Share Button

بقلم … محمــــد الدكــــرورى

إن غفلة المرء عن استثمار الفرص المتاحة أمامه أو عدم مبادرته إلى اقتناصها قبل أن تزول يعود في الغالب إلى أمرين ، وهو غياب الهدف ، فالفرص هي مركب المرء وأداته لتحقيق أهدافه، فكيف يبحث عن مركب أو يقتني أداة من لا هدفَ لديه يسعى لتحقيقه ولا غاية؟
وأيضا السلبية وضعف الجِدِّية والشعور المتدنِّي بالمسؤولية تجاه النفس أو الأمة ، ومن ضَعُفَ الباعث لديه ولم يملك قلباً يحترق لإسعاد نفسه وإصلاح أمته امتطى بوابة التسويف والكسل وتوانى عن صعود الصعاب وتحمُّل مشاق ارتقاء المكاره.

وإن كل فرصة في الخير فهي مَغْنَم مهما صَغُرَ حجمُها وقلَّ وزنُها، فاتقوا الله ولو بِشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاكَ بوجه طلق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ لقد رأيتُ رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطَعَها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس“. رواه مسلم ، وإن من فضل الله عز وجل علينا أنْ جَعَلَ الفرصَ قائمةً حتى آخِر ساعةٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل“. رواه أحمد .

والأنصار جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلبوا أمرا دنيويا ، وهذا طلب مشروع ولا غضاضة فيه ، إلا أنهم لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر رأوا أمامهم فرصة أعظم وعطية أثمن ربما لا يتهيأ لهم مثلها في حياتهم ، فكانت أمامهم فرصتان ، فرصة تلبية طلبهم الذي جاءوا من أجله ، وفرصة مغفرة الله لهم ورضاه عنهم ودخولهم الجنة ، فماذا يفعلون ؟ إنهم لم يترددوا ولم يختلفوا ولم يتوانوا في انتهاز الفرصة وجني ثمرتها ، وذلك لعلمهم أن الدنيا متاع قليل وظل زائل ، ولذا كانت اختياراتهم محسومة ، فطلبوا من النبي أن يدعو لهم بالمغفرة ، فدعا بالمغفرة لهم ولأبنائهم ولأبناء أبنائهم ، وبذلك سعد هؤلاء وأولادهم سعادة لا شقاء بعدها أبدا ،وهكذا المسلم الفطن يعلم أن الحياة فرصة فلابد أن تغتنم ، وساعة مواتية فلا يصح أن تضيع هباء .

وأن هناك فُرَصًا لا يمكن تعويضُها، فمن هذه الفرص العظيمة: وجود الوالدينِ ، فالوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئتَ فحافِظْ على الباب أو ضَيِّعْهُ، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال: “ رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: مَنْ يا رسولَ اللهِ؟ قال: مَنْ أدرَكَ أبويه عند الكِبَرِ أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنةَ“.رواه مسلم ، فيا حسرةَ مَنْ مات والداه أو أحدهما ولم يغتنم فرصةَ بِرِّهما ، فإن رضا الرب عز وجل في رضا الوالدينِ، وسخط الرب في سخط الوالدين .

إن الهمم العالية كنوز غالية يمتن بها المنان على من يشاء من بني الإنسان، فطوبى لمن أولاه مولاه تلك الهمة العالية والعزيمة الوثابة والإرادة الماضية، فما آفة المحق إلا التردد والتذبذب، والتخاذل والفتور، والرضى بتوافه الأشياء ومحقرات الأمور ، والمتتبع لنصوص الوحي الشريف، يرى كيف أن هذا الدين القويم يربي في قلوب أتباعه تلك الهمم لتصل بهم لعالي القمم ومعالي القيم، فإذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس الأعلى ، فهل تأملت هذا الدرس؟ وربيت به النفس؟

فالفرصة إذا فاتت منك وتفلتت من بين يديك في غير عمل صالح فستندم ندما لا ينقطع ، ولقد أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أن الذي لا ينتهز فرصة الحياة ولا يغتنم أوقات النفحات ستصيبه الحسرات ولا ينفعه الندم قال تعالى ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) والحسرة هي الندامة الشديدة ، فهذا الإنسان الذي لم ينتهز فرصة حياته وظل على تفريطه وتقصيره وتضييعه ندم ندما شديدا ، وتحسر تحسرا عظيما على هذه الفرصة التي أضاعها ، ويريد حين عاين خسارته وتيقين من بوار نفسه أن تتهيأ له هذه الفرصة مرة أخرى حتى يحسن التعامل مع الحياة ، ولكن هيهات ، فكثير من الفرص قد لا تتكرر وقد لا تعوض أبدا .

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بسوق المدينة، والناس مشغولون ببيعهم وشرائهم، فأراد أن يذكرهم بقيمة الدنيا وألَّا تلهيهم تجارتُهم عن تجارة الآخرة، فمَرَّ بجدي أسَكَّ ميت ، أي: صغير الأذنين، فاغتنم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الفرصةَ فتناوَلَه فأخَذ بأذنه ورفَع صوتَه يُزاوِدُ على بيعه فقال: “ أيُّكم يُحِبُّ أن هذا له بدرهم؟ أيُّكُم يُحِبُّ أن هذا له بدرهم؟ أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نُحِبُّ أنه لنا بشيء؛ وما نصنع به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حَيًّا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسكُّ فكيف وهو ميت، فقال صلى الله عليه وسلم: فواللهِ لَلدُّنْيا أهونُ على الله من هذا عليكم” رواه مسلم .

فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيًا فأكرمه، فقال له: ” ائتنا “، فأتاه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” سل حاجتك “. قال: ناقة نركبها، وأعنز يحلبها أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟! ” قالوا: يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟! قال: ” إنَّ موسى عليه السلام لما سارَ ببني إسرائيل من مصر ضَلّوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إنَّ يوسفَ عليه السلام لمّا حضره الموتُ ، أخذ علينا موثقًا من الله، أن لا نخرجَ من مصر حتّى ننقلَ عظامَه معنا ” أي بدنه، وهو من باب إطلاق الجزء ويراد به الكل، فالأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم كما صح بذلك الخبر عن خير البشر .

قال: فمن يعلمُ موضع قبره؟ قال: عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها، فقال: دلَّيني على قبر يوسفَ، قالت: حتى تعطيني حُكمي ، قال: وما حكمكِ؟ قالت: أكونُ معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى اللهُ إليه أن أعطها حكمَها، فانطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقعِ ما، فقالت: انظبوا هذا الماء، فأنظبوه، فقالت: احتفروا، فاحتفروا، فاستخرجوا عظامَ يوسف، فلما أقلّوه إلى الأرض فإذا الطريقُ مثل ضوء النهار .

أرأيت الفرق الواسع والبون الشاسع بين من يريد أعنزًا يحلبها وناقة يركبها، وبين من تريد مرافقة الرسول في الجنة؟! إنها الهمة العالية، فقط ، فإلى متى يرضى الكثير منا بضعف الهمة، وفتور العزيمة، ويرضى من الغياب بالإياب، ومن الغنيمة بالسلامة؟! متى نرى في الأمة المسلمة الجم الغفير والعدد الكثير الذين يحملون الهم لضخامة الهمم؟! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: ” إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة ” رواه البخاري .

وهذا هو عكاشة بن محصن لما رأى أمامة فرصة لأن يدخل الجنة بغير حساب بادر إلى انتهازها ، فلما سمع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول : يدخل من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ، قال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنت منهم ، هنا قال آخر : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : سبقك بها عكاشة
فترقب للفرصة وانتهاز لها وحرص على الاستفادة الكاملة منها ، فلم يكونوا يعرفون ما يتداوله الناس من قتل الوقت وإضاعة الزمن فقد قرأوا قول الله تعالى ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) ومعناها بصورة عامة انك إذا انتهيت من أي أعمالك فأقبل على عمل آخر حتى تكون كل أوقاتك عامرة بالأعمال النافعة لك ولأهلك ولبلدك ، فإذا فرغت من دنياك فأقبل على آخرتك واعمل على رضا ربك .

ولَمَّا صعد ابن مسعود رضي الله عنه على شجرة يجتني سِوَاكًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان دقيق الساقين، فجعلت الريحُ تكفؤه، فضَحِكَ القومُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مِمَّ تضحكون؟ قالوا: يا نبيَّ الله، مِنْ دِقَّة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقلُ في الميزان من أُحُدٍ” فاغتنم صلى الله عليه وسلم الفرصةَ ليبيِّن للأمة أن الناس يومَ القيامة لا يتفاضلون بأشكالهم وأحجامهم، وإنما بصلاح قلوبهم وأعمالهم، فالله عز وجل لا ينظر إلى الصور والألوان والأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.

والفرصة مهما كانت ثمرتها بعيدة وظننت أن غيرك سيجني ثمرتها فلا يجوز لك أن تتركها ، ومن هنا كان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن لا يتكاسلوا عن فعل الخير وأن لا يفرطوا في عمل نافع حتى ولو كان دنيويا ، ولقد سرت هذه الروح عند المسلين الأوائل حيث إنهم كانوا يدركون أهمية الفرص التي تتاح لهم ، ويعرفون أنها نعمة يجب أن يحسنوا التعامل معها ، ولذلك لما كانت هذه الفرصة تسنح لأحدهم كان ينتهزها ولا يضيعها .

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *