Share Button

بقلم : د. عصمت نصَّار

يبدو أن قضية حرية البوح والرأي والانتقاد سوف تظل مطروحة في فكرنا المعاصر بلا ضوابط أو معايير أو حدود فاصلة يلتزم بها العامة والخاصّة معاً؛ فقديماً قد كتب أبو حامد الغزالي كتاب بعنوان “إلجام العوام عن علم الكلام” ونصح فيه بعدم خوض غير المتخصصين في قضايا العقيدة وأصول الدين وما يتعلق منها بالفقه وأصوله وفروعه، ولعله أراد من ذلك التمييز بين حرية الاجتهاد، وهو من الأمور التي تشغل العلماء وحرية البوح والرأي الذي يُشاع بين الجمهور ويبرر ذلك التمييز بالأثر المترتب على هاتين الحريتين؛ فالاجتهاد بلا أدنى شك لا يصح إلا عند من يمتلك العلم والخبرة والدربة والدرايا وأصول العلم وحقائق الدين واعتدال العقل والقدرة على التبسيط والشرح والتبرير والاحتجاج في حين أن الذين يصرّحون بما يفيض به الخاطر لا تتوفر فيهم كل هذه الصفات.

رغم ذلك؛ فانّ أثر هؤلاء وأولئك شائع في الرأي العام ولا تخضع شدة أثره وقناعة الجمهور به لمعيار واحد بل عدة معايير يستدل عليها من الوقوف على ثقافة المتلقي ووعي الجمهور. والذي يعنينا في هذا السياق هو ضرورة التسليم بحساسية القضايا الدينية وخطورة الخوض فيها من قبل غير المتخصصين، ولا اقصد بذلك فئة أو طبقة أو جماعة بعينها بل أعني بالمتخصص – الذي تأهله سعة العلم والخبرة في غربلة الآراء واختيار المناهج والوعي بالمقاصد والمألات – وذلك لصيانة الدين وحقيقة شرائعه من الشطح والتأويل الفاسد والانتحال والجمود والتعصب.

نعم أن قضية تجرء المتعالمين وأشباههم على احتلال كراسي العلماء أضحت ظاهرة في ثقافتنا المعاصرة – وتشهد بذلك منتدياتنا وأحاديثنا على الشاشات وفي الكتب والصحف؛ فمعظمها ينتهي بالخصومات البذيئة التي تصل إلى درجة تكفير المتناظرين لبعدهما أو فضح جهلهما .

ولعلّ ما يميز محدودية وجود تلك الظاهرة في الماضي وانتشارها وكثرتها في الحاضر أمران:

أولهما : حضور وفاعلية ثابت متفق عليه له مصداقية يحتكم إليها عند الخلاف في التناظر والتثاقف والجدل.

وثانيهما : أصالة المتناظرين وكفاءتهما وامتلاكهما أليات التثاقف وتحليهما بآداب التحاور. وقد تطرق مفكرنا “خالد محمد خالد” إلى هذه القضية عندما وصف قليلي العلم وضعفاء الكفاءة بأنهم خير ممثل للمغفلين في ميادين البحث والدرس وذلك لأنهم يتشدقون بالشعارات ويحشدون من لغو الكلام والضعيف الشائع من الأسانيد، والغريب وغير المألوف من القضايا والمصطلحات لإيهام المستمعين والمتلقين بغزارة علمهم وصحة وسلامة اعتقادهم، وهم في الحقيقة يزيفون الوعي ويطمسون الحقائق، ويصبحون بذلك معاول للهدم وليس للبناء ويسيئون للدين ويصدّون الناس عنه.

 ومن هذا السبيل يؤكد “خالد محمد خالد” أن كهنة هذا العصر ويقصد بهم المتعالمين المتعصبين للموروث، والمغفلين عن مقصده وأدراك الملابسات المحيطة بحقيقته، والعاجزين عن الفصل بين جوهر الشيء وأعراضه، والمتوهمين أن الخير والصلاح في القديم الذي يحمل بين طياته لب العقيدة وروحانية الوحي والدواء الشافي من مادية العصر وجاهلية القلوب والأذهان، أكثر خطراً على الدين من أعدائه. ويقول “خالد” في ذلك (ظلت الكهانة، ولا تزال، تنحسر طوفانها عن طائفة ترسبت في القاع نستطيع أن نسميها (المغفلون النافعون) يدعون بدعوى الجاهلية الأولى؛ بل الجاهلية التي قبل الأولى! ويتمادون في الفلسفة الكهنوتية الكئيبة، فيدعون الشرق كله، والشرق وحده، إلى نبذ المادة المضللة، والاعتصام بالروحانية. نتخذ منها كساءنا وغذاءنا، ونسود بها الدنيا، ونصبح ملأها الأعلى، وملائكتها المقربين! قد يكون المغفلون مخلصين، صادقين، قانتين، ولكننا لا نستطيع الاطمئنان إلى تفكيرهم … أن هذا اللقب اصطلاح (دولي) تعرفه وزارات الخارجية في الدول الكبرى ذوات الأطماع الاستعمارية .. فلقد قرأت لكاتب أمريكي أن في وزارة الخارجية البريطانية (ملفات ودوسيهات) ضخمة تعرف بملفات (المغفلين النافعين) وهم الذين يخدمون الاستعمار خدمات جلية من غير قصد … وذلك بأن يذيعوا في صفوف أمتهم أفكاراً، أو يتصرفوا تصرفات من شأنها أن تفضي إلى تركيز الاستعمار، دون أن يقصدوا هم هذه الغاية أو يعملوا لها.  فالعالم، الذي ينحرف بالدين عن غايته التي هي إنهاض البشرية وتوفير الحياة لها، مغفل نافع للزندقة والإلحاد والاستعمار).

 وعلى الرغم من وجاهة عرض “خالد محمد خالد” لآفة التعصب للقديم وإهمال الجامدين لقراءة الواقع المعيش وانعزالهم عن مجريات الحياة انتصاراُ للدين والوحي وعالم الروحانيات؛ فإننا نجد “وجدي” على غير منهجه ومخالف لنهجه في النقد يجادل في القضايا الجزئية ويناقش المسائل الهامشية؛ فذهب إلى أن الروحية والمدافعين عنها ليسوا بلهاء ولا مغفلين وأن حماة التراث لا يقودون المجتمع إلى نقيض مقاصده كما أن الاهتمام بالقيم المجردة والأخلاق المثالية ليس رد فعل لقسوة التفكير المادي وانتشار الفلسفات النفعية، وذلك لأن العكس صحيح؛ فالأعلاء من شأن المثل والروحانيات كان مسعى الأنبياء ومطلب الفلاسفة وغاية المصلحين ويقول في ذلك : (نقول نعم وجدنا أنصاراً كثيرين في الرعيل الأول منهم الأنبياء والمرسلون، ويليهم الفلاسفة الأولون ثم الحكماء الإسلاميون، ثم خلفاؤهم الأوربيون – جميعهم ينتصر ون إلى المثل الروحانية – … وأنه ليصعب على الإنسان أن يتصور أن جميع هذه العقول تستهويها فكرة بلهاء. وأولى للعاقل وخاصّة إذا كان قريب عهد بالعلم والفلسفة أن يتهم نفسه بالبله قبل أن يتهم هؤلاء الأساطين به. 

وهل ممّا يفهم قول الأستاذ بأن الروحانية أثر من أثار المادية المنظمة، والمفعمة بالرغد والرفاهية؟ إنّ الروحانية عقيدة أولية يصادفها الإنسان عند أحط القبائل المتوحشة التي لا تحصل على غذائها إلا ما تنبته الأرض من أعشاب … وهم أشد تمسكاً بالاعتقاد في الروحانية من سكان القصور … فأية مادية منظمة ولدت لهم فكرة الروحانية وغرستها في قلوبهم إلى الحد الذي هم عليه؟ وأي رغد من العيش والرفاهية من الحياة لديهم توصلهم إلى هذه التخيلات الراقية من العقائد المجردة؟).

ثم يأخذ “وجدي” على مناظره ربطه بين الأمم الراقية والاستقرار الاقتصادي والعلوم النافعة من جهة، وجمعه بين الأمم الجاهلة التي يسودها الاستبداد ويعم أهلها الفقر والعوز وانهيار القيم والأخلاق من جهة أخرى. بحجة أن هذا الربط لا يخلو من التعسف؛ فشر الفقراء وتطلع المعوزين للرذائل أقل بكثير من ما يفعله الأغنياء من آثام وأطماع تمنعهم من التفكير في أن يصبحوا قدوة في الأخلاق والاعتدال.

أضف إلى ذلك؛ أن جل من ينشد الإصلاح وخيرية العالم من الفقراء؛ وليسوا من سكان القصور. ويقول “وجدي” في ذلك (كل الجماعات التي جاهدت لترقية الأوضاع الحكومية والاجتماعية كانت من طبقة الفقراء تحت زعامة رجال من درجتهم. ناهيك أن الذين بادروا إلى قبول هداية الأنبياء، ووقفوا نفوسهم على نصرتهم كانوا من هذه الطبقة؛ على حين أن الذين كانوا يتمتعون (بالعافية الاقتصادية) كانوا يعملون على إبطال هذه الدعايات الإصلاحية بكل الوسائل الإفسادية).

ويبدو أن “وجدي” مصر على مغالطاته! فـ “خالد” لم يزعم أن الأغنياء دون غيرهم بناة النهضة وأهل التفكير الحر وأرباب المقصد الذي ينبغي على الشرقيين إتباعه والتنازل عن مشخصاتهم؛ بل كان يريد إيضاح أن العوز والفقر وغيبة العدالة بين طبقات المجتمع تعمل على انقسام الأمة وإضعاف المبادئ والقيم؛ ولا سيما عند أولئك الذين يصوّرون للناس أن الفقر نصيب والغنى قدر والتطلع لما في يد الأغيار تمرد على المكتوب وبمعنى آخر أن رجال الدين الذين يبررون الظلم الاجتماعي ورأسمالية والأقطاع في مجتمع يسوده العوز والفقر أقرب إلى المحرضين على الكفر والتطرف والتمرد منهم إلى أصحاب الرسالات ودعاة الإصلاح وطالبي العدالة و السلام الاجتماعي.  

ويأخذ “وجدي” على “خالد” أيضاً إدّعاءه بأن الموضوعية والواقع يقتضي عدم فصل المادية عن الروحية أو تجاهل أثر البطون الجائعة والفقر القاتل على سلوك الناس وذلك لأن السلوك البشري وليد حالتنا الصحية وحالتنا العقلية. محتجاً – أي وجدي – بأن هناك أمثلة واقعية عديدة على العكس من ذلك؛ فمن الفقراء انطلقت الدعوات الإصلاحية؛ في حين خرجت من القصور السياسات الانتهازية والاستبدادية والنزاعات القمعية غير الإنسانية ويقول “وجدي” في ذلك (لو كان الأمر كما يقرره الأستاذ؛ لكان كل صحيح الجسم سليم العقل على أكمل ما يكون من الأخلاق؛ ولكن قد يكون المشاهد المحسوس غير ذلك؛ فكم من صحيح الجسم عبقري العقل؛ وهو على أخس ما يشاهد من انحطاط الأخلاق؛ وكم من سقيم الجسم محدود العقل؛ وهو أرقي ما يتخيل من سمو الخلال وكرم الطباع … ذلك أن الروحانية مستقلة عن الجسم؛ لا تمت إليه بسبب، كيف لا وهي من طبيعة أرقى من طبيعة المادة).

(وللحديث بقيّة)

بقلم : د. عصمت نصّار

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *