Share Button

الفلسفة ورسالة الصفوة إلى النخبة والعامة

بقلم : د. عصمت نصار

 في الثامن عشر من فبراير 1933م، كان اللقاء الأول مع صفوة الأساتذة المصريين الذين خططوا بعقولهم وخطوا بأناملهم أولى الرسائل التوجيهية لمحبي الفلسفة ودارسيها، وإلى الراغبين في التعرُّف عليها من ألسنة أربابها أيضاً. وهو اليوم الذي يعد العيد القومي للفلسفة المصرية؛ ذلك الذي أضحت فيه المعارف الفلسفية جزءً مهماً في المناهج الدراسية في المرحلة الثانوية.

وقد حرص قادة الرأي من الاتجاه المحافظ المستنير على إصدار عدداً تذكارياً لهذه المناسبة أملاً في أن يُصبح هذا اليوم بمثابة المصباح الذي ينبغي على الأجيال المتتابعة تزويده بزيت العقلانية والحرية والوعي والإصلاح على مر العصور حتى لا تنطفئ شعلته، ويقفل ضوؤه؛ فتخيم على ثقافتنا ظلمة الرجعية ونبيت في ليل التعصب والجهل والعنف والتطرف الذي دحرناه يوم أشعلنا فتيل المصباح.

أجل سوف أحدثكم اليوم عن ما جاء في العدد التذكاري لمجلة السياسة الأسبوعية الذي صدر ملحقاً بالعدد (3039)، وذلك للتأكيد على عدة أمور :

أولها : حرص قادة الرأي على إطلاع الرأي العام على مقصدهم من إدراج الخطاب الفلسفي في برامجنا التعليمية والتربوية المصرية.

وثانيها : عرض مباهج الفلسفة التي يرغّبون النشء في تعلمها واستيعابها ثم تطبيق ما تحويه من قيم في المجتمع؛ لتنقية ما فيه من مفاسد، واستكمال ما يأملوا فيه من غايات، وتجميل ما اهتدوا إليه من صوالح.

وثالثها : الكشف عن مناهجهم في إدراك المعارف الفلسفية وتحليل أفكارها والتمييز بين اتجاهاتها، ونقد نظرياتها واقتفاء المبادئ المنطقية والأنساق والحجج البرهانية في التثاقف والتناظر.

ورابعها: الإعلان والإقرار مجدداً، بأن الدرس الفلسفي المصري لا ينفصل عن مشروع قادة الرأي الحضاري الذي أرسى قواعده محمد عبده، ذلك الذي جعل الإحياء ونقد التراث لتنقيته ممّا عاق به هو المدخل الرئيس للتجديد والتقدّم.

وأخيراً : التدريب على القراءة الفاحصة لكل ما يعرض على العقل من كتابات وأقوال ومشاهد وأحداث؛ وذلك كله لرعاية نبتة التفلسف التي ينبغي على طلابها البحث عنها في أذواقهم وعقولهم وأخلاقياتهم وميولهم واختياراتهم.

فالفلسفة لا تفتح أبوابها إلا للمحب العاشق الحاذق الماهر المنتصر للحقيقة دوماً. وقد عبرت المقالات التي حوت هذا العدد عما أوجزناه واجتهدنا في التعبير عنه؛ فها هو منصور فهمي (1886 – 1959م)، رئيس قسم الفلسفة بالكلية الآداب في الجامعة المصرية آنذاك، يحدثنا عن أبرز صفات الفيلسوف؛ فيبدأ بالخصال التي ذكرها أبو نصر الفارابي (870 -950م) للفيلسوف والتي تتمثل في القدرة على استحالت الشهوات الحسية إلى شهوات روحية وعقلية، وأن يشعر بأن اندفاعه للواجب الأخلاقي قدرُ تدفعه إليه إرادته الحرة وينصهر في عقيدته الإلزام والالتزام في مبدأ واحد.

ويضيف أن شهوة طلب الحق في الحكم والإنصاف في تقدير الأمور هى ألزم الصفات التي ينبغي على الفيلسوف أن يُعرف بها ويقول (لكن شهوة الحق لا تفوز بالنفس فوزاً عظيماً إلا إذا ألصقت النفس بخلال تهيئ صاحبها للحاق بالملاحظة كحب التطلع واتخاذ الدقة، وبصفات تهيئ صاحبها للتكاثر العرفاني بالرغبة في ثقافة واسعة، وصفات تهيئ صاحبها للقدرة على التركيز بها؛ لتتثبت من المعلومات وجمع ما توزع منها ورده إلى الكلى لكي يكوّن من هذا “المثل” الذي يهتدي به المرء عند سرعة التعليل.

ويؤكد “منصور فهمي” أن انشغال الفيلسوف بالبحث والدرس لا ينبغي أن يدفعه إلى اعتزال المجتمع الذي يعيش فيه أو اصطناع لنفسه عالم خاص مُفارق لواقعه وآماله وآلامه حتى لا يُتهم بخصال وطباع ليس منه ولا فيه؛ كالكبر والتكبر أو الحمق والتقعر أو التعالم واللغو والسفسطة أو الاجتراء أو الاغتراب.

وعلى من تسربل برداء الحكمة ألا يصيبه اليأس أو الإحباط إذا جحده المجتمع ولامه الناس أو كذبوه وحقروا من شأنه، وليتذكر دائماً أن أصحاب الرسالات وصناع المستقبل من الحكماء والمصلحين هم الذين يكتبون التاريخ بمواقفهم وأعمالهم المجيدة. وليتذكر أيضاً أن الجد والاجتهاد، والتجديد والجهاد من أصل واحد لا تجتمع فروعه إلا في صفوة العقلاء الصادقين مع أنفسهم والمخلصين لأوطانهم. أمّا المتسربلين بأكفان الماضي والمنعزلين وراء أسوار التقليد من جهة، والمزوّرين للحقائق والعابثين بالعقول والخائنين لضمائرهم وأوطانهم من جهة أخرى، لن يخلدهم التاريخ، ويكتفي بذكرهم مع البائدين.

وحريٌّ بشبيبة المثقفين أن يرفقوا بعشاق الحقيقة من الفلاسفة والمتفلسفة، وذلك لأن شهوتهم للمعرفة وحبهم للعلم ورغبتهم في اللحاق بعالم الحقائق، قد تضلل بعضهم وتجنح به إلى السراب بعيداً عن عين اليم؛ فمدارك الفلاسفة درجات؛ فمنهم من يبحث عن ضالته بمقلتيه. ومنهم من يطلبها بشوقه وعواطفه. والقليل منهم من يجمع بين البصر والبصيرة، ويحسن السؤال ويخلص في البحث ويصبر على مطلبه حتى يفتح له؛ فالحقيقة لا تفتح أبوابها إلا لمن يفنى في حبها ويبقى دوماً يدافع عنها. ولعلها مُحقة في ذلك لتحد من جموح العقل، وجنوح العشق، وتهذب إقدامه، وتهدئ من ثورته، وتمنعه من الاستبداد أو مصارعة الأنداد، وتطهره من الحقد والحسد، وتجمّله بالتسامح والتواضع؛ ليتيقن بعد ذلك كله مع الفلاسفة والمتصوفة والعلماء والأتقياء بأن فصل الخطاب من أسرار ربّ الأرباب.

ويقول (لعلّ أولى الفلاسفة بصفات الفيلسوف من قد يتوازن في الحقيقة المطلقة على نحو ما يقول الشاعر شوقي “عجزنا عنها، فقلنا الله وراء كل ستار”.

وزيل مفكرنا حديثه بتصريح يعكس وجهته العملية التطبيقية في دراسة الفلسفة؛ فبيّن أن الفيلسوف الذي ترجوه ثقافتنا هو الذي يعمل من أجل صلاح المجتمع؛ فيثقف العقول، ويهذب الشهوات، ويرقي الأذواق، ويرشد الميول والرغبات، وينقذ العوام من الأوهام، ويحرر الأفهام من سجن التبعية وزيف الشعارات وكذب الأقوال ومداهمة الأقلام، ويعلي من شأن الأخلاق على دونها، ويشد من أذر المكافحين، وينبه كل أفراد الأمة إلى أن الواجبات والحقوق تكتسب بالممارسة والالتزام. وليس بالصخب والتمرد والعصيان ولا بالأوامر والنصائح والدساتير والصكوك. وأعتقد أنه ليس هناك أروع ولا أجمل من أن يكون الدرس الفلسفي الأول للرأي العام على هذا النحو ذلك الذي أعرب فيه منصور فهمي عن حقيقة التفلسف والغاية منه، وطرائق تدريس الحكمة العقلية وأثرها في تحصيل المعارف وإصلاح المجتمع وحمايته من ملوثات العقل والسلوك والذوق.  

والسؤال الذي أطرحه : هل يمكننا إحياء هذا الدرس في ثقافتنا وإعادته من غُربته؟ وهل حان الوقت أن نحاكم أنفسنا ونستجوبها بل ونستنطقها؟

هل مازلنا نكفر بالفلسفة وأقوال الفلاسفة؟ جحوداً أو إيماناً؟

وللحديث بقية مع درس آخر من أحاديث قادة الرأي في عيد الفلسفة المصرية.

بقلم : د. عصمت نصّار

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *