Share Button
بكل فخر واعتزاز يحيى كل شعوب العالم يوم 5 أكتوبر من كل سنة العيد العالمي للمدرس. ولنا أن نذكر في هذا السياق أن هذا الاحتفال الدولي يكتسي رمزية اعتبارية للمجموعة المرجعية للمدرسين من شأنها أن تساهم بوعي جمعي مشترك في تثمين المكانة الاجتماعية لهم. إن طرح مسألة تثمين المدرّسين على المستوى الدولي يمثل في المجتمعات المعرفية اليوم اكثر من أي وقت مضى قاسما مشتركا لمختلف النظم التّربوية في العالم ، وذلك لما لهذا الطرح الفكري والاجتماعي من ارتباط وثيق بتطوير المردود الدّاخلي للنّظم التّربويّة وتجويد مكتسبات المتعلّمين.
إن المتأمل في الإصلاحات التربوية الجارية في العالم يلاحظ مدى ارتباطها المباشر بملف تثمين المدرسين وتحسين ظروف عملهم، ذلك أن المكانة المحورية التي يحتلها المدرس اليوم تندرج ضمن الجهود الدولية الرامية إلى بناء المجتمعات المعرفية والساعية إلى إقامة مقومات العدالة التّربويّة وبناء لبناتها على مبدأ الإنصاف التربوي. ولنا أن نذكر في هذا المجال أن وظائف المؤسّسة التّربويّة اليوم قد تغيرت نوعيا إذ لم تعد تكتفي بتوفير حقّ الالتحاق بالدّراسة لجميع الأطفال، بل تسعى إلى ضمان النّجاح لجميع الوافدين عليها وهذا ما يفترض وجوبا وجود مدرّسين مهنيّين قادرين على الاستجابة للمتطلّبات الجديدة التي تفرضها السّياسات التّربويّة ورهاناتها المستقبلية، ولا نخال ذلك ممكنا إلاّ بالتّفكير العميق في مسالة مكانة المدرّسين بما يتلاءم وحقيقة الواقع التّربوي للمجتمع. وقد لا يتوقف النجاح في هذا المسعى الحضاري بالتّفكير في شان المدرّسين اعتمادا على ما ينشر في الغرض من أدبيات، بل يفترض أن تنبني هذه الجهود على دراسات معمّقة لواقع عمل المدرس بمختلف مكوّناته، والبحث عمّا يتطابق معه في رؤية جدليّة تضمن التّفاعل بين الرهانات ومتطلبات الواقع. ولعلّ هذا ما يبرّر انخراط جل دول العالم في هذا المسعى الهادف إلى تثمين المكانة الاجتماعية للمدرّسين في علاقته بإشكاليّة تموقعهم في المجتمعات المعرفية.وفي هذا الصدد لنا ان نذكر في تقديرنا توفّر سببين رئيسيّين يلخّصان الجهود الدولية:
• مرور السيّاسات التّربوية في العالم من المراهنة على الكمّ إلى المراهنة على الكيف، وهو ما يفترض أن يؤدّي ذلك إلى التّفكير المعمّق في السياسات التربوية وكسب تحدّياتها الجديدة، ومن أهمها تحسين جودة مكتسبات المتعلّمين على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعيّة والثّقافيّة. وهو أمر لا نخاله ممكنا في غياب تأسيس تمشّ تمهيني للمدرّسين.
• تغيّر ظروف الفعل التّربوي وتغيّر انتظارات الوافدين على المؤسّسة التّربويّة تبعا لتطوّر الحياة الاجتماعيّة عامّة. وهو ما يفترض في رأينا الانتباه إلى أهمية التّحوّلات السّريعة التي تشهدها المنظومات التّربويّة والتّفكير في تطوير مسارات تمهين المدرّسين بما يجعلهم قادرين على مواجهة تحدّيات هذا القرن ورهاناته الحضاريّة.
يحتلّ عمل المدرس مكانة هامّة في البحث التّربوي عامّة منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين. فإذا كانت السنوات 1960 و1970 قد شهدت إصلاحات عديدة تستهدف البحث في قدر التّلاميذ وتطوير مصيرهم (ديمقراطيّة التّعليم، العدالة التّربويّة، الإنصاف التّربوي وسياسة التّمييز الإيجابي، إدماج ذوي الصّعوبات…)، فإنّ الإصلاحات التّربويّة المعاصرة تهتمّ في جزء هامّ منها (في الدّول الغربيّة) بالمدرّسين كأفراد، وبظروف عملهم ومتطلباته. ويمكن تصنيف البحوث المختصّة في طرح ملف عمل المدرسين عامّة ضمن مقاربتين:
– مقاربة عمل المدرس من خلال أبعاده المقنّنة والمحدّدة مسبقا مع كل ما تفرزه من روتينات وضاغطات شكليّة وثقل مؤسّساتي. وهي أبعاد موصوفة تبيّن أنّ هذا العمل البيداغوجي بناء اجتماعيّ منظّم يقوم على اختيارات ابستيمولوجيّة وقيميّة تحدّدها التوجّهات التّربويّة والثّقافيّة والحضاريّة المميّزة لمجتمع ما. وبقدر ما تحدّد هذه الأبعاد وتقنّن بقدر ما يصبح العمل التربوي قصديّا وهادفا في إطار غايات مصرّح بها، وبقدر ما تضبط إجراءاته وآليات تنفيذه بقدر ما تتم الاستجابة لانتظارات المجتمع .
– مقاربة عمل المدرس من خلال مكوّناته غير الشّكليّة وأبعاده الضّمنيّة والطّارئة، أي من خلال مجاله الخفيّ الذي يبيّن درجة تركيبه وتعقيده في نفس الوقت، ودون تجاهل للجانب الشّكلي الذي اهتمّت به العديد من الدّراسات في بداية النّصف الثّاني من القرن العشرين، نؤكد في هذا المجال على قيمة الابعاد النفسية والاجتماعية التي تكون المحركات الاساسية لارضاء الذات والشعور بالمكانة الاجتماعية المثمنة.
يستمدّ المشروع التّمهيني وجاهته من تجدّد الرّسالة التّربوية وتطوّر وظائف المدرسة. فالمؤسّسة التّربويّة التي لم تعد تكتفي بتوفير حقّ الالتحاق بالدّراسة، بل أصبحت تسعى في إطار مبدإ الإنصاف التّربوي إلى ضمان حقّ النّجاح لجميع الوافدين عليها. وهذا ما يفترض بناء اجتماعيا مثمنا للمدرسين. وفي هذا يمكن لنا أن نعتبر أن تمشي التثمين على أنّه تمشّ هيكلي واجتماعي- تاريخي، وهو رؤية حضارية مستقبليّة تتحقّق عبر الزّمن، وتوجّه تربوي في طور البروز بصفة موازية في أغلب النّظم التّربويّة في العالم، وقد أصبح يتجلّى خلال العقود الأخيرة في عديد المجتمعات برغبة واضحة من قبل أفراد المجموعات المرجعيّة المهنيّة نفسها. ويندرج هذا التصوّر الجديد لحرفة التّدريس عامّة في إطار سياقات مهنيّة اجتماعيّة:
• تقتضي تحوّل الحرف إلى مهن بإيجاد معارف مهنيّة وسياقيّة يساهم الفاعلون في بنائها.
• تتطلّب توفّر تمشّيات تمهينية طويلة المدى، تنطلق من الممارسة الفعليّة للمهنة ثم التّفكير فيها من أجل تطويرها من قبل متعاطيها الفعليّين.
واعتمادا على ما سبق، نشير إلى أنّ التّثمين تمشّ ديناميكي يشارك في بنائه المدرّس نفسه، وهو بذلك:
• يتأسّس على المراقبة الذّاتية وفقا لما تنظّمه المجموعة المرجعيّة المهنيّة التي ينتمي إليها ووفقا للسّياق الحقيقي للفعل.
• يفترض توفّر القدرة الجماعيّة للمجموعة المرجعيّة المهنيّة على التّنظيم الذّاتي وتحديد حاجياتها الضّروريّة لذلك.
• يتأسّس على مفهومي الاستقلاليّة والمسؤوليّة، أي على مبدإ أخلاقي- مهني يفترض القدرة على تقييم العمل المنجز ومناقشته مع المجموعة المرجعيّة المهنيّة، أي القدرة على العمل ضمن فريق. كما يتطلّب التّجديد المستمرّ للكفايات المهنيّة اعتمادا على التّشخيص الذّاتي لها، إذ يفترض التّساؤل الدّائم حول مدى توافق الكفايات المكتسبة مع متطلّبات الواقع. إن التّثمين هويّة مهنيّة جديدة يتحوّل بمقتضاها مفهوم التّدريس من صناعة حرفيّة تعتمد التّطبيق الآلي لقواعد محدّدة، إلى مهنة تتطلّب كفايات تمكّن من مواجهة الوضعيّات المتنوّعة.
إن تثمين مكانة المدرسين لا تعدو ان تكون في النهاية مسارا طبيعيا يبنيه الفاعلون انفسهم من خلال تقاسم ثقافة مهنية نابعة في جوهرها من نبل الرسالة المناطة بعهدة هذه المجموعة المرجعية المهنية. وهو ما يجعل المجتمعات المعرفية تسعى إلى بناء هذه الهوية المهنية الجديدة.

د/ كمال الحجام

6 اكتوبر2021
<img class="j1lvzwm4" role="presentation" src="data:;base64, ” width=”18″ height=”18″ />
<img class="j1lvzwm4" role="presentation" src="data:;base64, ” width=”18″ height=”18″ />
<img class="j1lvzwm4" role="presentation" src="data:;base64, ” width=”18″ height=”18″ />
Amri Md Hedi et 5 autres personnes
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *