Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم

عرف المصريون بمحبتهم لأهل البيت وموالاتهم لهم، وصدقت فيهم المحبة كما صدقت الموالاة، فكانوا أقدر الأمم إكراماً لأهل البيت، لكأنما كان المصريون أجدرها وأولاها بتلك المحبّة، فاستحقوا المكرمة بمقدار استحقاقهم ظواهر الموالاة وحقيقتها سواء بسواء، حتى أن السيدة زينب دعت لمصر ولشعبها بهذا الدعاء المشهور :” يا أهل مصر، نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم الله من كل مصيبة فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا”.

ولا تزال في المصريين خصيصة إيمانية بموالاة أهل بيت النبوة والنظر إليهم على أنهم منجاة، هم بمثابة سفينة نوح من ركب فيها نجا من الغرق وفارق التهلكة؛ فكرامة أهل البيت في وجدان المصري من كرامة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، ولم تكن الكرامة بأعلى من المحبّة التي تواليها وتغدق عليها العطاء الأجزل والثناء الجميل، ولم تكن المحبّة في الشعور الديني المصري بأدنى من كرامة أهل البيت وكرامة من يواليهم؛ إذ كانت حقيقة الحب اتباعاً، وليس أقل من المولاة اتباعاً لهذا السبيل من أقرب طريق.

وتلك هى عين الكرامة على التحقيق؛ فلا كرامة أسمى ولا أعلى من الاستقامة على طريق المحبّة ولا أولى بالعناية منها ولا بالرعاية لها، فلن يكرم المرء أبداً وهو هين عند الله وعند رسوله، ولن يشعر بشعور الرضي الصادر عن بؤرة الإيمان وهو لا يوالي بالاتباع رسول الله وآل بيته، فكرامة التابع، لا محالة، من كرامة المتبوع.

والسيدة نفيسة سليلة بيت النبوة الطاهر المُطهّر قد أحبت المصريين في الله، وأحبت الله وتبتلت إليه وانقطعت لعبادته وهى تجاور المقامات العُلاء بين يدي المصريين، وقد أحبها المصريون فنالوا بمحبتها المكرمة. وكان من عادتها، رضى الله عنها، كما جاء في إحدى الصفحات الصوفية، أن تصوم من أول رجب حتى هلال شوال؛ فلّما بدأ شهر رمضان مرضت واشتدت بها العلة، فأحضروا لها الطبيب، فقال يا بنت رسول الله .. إنما بعثتم ميسرين، ولا تقدرين على الصيام، فافطرى.

فقالت منذ ثلاثين سنة أدعو ربى أن يقبضني وأنا صائمة.

أبعد أن دنى أفطر؟ والله لن أفطر إلّا عند ربى، ففتحت المصحف وافتتحت من سورة الأنعام حتى وصلت إلى قوله تعالى : لهم دار السلام عند ربهم، ففاضت الروح إلى العلام.
فقال سيدنا إسحاق سوف أذهب بها إلى مدينة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه. فقال أهل مصر، والله لن نحرم منها أبداً
(عاشت بيننا وتدفن عندنا)
وبعدها يرى سيدنا إسحاق رسول الله في المنام يقول له : يا إسحاق دع نفيسة لأهل مصر لأنهم يكرمون ويرحمون بها.

فدُفنت في مقامها الذى هى فيه الآن، كانت حفرته بيدها وختمت فيه القرآن أربعة آلاف مرة. فبقيت سيدتنا نفيسة في مصر بركة وعطاءً ومدداً يتواصل بها النور من آل بيت رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.

وإن تعجب فلا أشدّ من عجبك حين ترى الصفحة الصوفية التي نقلت نبذة عن الترجمة لا تهتم بتخريجها تخريجاً روحيّاً يعتمد على الذوق والتعاطف الإيماني المعهود، وتكتفي فقط بنقل ما هو موجود في المقام الشريف من سيرتها العطرة، وليت الناقل كان على وعي تام يخلو من خطأ المقروء .. لا بل ينقل على صفحته أخطاء داعية للأسف لا ينبغي أن يقع فيها المحبّون.

الأصلُ في الموضوع هو رؤية إسحاق زوج السيدة نفيسة لرسول الله، وهو يقول له : دع نفيسة لأهل مصر يكرمون بها ويرحمون. هذا هو الأصل في الرواية كلها، وعلى هذا الأصل نروح فنلتمس تخريجاً واسع الدلالة، باقياً ما بقيت في آل بيت رسول الله الكرامة؛ فالكرم كلُّه في آل البيت، والرحمة كلها عند آل البيت، فلا يزال أهل مصر بخير يُكرمون ويرحمون ما داموا أحبّة يُوالون الله ورسوله وآل بيته، والرحمة من المحبّة والكرم كذلك، ولولا وجود المحبّة ما كان هنالك كرم ولا كانت رحمة.

وآل بيت رسول الله أكرم الناس وأرحمهم بالناس؛ لأنهم أقدر الناس حبّاً للناس. كان يمكن ألا تكون هذه الرؤية، وألا يكون هذا المقام من الأساس، ولكن شاءت إرادة الله أن يكون لمصر نصيبٌ من موالاة الله ورسوله وآل بيته، وبتلك الموالاة تتحقق الرحمة، ويكون الكرم فيضاً من جود العطاء.

والموالاة محبّة خفيّة غير ظاهرة الظاهر للعيان، ولكن يُظهرها الأثر بعد فعل المأثور في الخفاء الذي يفعل في الجوانح فعله الباطن المستور.
هذه المحبة هى الكاشفة فعلاً عن النصرة والموالاة وما سواها أضدادٌ لها لا يقيم وزناً لفعل ولا يبقي معنى لأثر.

والسؤال المنطقي الذي يُواجه المرء في مثل هذه المسائل هو : وهل يُقاس التشريع برؤية رآها إسحاق زوج السيدة نفيسة لرسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، فيجيبه فيها : أترك نفيسة للمصريين يكرمون بها ويرحمون؟

هذا السؤال قد يسأله سلفي أو منطقي أو حرفي أو أحد الذين ألمّوا بعبارات حفظوها وردّدوها على غير وعي بما حفظوا أو ردّدوا ولا يسأله محبُّ تولّته المحبّة في محراب النور الشريف.

نعم! يُقاس التشريع هاهنا بهذه الرؤية، بمثلها وبعينها، إذا كان التشريع كلّه قائماً على الحبّ، وعلى شرعة الإتباع (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله) وخير اتباع لرسول الله اتباع آل بيته ومحبتهم وموالاتهم. أما مُعادتهم ومباغضتهم، فهى لا تترك قربة من الله ولا تخلف صلة برسوله، ولو كان صاحبها ممّن عاشوا في الصدر الأول، ولا تعود على المُبغض إلا بخسران الدنيا والآخرة سواء.

حكم التشريع من جهة الحبّ أفعل وأقوى صلة من حكمه المُجرّد عن المحبّة، الغارق في الحرفيّة التي لا معنى لها سوى تنفيذ القشور القاحلة، والدينُ منها بُراء.

ومن يؤمن بهذه المحبّة يؤمن بالله أعلى وأرقى إيمان، ولا يودُ أن يترك إيمان المحبّة ليستبدله بإيمان مُجرّد عن الحبّ لا يقوّى التشريع بل تنعزل عنه الشريعة في أدق مقاصدها وأنبل غاياتها.

وسلامٌ على نفيسة العلم، سيدة السادات في محراب المُوالاة .

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *