Share Button
هو أن يشعر الشاعر أو الأديب أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه، ويعبر عن ذلك تعبيرا صادقا ممثلا لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير، بحيث يكون له شخصية خاصة تخالف شخصية اي أديب في عصر آخر، فلا يصح ان يأتي شاعر من شعرائنا في العصر الحالي ويحاكي شعوره وأحساسه شاعرا من شعراء الجاهلية او شاعرا من العصر الأموي او العباسي او غيرها، لأنه لا يكون في الحقيقة معبرا عن عصره ، بل مقلد لم يأت بشيء جديد وليست له شخصية مميزة.
“فالتجديد هو في الشعور والإحساس وتقدم الحياة العقلية”
يعتقد بعض النقاد أن الشرق قد ضل طريقه في العصور الأخيرة متأثرا بتعاليم الغرب فأصبح مثله الأعلى ماديا ، يحسب الحرية التي تسمو بها النفس إلى المكان الأرفع أن ينال الجسم وأن تنال الشهوات كل مبتغاها ، وبالطبع الشرق وطبيعته وعقيدته مختلفة عمٌ يفكر به الغرب ومثله الأعلى.
فهل نستطع في الغناء وفي النقش وفي الموسيقى والأدب ان نطبع هذه الفنون بروح تصل من السمو إلى هذا المدى وتخلق في الحياة صورا شعرية او أدبية أو موسيقية أو غنائية يتجلى في المثل الاول بقوة الفن وضوحا يأخذ الرجل عن نفسه حين يشهدها أو يستمع إليها أو يقرأها .
يقول طه حسين:
إن اتصالنا بأدبنا القديم ضعيف لم يبلغ ما ينبغي له من القوة ، فكثير جدا من ادبائنا يعرفون عن الأدب الأجنبي أكثر ما يعرفون عن الادب العربي، فالذين يحظون شيئا من الثقافة اللاتينية يحدثونك عن تفصيل دقيق وإطالة ممتعة عن الادباء اللاتينيين وآثارهم وخصائصهم ، فإن سألتهم عن أدبائنا القدماء فقليل منهم يستطع أن يطيل معك الحديث، فلا بد من مضاعفة النشاط في إحياء الأدب القديم ونشره وتوثيق الصلة بينه وبين الأدباء المحدثين حتى يشعروا شعورا قويا بأنه ادبهم هم، لا أدب آبائهم واجدادهم ، وبأنهم محتاجون إلى أن يستمدوا منه القوة والحياة..
السوريون كنا في الماضي أمة كبيرة وبسطنا سلطاتنا وسؤددمننا على ارباع المنطقة التي كان لها شأن تاريخي في العالم المعروف وكان لأساطيلنا البحرية من الصولة والقوة ما لأساطيل امريكا وبريطانيا وغيرهما اليوم، وما بلغنا ذلك إلا بقوة مبادئ الحياة التي تفوقنا بها على غيرنا في معترك الحياة والارتقاء، ثم انتشر فساد النظرة إلى الحياة في بعض اجهزتنا ومؤسساتنا فلم نتمكن من الثبات ضد الجماعات التي كانت في فوران نهضاتها، ثم سقطنا تحت مطارق الفتوحات البربرية المتعددة فتفكك نظامنا وعمت الفوضى وشاعت المذاهب الفاسدة والنظرات الغريبة عن مصالحنا فصرنا امة صغيرة متنافرة بعد أن كانت أمة كبيرة عظيمة.
لقد كانت سقطنا عظيمة على قدر عظمة البناء الذي شيدناه واتساع السؤدد الذي اقمناه حين كان البحر المتوسط كله تحت سيطرت أساطيلنا ، وحين كانت افريقيا وشبه جزيرة ابيريا حيث اسبانيا والبرتغال اليوم مستعمرة لن ، وحين كانت آسيا الصغرى من جملة أملاكنا.
ونحن في هذه الأيام نعيش اشد المحن على المستويات كافة فواجبكم أنتم ايها الأدباء والمفكرون تنظيم عملكم والارتقاء بسمو نظرتكم إلى الحياة والكون والفن والوقوف في وجه الفوضى .. فوضى الأدب وبلبلة الادباء اللتان تحملان نصيبا من مسؤولية التزعزع النفسي والاضطراب الفكري والتفسخ الروحي المنتشرة في الأمة.
كفكفوا دموع هذه الأمة وارفعوا لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعلا فيه نور، فيه امل، فيه صحة وعافية، ولا تكونوا مقلدين في سائر اعمالكم ..
اتركوا الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة، واطرقوا أبدا المواضيع الحيوية والعمرانية وشهروا تشهيرا لا تخشوا فيه لومة لائم مواضع الضعف في الأمة مشيرين إلى كل ضعف في اخلاقها ، وخلل في عاداتها، ونقص في كيانها على سبيل حب الإصلاح ليس إلا.
وكن أيها الأديب ذلك الرجل المفكر في الحياة وما تتطلبه الحياة من عوامل الرقي وأسباب العمران، ولا تعود حياتك كلها في ما تكتب على البكاء والنواح على الطلول البالية والآثار الخرفة وهذا ما يقوم به أكثر الادباء والشعراء..ظنا منهم انهم يخففون الألم.
قال جبران خليل جبرا” الشاعر زنبقة في جمجمة”.
قال خليل سعادة ” كل أمة مقياس ارتقائها وصورة أخلاقها ومظهر شعورها وعنوان مجدها فهي المرآت التي ترى بها الأمة نفسها ومصباح الظلمات يكونه الشاعر والاديب والفنان والفيلسوف والعالم والقائد كل واحد منهم بطريقته الخاصة”.
إن الحالة التي تمر بها الأمة مختلفة تماما عما تمر بها دول أوروبا مثلا ، لذلك يكون الشاعر هو الذي يعني بإبراز أسمى وأجمل ما في كل خير من فكر أو شعور أو مادة ، ومن اهم خصائص الشعر: إبراز العاطفة والشعور والإحساس في كل فكر أو في كل قضية تشمل عناصر النفس وإعطاء الشعور والإحساس والعواطف صورا مجازية أو خيالية عناصرها ” القوة والجمال والسمو، مع عدم مفارقة الحقيقة والغرض الإنساني”.
والشعر والإبداع المثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر وإن يكن الشعور عامله الأساسي او غرضه لأن الشعور الإنساني متصل بالفكر اتصالا وثيقا.
هناك تعبيرات كثيرة ..هناك من هو متعصب لموسيقاه تعصبا قوميا غير ناضج، وهناك من يجدها هي لغة الفكر والفهم، إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها ومن يقول أن الموسيقى تتناول الميول الأولية والعواطف والحالات النفسية على أنواعها والأصوات على اختلافها والشعر والأدب والفلسفة.
وهناك من يميز بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وهناك من يقول متى كانت الموسيقا الغربية تعبيرا عن العواطف والحالات النفسية التي تعبر عنها الموسيقى الشرقية عينها امكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها.
إن عواطف الحب والبغض والرقة والقسوة والسرور والحزن وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة وما ينتج عنها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية كل هذه واحدة في جميع الامم في الشرق والغرب ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبه النفوس وارتقائها وشدة شعورها او خمولها وانحطاطها وعدم شعورها.
وتنقسم الناس إلى مجموعتين الأولى ناتجة عن حكم العادات والتقاليد ، والثانية تحررت نفسيتهم وارتقت وأصبحت موسيقاهم تعبر عن عواطف تسمو على الشهوات والتخيلات ولم يقتصر على وصال الحبيب، بل اصبح مطلبا أعلى يرفع الأحبة نفوسهم ويشحذ عزائمهم لتحقيقه مولدا في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة مالا يستطع فهمه من همه وصال الحبيب .. هذه العواطف والأفكار التي تعبر عنها موسيقى أمثال” بيتهوفن” الذي بلغ في الفن الموسيقي حد الألوهية لأن معزوفاته حققت اسمى ماتصبوا إليه النفس البشرية في الحياة، إنه كان يشعر بعواطف وآمال وميول جميع أخوانه البشر حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس، هذه هي صفة الموسيقي النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابعة.
لو نظرنا إلى معزوفاته ( كسنفونيته الخامسة المعبرة عن الصراع بين الفناء وعوامل البقاء ، بين الموت والحياة ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب إلى مراتب السمو بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضا.
وليحقق الشاعر أو الأديب ذلك عليهما الاتصال بمجرى حياة يجدان فيها نفسيتهما ونفس امتهما ومجتمعهما وحقيقة طبيعتها وطبيعة جنسهما ومواهبهما وبإدراك عمق النظرة إلى الحياة والكون والفن الملازمة لهذا المجرى الذي يزداد قوة مع الأيام ، ويجعل من أمتنا أمة في مصاف الأمم التي لها ادب حي جدير بالبقاء وباحتلال مركز عالمي لأنه يوجد في الأمة من روائع المظاهر والمكنونات النفسية التاريخية ما يستهوينا لاستخراج كنوزها واستئناف مجرى خططها السامية.

د. غسان صالح عبدالله

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *