Share Button

الذّوقُ وعاطفة القرآن

بقلم : د. مجدي إبراهيم

ذُقْ مَذَاقَ الآية .. ثم انظر .. ماذا عَسَاَكَ بالذوق ترى؟
للذوق صلة بالعاطفة التي ينشئها القرآن في قلب القارئ الحاضر دوماً مع الله، وله أوصاله الباقية في منبع الشعور وأنسابه الدائمة في منبت الوجدان. الأذواق مواجيد صارخة في الشعور الإنساني كافية وراقية. والخطاب الإلهي يُذاق أولاً فيتحرّك بمذاقه الشعور، فيتولّد عن الشعور الفكر والعقل والفهم والتّدبُّر. والأصل في ذلك : قوةٌ في الشعور وحساسية في الوجدان ومذاقٌ في أعمق طويا الضمير.

ليت شعري .. ماذا عَسَانَا كنّا فاعلين فيما لو حرمتنا الأقدار نعمة التذوق في آي القرآن؟

من آراء الإمام محمد عبده – عليه رحمة الله – المأثورة في الدلالة على عمق الشعور باعتباره الأصل الأصيل لتفريعات الفكر والعاطفة؛ أن العاطفة هى المصدر الذي ينبثق عنه قوة الوجدان، وعن قوة الوجدان يصدُر التعقل والتأثر والفهم والتدبُّر كأصول أصيلة لفهم القرآن. وهذا الرأي كان تحدّث عنه الدكتور محمد إقبال أيضاً، فجعل من منبت الشعور قوة خلاقة مبدعة متميزة خالصة يقوم عليها الفكر ويعتمد اعتماداً كلياً على أسسها ومقوماتها، وليست هى بالقوة السطحيّة السلبيّة العارضة.

ليست العاطفة بالشيء الهيّن اليسير، ولكنها وقود الحركة لكل جميل في الإنسان. وإذا كان الفكر يستند عليها ويعتمد؛ فليس ثمّة شيء أعلى منها ولا أرفع في الشعور بقيم الجلال والجمال.

وفي ردود الأستاذ “العقاد” على شاعر العراق “جميل صدقي الزهاوي”، وكان هذا الأخير علمانيّاً يأخذ بالعقل والعلم ويقصّي العاطفة جانباً، مالَ “العقاد”، رحمه الله، ميلاً جارفاً إلى هذا الرأي الذي يحتكم فيه صاحبه إلى قوة الشعور، فيؤمن بالعاطفة والوجدان قبل إيمانه بالبحث والتفكير، أو يجعل من الشعور مصدراً لكل بحث ولكل تفكير، لكأنما كانت غزارة العاطفة وقوة الوجدان أشياءً علويّة مُلهمة لكل تفكير صائب ولكل بحث أمين. ولم يكن هذا الرأي غريباً ولا هو بالرأي الذي يقصر عن الإحاطة بمصدر الإحساس الحيوي في الإنسان على التعميم، لأنه يستهدف التوسعة من نصيب الإنسان منه، وليس هو بالنصيب القليل.

ومن رأيه : أنّ الشاعر صاحب خيال وعاطفة. والفيلسوف صاحب بديهة وبصيرة وحسابٌ مع المجهول. والعالم صاحب منطق وتحليل وحساب مع هذه الأشياء التي يحسُّها ويدركها أو يمكن أن تحسّ وتدرك بالعيان أو ما يُشبه العيان؛ وذلك في معرض التفرقة الفارقة بين الملكة العلميّة والملكة الشعريّة، وبين بديهة الفيلسوف وبديهة العالم.

وعنده : أن “الزهاوي” صاحب ملكة منطقية لا حجاب عليها، وآراؤه في مواطن التحليل والتعليل ملموسة، ولكنك تضل فيها الخيال كثيراً والعاطفة أحياناً، وتلتفت إلى البديهة، فإذا هى محدودة في أعماقها وأعاليها بسدود الحسّ والمنطق لا تخلي لها مطالع الأفق ولا مسارب الأغوار. من ذلك ترى؛ أن رأي العقاد وإن كان منصفاً للعاطفة لم يكن يجنح إلى الصرامة المنطقيّة التي يراها تقف حجرة عثرة أمام العاطفة والخيال والبديهة وهي بلا شك ملكات عليا ليست بالدنيا، ولن تكون.

وفي ردود “العقاد” على “الزهاوي”، تغليبٌ – كما قلنا – للعاطفة على العقل والمنطق العقلي. لقد كانت أحلام العواطف دوماً ممّا يؤجج الرغبة ويُلهب الخيال، فجاء العقل كالخادم الأجير يُحقق ما تعلقت به الأخيلة واتجهت إليه الرغبات. ولا ريب في أن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من باطن النفس لا من ظواهر الأشياء، وأن الحواس بلا ريب كذلك تستمد شعورها من القوة الحيّة التي خلقتها ونوّعتها وهى قادرة على تغيير الخلق والتنويع.

في هذه الردود توكيدٌ قوى على منبت الشعور كونه أساس العواطف ومصدر الأفكار وهو معتمد العقول الكبيرة بغير جدال.

ومناسبة العاطفة للمنطق أنها هى شيء موجود لا يصحُّ للمنطق إلا إذا حسب له حسابه، فأي منطق يحق له أن يقول عن عمل من أعمال الناس ينبغي أن يكون هكذا أو لا ينبغي أن يكون كذلك إنْ لم يكن يحسُّ العاطفة الإنسانية ويستنكه مضامينها ويقيم لها وزنها؟

إنّ السعادة التي ينشدها الإنسان إنْ لم تكن “عاطفة”، فهى لا شيء، وإنْ لم يكن العلمُ علم إنسان “عاطف” فلا حاجة به لإنسان.

نودُ أن يتأكد هذا في العقول؛ لأننا على مرحلة يجهل فيها الشرقيون ما يعوزهم؛ فيجب أن يعلموا أن الذي يعوزهم هو “الإحساس القويم”، وأن سبيل خلاصهم هو سبيل العاطفة الحيّة والشعور الصادق الجميل.
وحيث يغيبُ الإحساس القويم من عاطفة الإنسان تغيب معه إنسانيته فلا يتسامى إليها، ولا يظفر بوسائل التسامي إليها من حيث هجر العواطف أو هجرته العواطف فأقفرت شعوره وحجّرت مواجيده فنضبت حياته الحيّة على التعميم. من هنا تكون للعاطفة دورها الحيوي وغايتها المعرفية كذلك، ولا تخلو مطلقاً ممّا يؤجج الرغبة ويُلهب حماسة الخيال.
ولننظر الآن إلى أقوال الإمام محمد عبده، وهو يتكلم في تفسير المفسّرين .. ما هو الشرط الذي يشترطونه ويراعون حضوره؛ ليكون تفسيرهم مقبولاً على منهج التذوق قبل قبوله على أي منهج كان كيفما أتفق؟ قال الإمام محمد عبده “… وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير يطلبون لأنفسهم “معنى” تستقر عليه أفهامهم في العلم بمعاني الكتاب ثم يبثونه في الناس ويحملونهم عليه. وأعني “بالفهم” ما يكون عن “ذوق” سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها، وتملكه مواعظه فتشغله عمّا بين يديه ممّا سواه. لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذاً جافاً لم يصحبه ذلك “الذوق” وما يتبعه من رقة الشعور ولطف الوجدان اللذين هما مدار “التعقل” والتأثر والفهم والتدبر…”.

فهذه الكلمات النابهة هى أعلى ما قرأت من قرائح العقول التي تناولت فهم القرآن. وواضح أن الإمام محمد عبده يتحدّث هنا عن “الفهم” بالطريقة التي حدّد أصولها فيما ينبغي أن تكون صادرة عن ذوق سليم. فالفهم في رأي محمد عبده، وفي رأي كل من يصيب بتوفيق الله من الفهم نصيباً، هو أن يكون صاحبه ذَوّاقة، لا يعتمد على النقل أو التقليد بالتسليم الأعمى لما قيل من قبل في الكتب، لأن الكتب دالة مرشدة وكفى، وليست بالتي تصدر الإبداع الذاتي كما يُصدره الذوق الأصيل.

وشرط التذوق أن يجيء سليماً مُعَافاً من الكزازة والمُعاظلة. وشرط السلامة أن يكون تعامله مع أساليب القرآن فهماً راقياً مَرَدَّهُ إلى إدراك المعنى المستقر من طريق التذوق ..

التذوق لماذا؟ التذوق للقيمة، وللمعنى، وللأسلوب يفرضه التأمل الداخلي لأجواء الآية، ولكشف حكمتها بما عساه يفتح الله به عليه. وإنّ تأملاً يصاحب المتأمل في أجواء الآي الكريم لهو التأمل الذي يقود صاحبه – فيما لو صدق – إلى السّبح الهائل في ملكوت القرآن؛ سبحاً يملك عليه أقطار نفسه، فلا يدع له نظراً في سواه. ولا شرط لمثل هذا التأمل غير شرط الإخلاص، ولا شرط لورود الإخلاص غير مراقبة الله الدائمة في السّر والإعلان.

ويوم أن يشعر الطالب لهذا المعنى شعور التفهيم والتذوق إلى حيث يستقر على فهمه “معنى”، وإلى حيث يكون العلم بمعاني الكتاب علماً قويّاً قائماً على الإحساس بسلامة المطلب، وبسلامة الطبيعة الداخلية، وسلامة الضمير الجوَّانيِّ من أمراض العلل والآفات التي تعترض الفاهم أو الباحث حين يريد أن يعتني بالاطلاع على كتب التفسير.

يوم أن يشعر الطالب لهذا المعنى ذلك الشعور الذي يصاحبه في الطالب مواهب التذوق وقدراته، وهى مواهب وقدرات تنبع من رقة الشعور ولطف الوجدان، ولا جَرَمَ أن رقة الشعور ولطف الوجدان هما مدار التعقل ومدار التدبُّر ومدار الفهم ومدار التأثر. يوم أن يشعر الطالب بكل هذا شعور التذوق والتفهيم؛ لهو هو اليوم الذي أصاب من ثمَّ فيه الفهم، وحقق منه نصيباً عالياً، بفضل الله، من أنصبَة اليقين الذي لا يقارنه شك إلا أن يكون الشك الذي يجيء مصاحباً مع الفقدان.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *