Share Button

بقلم / محمــــــد الدكــــــرورى
إن الأولية في الإيمان قد أعلنها كليم الرحمن سبحانه في أشرف حال، وأعلى مقام، حين خلع نعليه في الوادي المقدس، وكلمه الله تعالى بلا وساطة، فاشتاق لرؤية الله تعالى لما سمع كلامه فقال ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]

فأعلن موسى أنه أول المؤمنين بالله تعالى مع أن النبيين من قبله وأتباعهم قد آمنوا قبله، ولكنه يعلن أنه أول المؤمنين الموجودين في وقته، ويعلن أنه مبادر إلى الإيمان، مستمسك به ولو كفر الناس كلهم أو ترددوا في الإيمان، فهو بيان منه عليه السلام بشدة إيمانه بالله تعالى.

ولما بارز موسى عليه السلام سحرة فرعون، فظهر لهم الحق وآمنوا مع موسى، وخروا لله سجدًا، هددهم فرعون بأشد العذاب، فأجابوه قائلين ﴿ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 50-51]

فعللوا طمعهم في مغفرة الله تعالى لهم بأنهم كانوا أول المؤمنين بالله بتصديق موسى عليه السلام، وفي هذا دلالة على رسوخ إيمانهم بالله ووعده.

وسورة الأنعام هي سورة العقيدة التي دحرت الشرك وثبتت التوحيد بالأدلة النقلية والعقلية، حتى كادت أن تكون كلها في التوحيد، وفي موضعين منها في أول السورة وفي خاتمتها يؤمر النبي – عليه الصلاة والسلام – بأن يعلن أنه أول المسلمين، مما يدل على أهمية الأولية في الإيمان وفضلها، فأما الموضع الأول فقوله تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14]

وأما الموضع الثاني فقوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163] وكرر معنى ذلك في سورة الزمر ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الزمر: 11، 12].

فالأولية في الإيمان تدل على رسوخه وتمكنه من القلب؛ لأن الداعي إليه في البدايات قليل، والصارف عنه كثير، والأذى الذي ينال صاحبه عظيم، ومن آثار سبق النبي – عليه الصلاة والسلام – إلى الإيمان قوله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» رواه مسلم.

ومن آثارها أنه – عليه الصلاة والسلام – أحيا ما أماته اليهود من شريعة الله تعالى، فحين حرفوا حد الزاني من الرجم إلى الجلد، وحاولوا إخفاء آية الرجم من التوراة، استحلف النبي – عليه الصلاة والسلام – أحد أحبارهم على ذلك، فأخبره أنهم يجدون حده الرجم ولكنهم عطلوه، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» رواه مسلم.

وهذا يدل على عظيم إحياء شيء من الشريعة أماته الناس، وأن من أحياه نال أجرًا عظيمًا لسبقه وأوليته في إحيائه.

واعتنى الصحابة – رضي الله عنهم – بالأولية في الخير وحفظها؛ فأول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي وبلال بن رباح هو أول من أظهر إسلامه بمكة، وابن مسعود هو أول من جهر بالقرآن بمكة، فضربه المشركون حتى كادوا أن يقتلوه، والزبير هو أول من سَلَّ السيف في سبيل الله تعالى، وأسعد بن زُرارَة الخزرجي هو أول من بايع النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ليلة العقبة الأولى

وأول من بايعه ليلة العقبة الثانية البراء بن مَعْرور الخزْرَجي، وحمزة عم الرسول هو أول من غزا في سبيل الله تعالى، وأوّل من عقدت له راية في الإسلام، ومصعب بن عمير هو أول من هاجر إلى المدينة، وسعد بن أبي وقاص هو أول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، وسمية أم عمار هي أول شهيدة في الإسلام، وأم سلمة كانت هي وزوجها أوّل من هاجر إلى أرض الحبشة، وهي أوّل ظَعِينَة دخلت المدينة مهاجرة، وأول غزوة هي بدر وهي أفضلها، ومن حضرها غفر له،

وأول من بارز فيها عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي، وفي هذه المبارزة يقول علي – رضي الله عنه – «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه الشيخان.

فانظروا إلى امتداد فضيلة الأولية في الخير من الدنيا إلى الآخرة وأسر المشركون خبيب بن عدي فلما أرادوا قتله قَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ،…فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ هُوَ – رضي الله عنه -. رواه البخاري.

وكل هؤلاء الأعلام من الصحابة – رضي الله عنهم – إنما عُرفوا واشتهروا بسبب أوليتهم في باب من أبواب الخير، حتى أحرزوا أجرهم، وسبقوا غيرهم.

ومن نتائج أولية النبي – عليه الصلاة والسلام – في الإيمان وإحياء شريعة الله – تعالى – أن أوليات الكرامة يوم القيامة تكون له – عليه الصلاة والسلام -؛ كما قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» رواه مسلم. وفي حديث آخر قال – عليه الصلاة والسلام -: فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، رواه البخاري.

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *