Share Button

الخطاب الديني والإساءة إلى الإسلام

بقلم : د. مجدي إبراهيم

أصبح الرأي العام الأوروبي – كما لم يزل – شديد الحساسية تجاه كل ما هو إسلامي؛ فما هو منسوب إلى المسلمين وشائع عنهم من قبيل الغرب، ومنشور في كتبهم وصحفهم من دموية وإرهاب وذبح للرهائن يثير كثيراً من الشكوك والمخاوف والمحاذير؛ بالإضافة إلى قلة إدراك المسلمين للصورة التي يجب أن يقدِّموها ويبذلوا في تقديمها جهود المراجعة والتصحيح، كيما تتضح للغرب المعرفة الكافية بأخلاق الإسلام وعادات أهله مع الآخرين ممَّن يخالفونهم الديانة ولا يشاركونهم العقيدة. وتلك الصورة لا يمكن بحال أن تُعْرَف إلا بالسلوك والعمل. وليس للكلام فيها حظ سوى حظ المراجعة النظرية للتطبيق العملي؛ أعني حظ مراجعة الفكرة للدلالة العملية. فإذا كانت الفكرة النظرية عن الإسلام هي كيت، وكيت، وكيت … ممّا هو صحيح عند أهله ومقبول، ثم جاءت الدلالة العملية تكذِّب كل ما هو مقبول لدينا وصحيح؛ فمعني ذلك أن العيب ليس في الفكرة النظرية ولكنه في التطبيق؛ وأن الإسلام مجرَّداً كديانة مقبول في ذاته، وإنما العيب فيمن اتخذوا منه صورة منفِّرة للقتل والدموية والإرهاب وذبح الرهائن. ولك أن تتصوَّر بعد ذلك مشاركة المسلمين أنفسهم في رسم الصورة المنَفِّرة للإسلام فيما بينهم، ولدى الغربيين أيضاً !
ولقد سمعنا وسمع معنا ألوف من الناس، أن وفوداً كانت وفدت إلى الدول الأوروبية، ولا تزال الدول الأوروبية نفسها لا تجد مصداقية تعتمدها لمحاولة التخفيف من أمر الحملات الضارية التي ترفع العداوة من العنت الغربي والأمريكي، وتسئ إلى الإسلام وتهجم من حيث لا تدري على “السلام الإسلامي” في عقر داره، ولا يزال الغربيون يصفون المسلمين بأنهم أشرار همج إرهابيون!
ولم يكن هذا الوصف في الواقع المقرَّر الفعلي بعيداً عن تلك الصورة التي رسمها المسلمون  أنفسهم (بعضهم لا كلهم) عن عقيدتهم التي يدينون لها بالولاء : صورة مشوهة تنمو في زمن التسلط على الأفكار حين تخفى الحريات وتزول، ولا تكاد تجد لها شعاعاً من ضوء؛ الأمر الذي تسبب بالقطع في “فقر الفكر”؛ كما سمَّاه في السابق أديبنا الراحل “يوسف إدريس” : (فقر الفكر وفكر الفقر)؛ أدى هذا الفقر الفكري إلى إفساد الحياة الفكرية والثقافية والدينية فساداً قلَّ أن يعالج؛ مما جعل الخطاب الديني يسير سيره الأعرج. لم يكن ليعرف للاستقامة طريقاً، ولم يكن ليدرك حركة التطور في الواقع الفعلي تتحرك فيه.
الخطاب الديني من حيث اللغة خطاب متشنج لا سماحة فيه، يسئ إلى الإسلام من حيث يريد الإحسان، غير أن هذه الإساءة تنال من المسلمين أكثر ممّا تنال غيرهم، وتقدح فيهم أشد ممّا تقدح في غيرهم؛ لأن خطابها (لغتها) مرهون بلغة عنيفة ربما لا تعرف للرحمة ولا للسماحة معنى، ولا للعقلانية ولا للروحانية غير الكلمات. ناهيك عن أن هذا الخطاب نفسه ليس هو باللغة فقط ولكنه فكرة أيضاً؛ فلا يوجد خطاب يتجرد عن فكرته ولا عن لغته، حتى إذا ما كانت اللغة حجرية والفكرة متخلفة؛ فماذا عساك تنتظر سوى الاعوجاج من جهة وضحالة الأذواق من جهة ثانية؟ ودع عنك الإسفاف والتراخي والإهمال، وأضف أنت ما تشاء من سلبيات الخلق الوضيع وآفات تنخر في بنيان الإنسان كما السوس الأسود تتآكل معه أخلاقه وروحه وقدراته؛ فيتلاشى كأن لم يكن.   
فمما لا خفاء به، وجود حركات ظهرت في الأجواء الإسلامية فتحت الطريق أمام الاستبداد بشتى معانيه بعد أن سلكت سبيل التقليد وسدَّت منافذ الحرية. هذه الحركات لها أصول فكرية وثقافية في تراثنا العربي الثقافي الإسلامي، لكنها كانت ومازالت آفة هذا التراث؛ لأنها تسعي دائماً؛ لتكون ضد كل فكرة مستنيرة، تكبِّل العقل وتقيِّد الفكر بقيود من حديد، وتعامل الإنسان بكل أغلال التحجر والتخلف والرجعية والبلادة والنكوص .. ثم ماذا؟! ثم تحمل على عاتقها الواهن عبء الوصاية على الدين؛ حتى إذا ما جاء دورها في الإسهام الفكري أخذت تصور دين السماحة والإخاء بصورة تدعو إلى التعصب والشقاق، مع أن الدين في ذاته علاقة خاصَّة مخصوصة بين العبد وخالقه؛ والذي يتأمل معي خريطة الفكر الإسلامي، يجد تياراً متشدداً في منطقة سوداء داكنة؛ هو سبب التخلف العقلي والتدهور الفكري ومعاداة الآخر المختلف ومباغضته؛ إنْ لم يكن سبباً مباشراً للإرهاب بكل معانيه، تغذِّيه الأفكار الرجعية، ويعتمد على التقليد، ويرفض حيوية العقل وحرية التفكير؛ وله في كل بقعة أنصار وأتباع !
والذين يعتنقون هذا الاتجاه من جهلة المسلمين هم الإرهابيون حقاً! وهم الذين مع شديد الأسف ينكسون رايات الحرية والمحبة والإخاء والمساواة، ويرفعون رايات القهر والتسلط والعنف والكراهية في الجماعة الإنسانية. لكن الإسلام في ذاته بمعزل عن الذين يفهمون منه هذا الفهم السقيم. الإسلام في ذاته وَحْدَة في دين الله؛ وأخوُّة ومحبة وسلام وتسليم.
لا ريب كانت تلك الصورة المشوهة هي التي رسمها المسلمون أنفسهم لتغذية موارد العنف والعصبية؛ بمشاركتهم في حدة تلك الهَجْمَة البشعة وفداحة عواقبها، ونتائج آثارها السيئة السلبية عليهم في المستويين : الداخلي والخارجي؛ تماماً كما شاركوا في قلة الاكتراث للتخفيف منها؛ لأنهم ما قدَّموا السلوك الدال على الاعتقاد الصحيح؛ وما وافقوا قط بين الفكرة النظرية والدلالة العملية؛ بل خالفوا. وما طابقوا بين الخطاب الفكري والممارسة السلوكية؛ بل زايلوا؛ الأمر الذي أدى بالضرورة إلى اتساع الهوة شاسعة وسيعة بين الاعتقاد والسلوك, وبين النظر والتطبيق, وبين القول يقالُ في واد والعمل يجيء ليكون في واد آخر .. وهم من بعدُ ما ارتفعوا على ذواتهم التي أساءت إلى الإسلام من حيث أرادت الدفاع عنه فأخفقت من حيث أرادت النجاح، وما استطاعوا أن يمنعوا عن أنفسهم اختلاق الكذب حين زعموا أنهم مسلمون صحيحو الإسلام؛ بذبحهم للرهائن وتنكيلهم بالأبرياء وقتلهم للأطفال وتشريدهم لهؤلاء الذين لا يملكون حيلة يدافعون بها عن إرادتهم الضعيفة المسْتَلبة؛ وهم بذلك قد ضربوا “السلام الإسلامي” في مقتل من حيث لا يشعرون.
لقد كانت دعوة الإسلام منذ أقدم العصور التي جاء فيها مواجهاً أكبر قوتين عظيمتين في العالم خلال القرن السابع الميلادي؛ الأول الهجري : قوة الروم البيزنطيين، وإمبراطورية الفرس الأكاسرة؛ وهما أكبر قوتين في العالم خلال القرن الأول الهجري، السابع الميلادي. كانت دعوة الإسلام دعوة عملية سلوكية أخلاقية تعطف على الكبير وترحم الصغير وترأف بالناس أجمعين؛ والرأفة محبة؛ والحب أسمى علاقة إنسانية تزكيها رحابة السلام الإسلامي : الله محبة؛ ودين الله قائم في الأساس على الحب؛ والحب فاعلية تطبيقية مثمرة؛ ولم تكن دعوته دعوة نظرية حاجبة للعمل محلِّقة في الآفاق البعيدة عن المنالات التطبيقية.
فالذي يكفي الغرب من الإسلام هو السلوك العملي، وشريعتا تقول : الدين المعاملة. وبهذه المثابة صارت الدعوة في الإسلام دعوة عملية تطبيقية لا تركن إلى نظر مجرَّد عن اللواحق العملية، فإذا جاء خطابها مجرداً عن ملامحه الدالة عليه لم يعد خطاباً مقبولاً بأية حال.
ومن المستشرقين رجالُ شهدوا للإسلام بتلك الأخلاق العملية؛ حتى أشدَّهم تعصباً وأكثرهم إيغالاً في الإجحاف على المسلمين : أعني ذلك المستشرق اليهودي الأصل “إجناس جولد تسهير” الذي لم يستطع إنكار مبادئ الإسلام القويمة رغم مغالاته في التقييم والتقدير وإخفاقاته الناتجة عن تلك المغالاة؛ لكنه ظل على فكرته التي أرجع فيها أن المسلمين يكتسبون من القرآن الفضائل، وأن للقرآن أثره العظيم على سلوك المسلم في حياته الخاصة والعامة، وفي حياته مع الآخرين؛ ممّن لا يعتقدون نفس اعتقاده. وفي ذلك قال في كتابه “العقيدة والشريعة في الإسلام”:” … وعلينا إنْ أردنا أن نكون عادلين بالنسبة إلى الإسلام أن نوافق على أنه يوجد في تعاليمه “قوة فعالة” متجهة إلى الخير، وأن الحياة طبقاً لتعاليم هذه القوة يمكن أن تكون حياة طيبة لا غبار عليها من الوجهة الأخلاقية؛ هذه التعاليم تتطلب رحمة جميع خلق الله، والأمانة في علاقات الناس بعضهم ببعض، والمحبة والإخلاص، وقمع الغرائز والإثرة، كما تتطلب سائر الفضائل التي أخذها الإسلام عن الأديان السابقة. ونتيجة هذا كله؛ فإن المسلم الصالح يحيي حياة متفقة مع أدق ما تتطلبه الأخلاق”.. (أ. هـ)..
لكأنما الأخلاق بهذه المثابة وُجدت في الإسلام على الصورة المثلى حيث لا ترتقي إليها صورة – خلافاً للرأي السالف – لا في الأديان السماوية الأخرى ولا في الحضارات السابقة عليه، وليس هذا قط من جنس التعصُّب ولكنه الإنصاف الذي لا مبالغة فيه ولا تهويل؛ وإنْ يكن هاهنا تعصب، فهو التعصب الذي حفلت به سوء النية من أقوال بعض المستشرقين؛ وإنْ كانوا قد أرادوا أن ينصفوا الإسلام غير أنهم بهذا الإنصاف أثاروا حفيظة بعض رجال الدين المسيحي؛ أولئك الذين لهم نصيب مما كسبوا من تعصب لدينهم غير منصفين. من ذلك ما قاله “جوستاف لوبون”:”لو صحَّ أن يكون للأديان ما يعزى إليها من تأثير لوجب أن نقول إنَّ القرآن أفضل من الإنجيل؛ لأن أمم الإسلام كانت أسمى أخلاقاً من أمم النصرانيَّة”(!!)
فتلك أقوال من شأنها أن تثير التعصب وتخلق شعور البغضاء بين رسالة الأديان الكتابية، وهي في مجملها لله، ومن الله؛ تحفظ للإنسان رباطه الروحي مع خالقه؛ وتحث جميعاً في ذاتها على قيم الأخوَّة والمحبة والتسامح والسلام. ثم منذ متى كان الحكم على أفضلية الكتاب المقدس قياساً بأفضلية الأمم المنتسبة إليه؟ وهل كل المنتسبين إلى الإسلام على درجة من الأخلاق سامية ومتساوية؟
إنَّ ما يجيء من غمز ولمز بصدد الصراع الدائم بين الأديان الكتابية شيء – فضلاً عن كونه يُشْعل فتيل الثورة والعداوة، ولا يدفع إلى توخي السلام الروحي والنفسي-؛ ينبغي جميعاً أن نتجاوزه إلى ما فوقه، وإلى ما بعده، وأن نترك هذا الصراع التاريخي الدامي لله الحاكم والمسيطر والمطلع على الضمائر والقلوب، وإلا نكرِّه الناس في رحمة الله.
وفي الحق أني لأعجب كل العجب من أولئك الذين ينفِّرون الناس من خالقهم الذي أخبر عن نفسه أن رحمته وسعت كل شيء .. كل شيء .. وبغير استثناء شيء دون شيء؛ وأنه يختص برحمته من يشاء بفضله، ولم يقل قط أنه أختص بنقمته من يشاء! فلئن كان ثمة صراع؛ ففي مثل هذا الصراع تعميق لا شك فيه لهوة الخلاف بين الأديان الكتابية في حين أن المفروض فيها أن تسودها الوحدة ليحل السلام؛ وأن تجمع الروابط المشتركة فيما بينها ليزول التعصب الأحمق المأفون، وأن نثق في الله، وأن ننزهه عن الغضب والمسْخَطة.
والأصل في الدين أنه واحد وإنْ كانت الشرائع مختلفة. والعقيدة الصريحة الصحيحة تقرر فيما يقول الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: “إنْ الله بعث الرسل, وأنزل الكتب، وبيَّن الثواب والعقاب، وأيَّدهم بالمعجزات الدالة علي صدقهم، وأوجب على لسانهم معرفة التوحيد والشريعة، وكل ما قالوه صدق، وكل ما فعلوه حق. وقد أشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء منه في سورة الحج:” إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوُسَ وَالَّذيِنَ أَشْرَكُوا إنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ عَلَي كُلٍ شَيْء شَهِيدٌ” (سورة الحج: آية 17).
 ولما كانت الشرائع والأديان لم تأتْ إلا لتهذيب النفوس الإنسانية؛ ونقلها من مرتبة الحيوانية إلى رتبة البشرية المهذبة أو رتبة الملائكية إن استطاعت؛ وتخليصها من عالم الكون والفساد إلي عالم البقاء والدوام. وكانت سير الأنبياء ووصاياهم وسنن واضعي النواميس ومراميهم تؤكد ذلك وتقويه؛ فقد صارت الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والزبور حقاً لا كذب فيه؛ بشهادة القرآن ذاته، وكانت باقية أبداً وكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً؛ لا لشيء إلا لأن القرآن الكريم مصدر الكتب الإلهية السابقة ومهيمن عليها كما في قوله تعالي :
“وَأَنْزَلْنَا إَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِ مُصَدِّقَاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيهِ”(المائدة: آية 48)؛ وذلك لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً ألبتةً، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى:” إنَّا نَحْنُ نَزَلْنَا الذِّكرَ وإنا لَهُ لحَافِظوُنَ”(الحجر:آية 9).
بقيت كلمة أخيرة تدعونا إلى التساؤل : إذا كان المستشرقون من أقطاب الفكر الغربي قد أنصفوا الأخلاق الإسلامية ووصفوها بالتسامح والأخوة الروحية والمحبة بين أبناء العالمين؛ كما أنصفوا الإسلام باعتباره مصدر الأخلاق على أبنائه لأنه يوجهِّهم ويعلمهم ويحيطهم بالتعليم والمعرفة والخلق الحسن السديد؛ فهل بعد ذلك يمكن الشك في تعاليمه أو في مبادئه وإرشاداته وتوجيهاته لبني الإنسان ..؟!
فلماذا تستمر تلك الهًجْمة الشرسة على الإسلام حتى الآن؟!
إنَّ الإسلام بعيدُ في ذاته كل البعد عن شك الشاكين وتجني الآخذين قضاياه ومبادئه بسالف البهتان.

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

أستاذ الفلسفة بجامعة أسوان 

 

 
 
 
 
   
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *