَ نستعين”، فيقول الله تعالى: كذبت، لو كنت إياي تعبد لم تخف غيري ولم ترج سواي. ولو كنت بي تستعين، لم تسكن إلى مالك وأهلك. وكذلك بلغنا أن العبد ليقرأ السورة من القرآن فتصلى عليه حتى يفرغ منها إذا هو عمل بها. وهذا بلا شك حال الصديق؛ لأنه صَدَّق عمله قوله، واستعان بالله على الحقيقة. وأن العبد ليقرأ السورة من القرآن فتلعنه إلى أن يختمها إذا لم يعمل بما يقرأ وبما يقول؛ فهذا حال الكذاب الذي يقول القول ولا يعمل به، لأنه ضيع حقوق الإيمان وانتقص منه ولم يزيد فيه؛ إذْ العمل يزيد من الإيمان وينقص بنقصانه. وعليه؛ فلا إيمان لمن لا عمل له ولا حياة لمن لا تصديق في قوله. وكيف يكون التصديق في القول وصاحبه يخلو من طيِّب الأعمال؟

 

ولكن ليس معنى ذلك، لا توجد فوارق بين حقيقة الإيمان وحقيقة العمل بمثل ما تصوّر الخوارج في القديم والحديث، هؤلاء الذين يجعلون الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، ويقرُّون أن من أرتكب كبيرة فقد زال إيمانه وأصبح كافراً خارجاً عن الملة، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لسفك الدماء وسلب الأموال. أو بمثل ما تصوَّر المعتزلة الذين قالوا إنّ مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً وليس كافراً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، يسمونه الفاسق، في كلام طويل رفضه علماء السُّنّة.

 

كلا ليس هذا هو المقصود، بل المقصود أن العمل يعطي الإيمان زيادة ويوفر له اليقين الدائم ولكن لا يبطله على الإطلاق. فما من عمل يعمله العامل على حقيقة الإيمان الذي هو التصديق القلبي الجازم إلا ويزيده ويرقيه. ونقصان الأعمال والتقصير فيها لا تزيل الإيمان ولا تنقضه من أصله.

 

ومن إيمان الذاكرين أن لذكرهم صوراً عظيمة، وأنهم في كل حال يظلون على الذكر لا يفترون عنه ولا ينئون، ومن صور الذكر التسبيح المطلق لله؛ مطلقٌ عن التعلق بالحُجب والأغيار؛ مُفْرَدٌ في ذاته لذاته.

 

ففي الصلاة ذكر وتسبيح، وفي اللفظ ذكر وتسبيح، وفي الحركة ذكر وتسبيح، وفي الآلة ذكر وتسبيح، وفي الفأس ذكر وتسبيح، وفي القلم ذكر وتسبيح، فأنت حين تكتب أو تعمل أو تزرع أو تقوم أو تقعد أو تلفظ، تذكر الله على الحقيقة فيما لو كنت على إيمان هو بالضبط إيمان الذاكرين، فلا يكون لك كيانٌ آدميٌ بغير الذكر الذي هو الوصلة الروحية توصلك مع الفكر بالله أتم اتصال وأدوم اتصال في كافة الأحوال.

 

بغير الذكر صورتك الوجودية العصماء مفقودة وإنْ بدت لك أنها موجودة؛ لأن الصلة الأمينة بينك وبين المذكور صارت صلة مقطوعة، ولأنها كذلك فلا شيء أدعى لفقدها من كونك محروماً من ذلك النور المبثوث في قلوب الذاكرين: نور الذكر ونور الفكر. الذكر طمأنينة ويقين؛ لأن الذكر إيمان، ولا شرط للطمأنينة الصادقة ولا لليقين الصادق إلا الإيمان الدائم تحسّه على الدوام في قلوب توكلت على الله، ورضت بما قسم الله، فتألهت إليه، فذكرت الله ذكر الصادقين لكنها لم تكتف بالذكر بل قرنته بالفكر.

 

صوّر القرآن الذكر والفكر مقترنين متلازمين ينتج أحدهما عن الآخر ضرورة، تأمل قوله تعالى:”إنَّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك؛ فقنا عذاب النار” (آل عمران: آية 9).

 

لاحظ وصف أولي الألباب الذين يذكرون الله ويتفكرون في خلق السموات والأرض، غير أنهم لا يذكرون الله وكفى بل يذكرونه قياماً وقعوداً، وهو دليل من جهة على انشغالهم الدائم بالذكر إنْ في القيام وإنْ في القعود. ومن جهة أخرى يدل كذلك على أن أولي الألباب قد جعلوا الله هدفاً لهم، ومن شدّة تعلقه بهم يذكرونه قياماً وقعوداً؛ لأنهم يحبونه. ومقتضى المحبة دوام ذكر المحبوب. ليس هذا فقط بل أيضاً كما في إشارة الشِّبْلي: “أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك”. ونحن حين نحب شخصاً ما نظل نذكره، وحين نكره شخصاً يحدث العكس. ولهذا؛ فمن المؤكد أن الذكر يحمل في طياته روح المحبّة، ويدل عليها من أول وهلة. وعليه؛ تكون الطاعة ثمرة المحبّة، وهى نتاج الذكر الدائم والاشتغال بالهدف الأجلّ الأسمى: طاعة الله، وطاعة رسول الله الحبيب  الذي علَّم البشرية محبّة الله تعالى، وهى بغير شك، أعنى المحبة: ميراث النبَّوة على التحقيق.

 

حين يفهم المسلم موحيات هذه الآيات ويعمل بها، يفهم في الوقت نفسه ركنين رئيسين من أركان الحياة الروحيّة في الإسلام: الذكر والفكر. وهو حين يجعل الله هدفاً له في حياته، يحبه ويطيعه ويطلب مرضاته ويتخلق بأخلاقه ينعكس ذلك كله على رؤيته للوجود من طريق الإيحاء خاصّة ذاتية للقرآن ؛ فيرى الحقيقة ويشهد بالفعل ميراث النبوة نِعَماً لا تعد ولا تحصى، ويقوده الذكر إلى الفكر.

 

والأساس في الفكر هو التفكّر في خلق السموات والأرض، فالذين يذكرون الله قياماً وقعوداً لا يكتفون بالذكر وكفى بل يتفكرون في خلق السموات والأرض. ومعنى الفكر هو استحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما “معرفة ثالثة”، أي القيام بترتيب حقيقتين في الذهن لاستنتاج حقيقة ثالثة لم تكن موجودة من قبل.

 

فمثلاً لو عرفنا أن العالم يتغير كل لحظة، كانت هذه هى الحقيقة الأولى. وأن كل متغير حادث، فتكون هذه هى الحقيقة الثانية. وحين نضع هاتين المعرفتين معاً سنعرف أن العالم حادث. ويرتكز المنطق جميعه على هذا الفكر وتنكشف للإنسان حقائق كثيرة نتيجة لقوة الفكر هذه، ونتيجة الممارسة الدائمة لها، وتتركز الحياة كلها على الفكر المقرون بالذكر. فالذكر لدى المؤمن محبّة، والفكر لدى المؤمن نتاج للتفكر في خلق السموات والأرض وكشف هذه الحقائق، واكتشاف أنها لا يمكن أن تكون باطلة، وأن التقصير في كشفها والوصول إليها تقصير في الإيمان نفسه: فهمه وتخريجه وصياغته العملية. هنالك يضع المؤمن جميع الكائنات تحت قدميه فيما لو تمت له ممارسة عميلة التذكير والتفكير؛ لأنه سيكون قد توصّل إلى حقيقتها فيستغني بالله عنها، ولا يتكالب عليها تكالب المسعور.

 

هذا هو الإيحاء .. وتلك هى مقوماته في القرآن كونه خاصّة ذاتية.

 

في الحقيقة لم نجد أصْرَح ولا أوضح من “الغزالي” فيما ذكره عن الفوارق بين الذكر والفكر لما أنْ قال في الإحياء عن “حقيقة التَّفكر”: معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منها معرفة ثالثة، ومثاله الذي ضربه على ذلك هو: أن من مال إلى العاجلة وآثر الدنيا وأراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة فله طريقان:

 

الأول: أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا؛ فيقلده ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر، فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتماداً على مجرّد قوله. وهذا يسمى تقليداً ولا يسمى معرفة، فأولاً يظهر الفرق هنا بين المعرفة والتقليد، فكل ما لا تنتجه المعرفة الثالثة فهو تقليد لا شك فيه. أو قُل هو تذكير لمعارف سابقة فقط ليس فيها معرفة جديدة، فمادامت لم تثمر معرفة ثالثة فليس هناك من جديد.

 

والطريق الثاني: أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار، ثم يعرف أن الآخرة أبقى، فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة، وهى أن الآخرة أولى بالإيثار، ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين” (الإحياء: جـ 4، ص 354 ).

 

ذلك هو معنى الفكر كما يحققه الغزالي، فاستحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصّل إلى المعرفة الثالثة هو عند الغزالي يسمى تفكراً واعتباراً وتذكراً ونظراً وتأملاً وتدبراً. فأما التدبر والتأمل والتفكر: فكلها تجري على عبارات مترادفة ليس تحتها معاني مختلفة، والمقصود منها معنى واحد. وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر: فهى مختلفة المعاني أيضاً، وإنْ يكن أصل المسمى واحداً. ومثاله: اسم الصارم، والمهند، والسيف، يتوارد على شيء واحد، ولكن باعتبارات مختلفة. فالصارمُ يدل على السيف من حيث هو قاطع، والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه، والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد. إذا نحن عرفنا هذا، عرفنا في الوقت نفسه أن الاعتبار: يطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يَعْبُر منهما على معرفة ثالثة، وإنْ لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين، فلا يُقال في حقه اعتباراً ولا فكراً ولكن يُقال في حقه تذكراً.

 

أما النظر والتفكر: فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة، فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظراً، فكل متفكر فهو متذكر، وليس كل متذكر متفكراً.

 

وفائدة التذكار كما وضحها الغزالي: تكرارُ المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحي عنه أبداً. وفائدة التفكر: تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة. والمعارف إذا هى اجتمعت في القلب وازدوجت فيه على ترتيب مخصوص؛ أثمرت معرفة أخرى، فالمعرفة نتاج معرفة. فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل نتاج آخر. فهذا هو الفرق بين التذكر والتفكر عند الغزالي؛ وهو تقسيم منهجي اعتباري كما ترى يحيل المعارف كلها إلى منطق المعرفة الثالثة. وعن هذه المعرفة الثالثة التي يثمرها الفكر يصدر كل جديد، وهى من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن معه أن ينفصل الفكر عن الذكر إلا من الناحية الاعتبارية لا الناحية الحقيقية، فالفكر ذكر ولا يزيد، والذكر فكر مع التحقيق.

 

إنّ إثمار المعرفة الثالثة المتولدة من طريق التذكار والتفكير إذا هى كانت خاضعة للوهلة الأولى للتفكير أثمرت، وزادت، وتكثرت بالمفاضلات والمقارنات والمقاربات والقياسات النظرية، وتلك علامة جدتها وتخلقها في الذهن المستعد لها، أو قُل هى علامة امتيازها بين المعارف المتكررة. لكن هذا التفكير نفسه خاضع كذلك للتذكار إذا كان التذكار يفيد رسوخ الملكات المستعدة للإثمار واستجلاب المعاني المستجدة.

 

وقد يترتب الفكر على الذكر ضرورة في هذا الميدان الحيوي؛ أعني الميدان المعرفي ليس في التصوف فقط، ولكن أيضاً على مستوى النظر العقلي الصرف، ألم يقل ابن رشد:”إنّ قطع الشهوات شرطٌ في صحة النظر”؟

 

وقطع الشهوات، كل الشهوات! رغم استحالتها، وعلى جميع مستوياتها الجسديّة البدنية والمعنوية النفسيّة، يحتاج إلى مكابدة ومجاهدة وتَعَوُّد ومران بمقدار ما يحتاج إلى الوسائل المساعدة في التغلب عليها، وأهم هذه الوسائل هى الذكر. وإذن؛ فالفروع التي نحسبها عملية تابعة، هى في الأساس أصول للنظرية، ليس ينبغي أن نفصل فيها متعسفين بين النظرية ولواحقها العملية. فإذا كان الذكر يمثل تلك الناحية العملية من التصوف، وكان الصوفية أهل فكرة عليا؛ فهو ليس بالمفصول ولا المعزول عن الفكر الذي يمثل الناحية النظرية، بمقدار ما يجيء الفكر أيضاً غير مفصول ولا هو بالمعزول عن الذكر.

 

على أن الصوفية إذا كانوا يُجلُّون الذكر ويرفعونه درجات على الفكر؛ فمن اعتبارات أدبيّة فقط: من اعتبار ثمرته كونه تكراراً للمعاني في القلب لترسخ ولا تنمحي عنه أبداً، وليس للغَضّ من أقدار الفكر مع أن الفكر يثمر معرفة جديدة لم تكن بحاصلة. وأقولُ اعتبارات أدبية مع الله؛ لأنه سبحانه المحرك الأوحد لموحياتهم النظرية والشعورية، وقد جرت مناقشات فيما بينهم تدور حول: هل الذكر أتمُّ أم الفكر؟ وكانت المناقشة قد تمَّت بين أبي عليّ الدقاق لما أن سأله أحدهم، وهو الشيخ أبو عبد الرحمن، فأراد الدقاق أن يعرف ما يقع للشيخ السائل من رأي فيما سأل عنه، فإذا الإجابة تجيء: عندي أن الذكر أتمُّ من الفكر؛ لأن الحق سبحانه يوصف بالذكر ولا يوصف بالفكر، وما وصف به الحق سبحانه أتم ممَّا اختص به الخلق، الذي هو الفكر، فاستحسنه أبو علي الدقاق.

 

إنما الأدب مع الله وحده هو الذي يحرك هذه الطائفة نحو “المقول” كما حركهم نحو العمل، ومعنى الأدب هنا هو الأخلاق على أدق ما توصف به الأخلاق، وهو الذي يدفعهم إلى أن تجيء حركتهم موصولة بالله وصلة قُربة وتحقيق؛ فمن أراد أن يعتبر هذا الأدب دروشة ساذجة لا خير فيها ولا غاية منها، فاعتباره مغلوط ومردود عليه وحده دوناً عن سواه، ولكن ما أعظم هذه الثلاثة للذات العارفة: الذكر، الفكر، التسبيح.

 

*    *     *

 

ومع فقدان هذه الثلاثة يصبح إنفاق المداد في لا شيء شيئاً عصيباً عجيباً بالفعل! فقد يأخذنا العجب دهشاً أحياناً كثيرة بسياج من الحسرة والألم على إنفاق المداد ذلك الإنفاق الذي يحتاج منّا إلى إشفاق، ففيمَ يكتب الكاتبون، وفيما يدونون من قضايا ومذاهب وأخلاق؟ لماذا لا تتغير النفوس وترتحل عن تمسكها بطينة الأرض إلى حيث رحابة الضمير ورحابة الإيمان؟ لماذا لا نتصور أن وجودنا الأرضي مرهون بخيرورة التعامل ورفعة المقاصد التي نحضر فيها مع الله؟ إنّ أعمالنا جميعاً ما لم نكن على وعي فيها بما نحن نكون فيه حاضرين مع الله قصداً، فلن نجد لها ثمرة باقية، فلماذا كل هذا الوهم الذي يلفنا لفاً غير مبارك فيه من أخمص القدم إلى أدق الشعرات؟

 

الضمير فينا مفقود أو يكاد، والخير الذي نزعمه محققاً مجرد سَراب، فلا هو كائن ولا يكاد، وكلنا يكيد لأخيه ألوان المكائد؛ ليظفر في النهاية بما يظفر به كل معتد أثيم.

 

ومداد بعض الكتاب لا كلهم، ويا حسرتاه على مداد بعض الكتاب، يجرى ولكأنه ما جرى ولا سال: يتسألون: فيمَ هذا العناء؟ والناس هى هى الناس، والأخلاق هى هى الأخلاق، والشرور والمكائد والتحاسد والتباغض والظلم والقهر والعدوان وأكل الحقوق بالباطل هى نفسها منذ هبط آدم عليه السلام على هذه البسيطة إلى يوم الناس هذا؟ والثمرة المرجاة جنيها وتحصيلها لم يحن موعد قطفها لا تتحقق في هذه الدنيا؛ لأن حينها لم يحن بعد، لكنما تحققها في يوم لا ريب فيه: لا ريب في ذلك اليوم عندنا. يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. يا ألطاف الله على هذا القلب السليم.

 

من أين لنا بحفظ السلامة له على الدوام ومعناه مشتق من لفظه: من التقلب وعدم الثبات؟ فإذا لم يكن وراء القلب توفيقٌ من الله فقلَّ أن يكون قلباً سليماً. ونحن نعلم أن سلامة القلوب في تعلقها بخالقها، وفي تحققها بهذا التعلق، ولا يحفظ القلب حافظ ما لم يكن حافظاً ذكر الله في لبِّه قبل غلافه وفي جوفه قبل قشرته ناهيك عن التفكر في طلبه.

 

الحقيقة ليس هناك أحفظ للقلوب من ذكر الله والفكرة فيه على الدوام، فلئن تيسر هذا المطلب فهو الخلاص من شرور الحياة. لكن الذكر له تبعات يتصورها بعض الذين ينظرون إلى تراثنا الروحي نظرة سطحية خاطئة عوجاء: إمِّا أن تهمل هذا العالم الذي تعيش فيه إهمالاً تاماً، لا عودة لك إليه، وتبقى على الدوام في غيبة دائمة فيما يشبه الفناء في المذكور. وإمَّا أن تكون مع المخلوقين تعيش دنياهم وتحاول أن تصلح ما فسد منها فلا هم بمنصلحين، وتشارك رغماً عنك أهواءهم، وتتلقى ما يتلقونه من أمراض وآفات وآلام وحسرات، ولا وسط. هكذا يتصور الذين ينظرون من عوج وتسطيح إلى تراثنا الروحي نظرة أقرب إلى تسطيح المفهوم ثم يخرجونه عن أخص خصائصه: الوسطية والاعتدال.

 

في ذكر الله تبعات التغيير كلها من أول اللفظ باللسان إلى هاته الحلاوة التي ينشئها الفناء في المذكور تماماً كما أن الفكرة فيه على شرط المعرفة الثالثة تبعة إصلاح الفكر الديني والمعرفي وأولاها وأهمها: نبذ التقليد ودحر عادة الإتباع للآخرين. فالإسلام الذي حفظ قلوب المسلمين بذكر الله وسط أخلاقه بين إفراط وتفريط.

 

ولا شيء يحفظ للعبد حياته من سائر الأمراض والآفات والآلام غير الطمأنينة الناشئة من مواهب المذكور وألطافه وعطاياه؛ وغير التأمل الصادر عن موحيات القرآن. في هذه الطمأنينة المحبَّبة إلى قلوب الذاكرين وفي ذلك الإيحاء الصادر عن الكتاب الكريم؛ تبعات التغيير تتحول بها النفس من نمط في الحياة إلى نمط آخر صالح لفك العلاقة المحجوبة بين الدنيا والآخرة، فإن لم يكن لك في هذه الدنيا حظ ولا نصيب، فجزاؤك هناك في عالم الآخرة محفوظ القيمة متوّج بحسن المثوبة بغير بخس ولا رهق، ويكفيك من موفور الجزاء في هذه الدنيا أنك إذا ذكرت الله متحققاً بجلالة المذكور توهجت فيك أنوار الألطاف وأطمئن من ثمَّ قلبك. ألا فلنذكر الله على الدوام فبذكر الله وحده مُفْرَدَاً تطمئن القلوب.

 

 

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *