Share Button
بقلم / محمـــد الدكـــروري
لقد ذكرت المصادر التاريخية أن قصة ماشطة بنت فرعون وأولادها كانت في زمن نبي الله موسي علية السلام، وإن في الوقت الذي لما أمر الله نبيه موسى عليه السلام بتبليغ رسالته لفرعون وقومه فقد آمن من آمن وبغي وتكبر من بغى وكتم كثير من الناس إيمانهم خوفا من بطش فرعون وحاشيته، فعلم فرعون أن أحب الناس أولادها الخمسة الأيتام الذين تكدح لهم وتطعمهم، فأراد أن يزيد في عذابها فأحضر الأطفال الخمسة تدور أعينهم ولا يدرون إلى أين يساقون فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي وأخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها، فلما رأى فرعون هذا المنظر أمر بأكبرهم فجره الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي والغلام يصيح بأمه ويستغيث.
ويسترحم الجنود ويتوسل إلى فرعون ويحاول الفكاك والهرب، وينادي إخوته الصغار، ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين، وهم يصفعونه ويدفعونه، وأمه تنظر إليه، وتودّعه، فما هي إلا لحظات حتى ألقي الصغير في الزيت، والأم تبكي وتنظر، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل وطفحت عظامه بيضاء فوق الزيت، نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله، فأبت عليه ذلك، فغضب فرعون وأمر بولدها الثاني، فسحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث، فما هي إلا لحظات حتى ألقي في الزيت، وهي تنظر إليه، حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه، والأم ثابتة على دينها، موقنة بلقاء ربها، ثم أمر فرعون بالولد الثالث فسحب وقرب إلى القدر المغلي.
ثم حمل وغيب في الزيت، وفعل به ما فعل بأخويه، والأم ثابتة على دينها، فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت، فأقبل الجنود إليه، وكان صغيرا قد تعلق بثوب أمه، فلما جذبه الجنود، بكى وانطرح على قدمي أمه، ودموعه تجري على رجليها، وهي تحاول أن تحمله مع أخيه، تحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها، فحالوا بينه وبينها، وحملوه من يديه الصغيرتين، وهو يبكي ويستغيث، ويتوسل بكلمات غير مفهومة، وهم لا يرحمونه، وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي، وغاب الجسد، وانقطع الصوت، وشمت الأم رائحة اللحم، وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها، تنظر الأم إلى عظامه، وقد رحل عنها إلى دار أخرى، وهي تبكي، وتتقطع لفراقه، طالما ضمته إلى صدرها.
وأرضعته من ثديها، طالما سهرت لسهره، وبكت لبكائه، كم ليلة بات في حجرها، ولعب بشعرها، كم قربت منه ألعابه، وألبسته ثيابه، فجاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك، فالتفتوا إليها، وتدافعوا عليها، الطفل الرضيع، وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها، وكان قد التقم ثديها، فلما انتزع منها، صرخ الصغير، وبكت المسكينة، فلما رأى الله تعالى ذلها وانكسارها وفجيعتها بولدها، أنطق الصبي في مهده وقال لها يا أماه اصبري فإنك على الحق، ثم انقطع صوته عنها، وغيّب في القدر مع إخوته، ألقي في الزيت، وفي فمه بقايا من حليبها، وفي يده شعرة من شعرها، وعلى أثوابه بقية من دمعها، وذهب الأولاد الخمسة، وهاهي عظامهم يلوح بها القدر، ولحمهم يفور به الزيت، تنظر المسكينة.
إلى هذه العظام الصغيرة، عظام من؟ إنهم أولادها، الذين طالما ملئوا عليها البيت ضحكا وسرورا، إنهم فلذات كبدها، وعصارة قلبها، الذين لما فارقوها، كأن قلبها أخرج من صدرها، طالما ركضوا إليها، وارتموا بين يديها، وضمتهم إلى صدرها، وألبستهم ثيابهم بيدها، ومسحت دموعهم بأصابعها، ثم هاهم ينتزعون من بين يديها، ويقتلون أمام ناظريها، وتركوها وحيدة وتولوا عنها، وعن قريب ستكون معهم، كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب، بكلمة كفر تسمعها لفرعون، لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى، ثم لما لم يبق إلا هي، أقبلوا إليها كالكلاب الضارية ودفعوها إلى القدر فلما حملوها ليقذفوها في الزيت.
نظرت إلى عظام أولادها فتذكرت اجتماعها معهم في الحياة فالتفتت إلى فرعون وقالت لي إليك حاجة، فصاح بها وقال ما حاجتك ؟ فقالت أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد، ثم أغمضت عينيها وألقيت في القدر، واحترق جسدها، وطفت عظامها، فما أعظم ثباتها وأكثر ثوابها، فرضي الله عنها وأضاها.
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *