Share Button

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

تطرقنا في المقال السالف (الفلسفة والموضوعية) إلى أن فلسفة كل إنسان تعتمد على طبعه واستعداده وميوله؛ أي تعتمد على قناعاته، وعلى مدى ارتباط هذه القناعات بمعارفه التي تشكلت منها، ولن تقدح الموضوعية في قبول هذه الفكرة كخطوة منهجية نحو التحقق الفعلي؛ إذ ليس أضر على الوعي الإنساني جملة وتفصيلاً من انفصال الأشياء في عالم الأعيان مستقلة عن ذواتنا العارفة. ولكن اتحاد الأشياء في عالم الأعيان بذواتنا العارفة أو على الأقل : تمثلها لهذه الذوات يعلى من شأن الوعى، وأن صاحب الدعوة إلى فكرة ما سواء كانت في الدين أو في الفن أو في الأدب أو في التصوف أو في القيم؛ إذا هو لم يخضع حياته الشخصية إلى ما يدعو إليه بحيث تعكس شخصيته قضيته، ويعكس إيمانه على المستوى النظري واقعه العملي، إذا هو لم يفعل ذلك جاءت دعوته من الأثر الضعيف في حياة الآخرين إذ تصبح هباءً منثوراً .. كأن لم تكن.

إذا نحن نقلنا هذه المفاهيم؛ بما فيها من فكرة الوعي، إلى دائرة التصوف، وجدناها محققة في أكثر الذين درسوه، وتوافروا على دراسته بصدق؛ فانعكس منه على شخصياتهم بموجب القضايا التي أسهموا فيها وأدلوا بدلوهم في تنظيرها وإماطة اللثام عنها. فلم تنفصل الشخصية بحال عن قضيتها؛ بمقدار ما أنعكس ذلك على الشخصية نفسها من الوجهة الأخلاقيّة فظهر لديهم ما أطلقنا عليه “حالة الوفاق الباطني” بين الشخصية والقضية؛ الأمر الذي جعل التّوحُّد بين الشخصية وموضوعها علامة إسهام حقيقي لا مناص من تسليط الضوء عليه لكشف آثاره فضلاً عن منطلقاته وبواعثه في الكاتب قبل الموضوع.

يُقَاسُ الوعي بمدى اتصاله في نفس الكاتب بالموضوع المطروح سواء من جهة العلم أو من جهة الأخلاق؛ فليس يكفي في هذا الحقل المعرفي أن تعلم وكفى أو أن تحيط علماً بالموضوع من كل جوانبه وأطرافه دون أن ينعكس ذلك على شخصيتك؛ ليتحوّل علمك بالشيء نظريّاً إلى معرفة محققة في الواقع الفعلي.

ليس يكفي العلم فقط ما لم تكن المعرفة مَجْلىَ من مجالي العلم الذي تبحث فيه؛ فإذا كان العلمُ كرؤية النار مثلاً فالمعرفة كالاصطلاء بها. ومن أجل هذا؛ جاءت التفرقة في علم حدود أحكام الألفاظ الصوفيّة واضحة وضوح الشمس في ضحاها بين المعرفة والعلم؛ فكان أكثرهم مع التفرقة يفضل المعرفة على العلم، وبعضهم في القليل النادر يفضل العلم على المعرفة، لكن المعرفة في عبارة الصوفية هى : العلم الذي لا يقبل الشك بوجه من الوجوه، إذا كان المعلوم ذات الله وصفاته. سِرُّ المعرفة هو “التوحيد” والتنزيه المطلق لله : حياته، وعلمه، وقدرته، وإرادته، وسمعه، وبصره، وكلامه، عن التشبيه بصفات الخلق؛ لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وموضوع المعرفة عند الصوفية هو : ذات الله وصفاته وأفعاله، وهو أسمى موضوع لأسمى معرفة. وأداتها : كما هو معروف محقق لديهم هو القلب لا العقل.

وحقيقة التوحيد هى : باطن المعرفة، وهو سَبْق المعروف إلى مَنْ به تَعَرَّف، بصفة مخصوصة، بحبيب مُقَرَّب مخصوص، ولا يَسَعُ معرفة ذلك الكافة … وإذا تناهت عقول العقلاء إلى التوحيد تناهت إلى الحيرة : أي تناهت إلى حيرة المعرفة.

هذه الحيرة المعرفية ليست من ميدان الفلسفة في شيء، ولا تدل الفلسفة عليها لا من قريب ولا من بعيد، ولكنها حيرة من نوع آخر لا يتمثله العقل الفلسفي بوجه من الوجوه؛ هي حيرة يضتمنها عرفان. وعرفانٌ تستولي عليه الحيرة من جميع أطرافه. هذه الحيرة نفسها معرفة !

أوّلُّ الدلالة المباشرة على الوعي العالي في حقول المعارف الذوقيّة هو المعرفة بالله من حيث دلالتها على التوحيد، ومن حيث أداتها المعرفية. فلو أن أحداً قال : في أي مقام تصحُّ المعرفة الحقيقية؟ لكانت الإجابة قاطعة : في مقام الرؤية والمشاهدة بسرِّ القلب. ولكَ أن تلاحظ هنا إن المعرفة الحقيقية تحدث في مقام الرؤية والمشاهدة بسرِّ القلب. لاحظ ثلاث كلمات معرفية رئيسة هى “المعرفة” ثم “المقام” الذي تجري فيه، ثم هناك سر القلب؛ أي ذلك المستودع الجوَّانيِّ الباطن الذي تقوم فيه المعرفة رؤية وشهوداً؛ لترى الوعي هنا وعياً عالياً ليس بالعادي؛ وأن مجرى هذا الشهود مرهونٌ بارتقاء هذا الوعي إلى حيث مرَاقيه الروحيّة الخالصة؛ ليتم من خلاله العرفان المؤسس على المضمون الديني : معرفة الله ذاتاً وصفات وأفعالاً.

فلا تحدث المعرفة حين تحدُث وهى بَرَّانيَّة غير ممدودة بوجود روحي مُحقق في العارف على التحقيق. فلا بدّ لها من رؤية، ولا بدّ لها من شهود، ولا بدّ لها من قلب عارف يحفظ السِّر ويلاقيه؛ فسِرُّ القلب هو الذي يستوعب المعرفة الحقيقية ويتغذى بها بمقدار ما لديه من رؤية وشهود.

إنما يُرَىَ ليُعْرَفْ؛ ولأن المعرفة حقيقة تكون في باطن “الرؤية”، فيرفع الله تعالى الحجب فيريهم، أي يُرِىَ عارفيه؛ نور ذاته وصفاته من وراء الحجب ليعرفوه، يرفع بعضها لا كلها لكيلا يحترق الرائي كما قال بعضهم بلسان الحال :

ولو أَنْيِ ظَهَـــرْتُ بِلَا حِجَابِ

ليَتَمْتُ الخَلَائِــقَ أَجْمَعِيِنَـــا

وَلَكِنَّ الحِجَابَ لَطِيِفُ مَعْنَىَ

بِهِ تَحْيَاَ قُلُـوبُ العَاشِقِيِنَـــا

وبمقدار الدلالة المباشرة على الوعي العالي في حقول المعارف الصوفيّة جاءت التفرقة منهجياً بين العارف والعالم، فكان ممّا أطلق عليه شيوخ الصوفيّة – كما يَروي الهجويري – اسم المعرفة على كل علم متصل بعمل تعبُّدي وحال رَبَّاني : حالُ العبد ها هنا مع الله يدل على علمه. وفي هذه الحالة لا يسمى صاحب الحال عالماً ولكن يسمى “عارفاً”. أما اسم العلم فيُطلق على كل فن خَلَىَ من معنى رُوُحَاني وعمل تَعَبُّدي؛ أي خَلَىَ من ذلك الاتصال بين نفس الكاتب والموضوع المطروح؛ أو خَلَىَ من تلك الحالة التي أطلقنا عليها في السابق بحالة  ” الوفاق الباطني” بين الشخصية والقضية.

وعندهم : أن صاحب هذه المعرفة لا يسمى عارفاً ولكن يُسمى “عالماً”. فالعلم بالشيء هاهنا بَرَّانيٌّ لا يدُلُّ على وعي عالٍ، فضلاً عن قلة دلالته على وعي أصلاً لا هو بالعالي ولا هو بالعادي. وعليه؛ فمن عَرَفَ معنى الشيء وحقيقته يسمونه “عارفاً”؛ ومن ألَمَّ بعبارات منطقية وحفظها بدون إدراك حقيقة روحانيّة فهو عالم وكفى، عالم بالشيء غير عارف به.
العالم قائم بنفسه. والعارف قائم بربّه.

ليس التصوف إذن قراءة نظرية يفني فيها المتصوف عمره بين قيل وقال؛ وإنْ كانت فاعلية القراءة كونها عملاً ذهنياً لا يُستغنى عنه؛ ولكنها في الوقت نفسه ليست هى المطلوبة في ذاتها حتى ولو كانت موجّهة إلى كتب الصوفية أنفسهم؛ فلن تكون من أهل القرب والوصال وأنت تكتفي بالقراءة في كتب الصوفية صباح مساء، لكن بمجرد أن يتحول فيك ما تقرأ إلى عمل مستمر هنالك يصحُّ أن تكون جديراً بلقب صوفي، وفي الوقت ذاته أيضاً ليس بصوفي من يستغني عن المعارف النظرية ولا عن التوجّه المعرفي الذي يمنع الجهالة ويدحر الركود إلى البلادة العقلية؛ لأن الصوفي من هذه الجهة طالب علم فوق كونه طالب تصفية؛ ولأن التصفية تحتاج إلى استبصار لإزالة غشاوة الباطن؛ فلابدّ له من بصيرة تهيئ المطلوب كونه غاية سامية تنال بالعلم أولاً ثم بالعمل ثانياً على الموافقة والتبصرة.

إنه؛ إذا كان المطلوب وجه الله تعالى؛ فليس أصعب إنْ في التصور وإنْ في العلم من مهبّة الاستعداد للوصول إليه. وإذا كانت المشقة على قدر الغاية صارت تقتضي أهبَّة الاستعداد للوصول إليه تعالى أن يتكرر معنا القول بأن التصوف ليس قراءة ولا كتابة بمقدار ما هو علاقة باطنة يُحسن فيها العبد مسيرة الطريق وفق منهج الذوق والشعور والاستبصار ويرتقي خلال المسيرة إلى حيث إصابة الغاية من الطريق نفسه ثم يُسقطها فيكون إذْ ذَاَكَ مع الله دَوْمَاً بلا علاقة. إلى مثل هذا كانت إشارة طاووس العلماء الجنيد بن محمد البغدادي إلى التصوف أن يكون العبد فيه بلا علاقة.

تتأتى معرفة الله بالإشراق والانكشاف والإلهام (انظر قلبك؛ لأنَّ ملكوت السَّموات والأرض فيك) هكذا يقول الصوفي، والنظر إلى القلب يدعو باستمرار إلى “الجهاد الباطن” أي : إزالة غشاوة القلب ممّا ران عليه من مكتسبات الشرور والآثام. وإنه لقول يدلُّ من الوهلة الأولى أبلغ الدلالة على هذا الوعي العالي : وعي الصوفي المُحَقِّق الولي العارف، وليس هو بوعي سواه. أبحث – إنْ شئت – عن ملكة التعلق : فيما عَسَاَكَ توجهها؟ أفي شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم في شغل العلم بالله؟
فلئن كانت الثانية فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة قريبة. ولئن كانت الحالة الأولى فلقد أورثت صدأً على وجه القلب فكانت مانعاً كثيفاً من تجلي الحق فيه؛ فانقطع .

الغريب في الأمر، إن قبول مجلى تجلي الحق أو عدمه يرجع إلى (القلب)، فلو كان على القلب صدأٌ لم يعد يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل غيرها، أي قبل الاشتغال بالأسباب فاستغرقت طاقة النور القلبي بكليّتها؛ فحُجب.

والاشتغال بالأسباب صدأ قلبي .. بالتعبير القرآني البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والرَّان).

فإن قلت : فما بالُ العقل؟ ألم يُعرف الحق بالعقل؟

أقول لك : مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهة : الجوهر، والطبع، والحالة، والهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء. وهذه الأشياء لا توجد في الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذي يستند إليه هو الحسّ أو الضرورة أو التجربة الحسية.
وكلمة الضرورة تعني من حيث ما يُعلم لديه بالضرورة، وهذا لا يكون إلا لوقائع عينيّة.

يقدح الدليل العقلي في العلم بالله، ويعجب المرء حين يرى الفلاسفة المسلمين يقدّمون أدلة عقلية على وجود الله. ألم يقرأوا حديث رسول الله، صلوات الله عليه : إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد … وفيه : إنّ جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن. ثم هل خلت أنظار الفلاسفة من قلوب تعقل، في أنفسها، عن الله دليله؟

أيحتاج وجود الله إلى دليل غيره؟
أتحتاج معرفة الله إلى دليل سواه؟

شَغَلَ الفلاسفة أنفسهم، وشغلونا من بعدهم، بحجب الأدلة العقلية، ولم يتحققوا قيد أنملة من أن معرفة الحق متجلاّه على الدوام بغير انقطاع لا يُتصور في حقها حجاب عنّا، غير أنّ مجلاها القلب الصافي عن لوثات التكدير، الخالي من ظلمة حجب الأسباب. وعلى الله وحده، توفيقه ورعايته، جلاء القلوب التي صدأت من كزازة الدنيا ومعاطب الأسباب.

ومن ذلك ترى؛ منهج الوصول إلى هذه المعرفة يقوم على تنظيف القلب والسّر إلى حيث الوصول بهما على ضوء المنهج الذي يحكم صاحبه ويحكمه صاحبه في موضوعه المبحوث.

ومن المؤكد أنّ هذه الدلالة نفسها تجمع إلى جانب الأساس المعرفي أساساً أخلاقياً من الدرجة الأولى؛ فالأخلاق لا تنفصل عن المعرفة بل هى ثمرة من ثمارها تقوم عليها أصلاً وتأسيساً، وتتأسس في رحابها وتنعكس سلوكاً على صاحبها نتيجة معرفته؛ فليس أصدق من عارف ظهرت لديه المعرفة فأثمرت الأخلاق؛ وليس أعلى من رجل القيم الذي دَلَّتْ معارفه على خُلقه واقعاً وتحقيقاً.  

بقلم : د. مجدي إبراهيم    

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *