Share Button

بقلم / محمــــد الدكــــرورى

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ) رواه البخارى ومسلم .

والحلال البين ، وهو الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمكاسب وغيرها مما نص الله على حله، أو لم يرد دليل بتحريمه، فيبقى على الإباحة ، الحرام البين ، وهو الخبائث من المآكل والمشارب والملابس والمكاسب وغيرها مما نص الله على تحريمه، أو ظهر خبثه وضرره ، كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر والزنى، ونكاح المحارم، والربا، والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل من الغصب، والسرقة، والظلم، والرشوة، والغش، والخديعة أو أخذها بالخصومات الفاجرة والأيمان الكاذبة وشهادات الزور إلى غير ذلك من أنواع الظلم.

ولقد جبل الله عز وجل الخلق على حب المال، ورَكَّب في الطباع الحرص على طلبه وتحصيله ، لأن به قوام حياة الناس وانتظام أمر معايشهم وتمام مصالحهم ، وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.

وقد أوجب الشارع على المسلم أن يطلب المال ويسعى في أسباب تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح، حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق، فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن وعزة للمسلم، به تُصان الأعراض وتحفظ الكرامة، وبه يستعان على كثيرٍ من أعمال البر والطاعة، فنعم المال الصالح للمرء الصالح، ويقول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ” يا حبذا المال، أصون به عرضي، وأُرضي به ربي ” .

والكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء ، وأما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء ، والمال الحرام مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، إن صرفه صاحبه في برٍ لم يُؤجر، وإن بذله في نفعٍ لم يُشكر، ثم هو لأوزاره مُحتَمِل وعليه معاقب.

وطلب الحلال فريضة على كل مسلم ومعرفة الحلال من الحرام هي من العلم المفروض على كل مسلم أن يتعلمه وأن يعود إليه في كل حين وكلما اشتبه عليه أمر من الأمور ، وتفصيل الحلال والحرام موجود في كتاب الفقه وعلى المسلمين أن يعودوا إليها ولا يفتي أحدهم بما لا يعلم ويقول هذا حلال وهذا حرام، قال تعالى: ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِف أَلْسِنَتكُمْ الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّه الْكَذِب إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب لَا يُفْلِحُون ).

وعلى المسلم أن يعلم أن الأصل في الأشياء الحل أي الحلال إلا ما حرمه الله عز وجل في كتابه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو ما أجمع عليه علماء المسلمين ، لأن التحريم بالهوى إنما هو شرك والعياذ بالله ، والذي يحرم ويحلل ليرضي أهواءه أو أهواء الناس فهو مشرك مثل بني إسرائيل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يحرمون لهم ويحللون ، والحرام على أصناف منها ما هو حرام لذاته ومنها ما هو حرام لخلل في جهة اكتسابه ، فأما الحرام لذاته فهو كالسموم والخمر والخنزير وغير ذلك من المأكولات المحرمة فالمأكولات على وجه الأرض ثلاثة أقسام ، معادن ونباتات وحيوانات، فالمعادن كالأملاح مثلا وجميع ما يخرج من الأرض فلا يحرم أكلها إلا إذا كانت تضر بالآكل فكل ما هو ضار فهو حرام ولو كان الخبز مضراً لكان أكله محرماً.

وقال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحُرمت أجر إنفاقه، وفي الحديث أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ” يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمدٍ بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عملٌ أربعين صباحًا، وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحت فالنار أولى به ” رواه الطبرانى .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟ فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحَرَمَ نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من استعمال للحرام في المأكل والمشرب والملبس، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين رحمة الله؟

ولذا كان السلف الصالح في غاية الخوف من أكل الحرام والمبالغة في التحذير منه، حتى قال بعضهم: لو قُمتَ في العبادة قيام السارية ما نفعك ذلك حتى تنظر فيما يدخل بطنك ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه، وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء ” رواه البخارى .

ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء ، وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار ، وإن من العجب أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافة المرض ولا يحتمون من الحرام مخافة النار، وما ذاك إلا لقسوة القلوب واستيلاء الغفلة على النفوس وضعف الإيمان وقلة البصيرة في الدين.

وإن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع، فإنها تُضعف الديانة، وتعمي البصيرة، ومن أسباب محق البركة في الأرزاق، وحلول المصائب والرزايا، وحصول الأزمات المالية المستحكِمة والبطالة المتفشية، وانتشار الإحن والشحناء والعداء والبغضاء ، وإن مما يؤسى له عظيم الأسى أن في الناس من لا يتحاشون عن اكتساب المال الحرام وتحصيله من أي طريق وعبر أي وسيلة، إذ ليس لهم همٌّ إلا تكديس الأموال وتضخيم الثروات، فالحلال في عرفهم ما قدروا عليه، والحرام ما تعذر وصولهم إليه، يسلكون في طلبه مسالك معوجَّة وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة والاستيلاء على الأموال المحرمة التي لا شبهة في تحريمها .

حتى أصبح هذا المسلك المشين لشيوعه وانتشاره ظاهرة مألوفة في كثير من مجتمعات المسلمين، حيث فشا فيها أكل الربا وتعاطي الرشوة والغصب والسرقة والمتاجرة بالمحرمات كالخمور والمخدرات وآلات اللهو والغناء ونحوها، وتطفيف المكاييل والموازين والغش والخداع في البيوع والمعاملات، وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة، وأكل أموال اليتامى والقاصرين، والاستيلاء على الحقوق والممتلكات، واختلاس الأموال الخاصة والعامة، بأساليب مختلفة وسبلٍ متنوعة، بلا خوفٍ من الله ولا حياءٍ من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والأشر والجشع والطمع لدى بعض النفوس، حين يضعف فيها وازع الإيمان، وتتحلل من المروءة ومكارم الأخلاق .

وإنه ليكاد يصدق على هذا الزمان ما جاء في الحديث عند البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام؟ ” فعلى الإنسان أن ينتبه إلى ما يأكله وأن يسأل عنه وأن يتجنب مواضع الريبة ويجتنب الشبهات ، وكان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أمثلة حية في الورع والابتعاد عن الحرام وعن الشبهات حتى أنهم كانوا يبالغون في ذلك فروي أن عمر بن عبد العزيز كان يوزن بين يديه مسكً للمسلمين فسد أو أبعد أنفاسه حتى لا تصبه الرائحة ولما سئل عن ذلك قال وهل ينتفع من المسك إلا من ريحه.

وكان بشر الكافي رحمه الله من الورعين فقيل له من أين تأكل فقال من حيث تأكلون ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك وقال يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة ، وهكذا كانوا يحترزون من الشبهات ، وقال سهل التستري: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال: أداء الفرائض بالسنة ، وأكل الحلال بالورع ، واجتناب النهي ظاهراً وباطناً ، والصبر على ذلك إلى الموت.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ” إن الله طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وإن الله أمرَ المُؤمنين بما أمرَ به المُرسَلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم ذكرَ الرجُلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمُه حرام، ومشرَبُه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟ رواه مسلم.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *