Share Button
بقلم : د. مجدي إبراهيم
النفس المستقيمة هى النفس التي تعاني : وهى في معاناتها تتألم, غير أنها في كل حالاتها تعاني الألم, فالألمُ موجودُ في كل الحالات, لكن ألم الاستقامة غير ألم الانحلال! قد تعاني النفس في استقامتها أشد المعاناة, ولابد لها من المعاناة ترويضاً وتطبيقاً لفاعلية الجهاد إيثاراً لطاعة الله على طاعة هواها، وهى في ذلك تعاني ألم الاستقامة, أعني بقاء النفس دوماً على أمر الاستقامة. ولكن هذه النفس المستقيمة إذا فلت منها ميزان الاعتدال وانفرط عقد جهادها لشهواتها وأهوائها، ولم تعد تستطيع القدرة على المقاومة؛ كان عناؤها أكبر وأشدّ وأثقل عليها, وكان ألمُها ممّا لا تحتمل له أثراً, ذلك لأنه ألم الانحلال الذي لا يضبطها لتكون في معيّة الله. ففي كل الحالات الألم بالنسبة للنفس موجود, ومن استقامة النفس أنها تعاني على الدوام لا محالة.
والنفس المعوجة هى التي لا تعاني؛ لأنها تستروح إلى ما هى عليه ولا تشتاق مطلقاً إلى فضيلة التغيير, لكن النفس المستقيمة أو التي تطلب الاستقامة هى التي تعاني مزيداً من المعاناة حتى تجد بغيتها حاضرة معها محققة لها في مزيد من التطبيق والتحقيق. والقارئ مرجو أن يلحظ أنه قد تكرّرت معنا عمداً كلمة (المعاناة) في هذا السياق عدة مرات, ولتكرارها هنا عمداً دلالاته المقصودة؛ إذْ المعاناة تقابل “التجربة الصوفيّة” فيما تحمله من شدّ وجذب, ومن قبض وبسط, ومن قوة وضعف, ومن توتر وحيرة, ومن قلق واضطراب في بعض الأحايين بل وفي أكثرها, تلك هى المعاناة التي نقصدها حين تتكرر معنا عمداً يصحُبه سبق الإصرار. إننا نقصد التجربة الروحيّة التي يعيشها المتصوف, إذْ يلزمه الجهاد بغير انقطاع أو يلزم نفسه به في كل حال, والجهاد وحده دالُ على المعاناة, ومجرَّد كلمة الجهاد مجردة توحي بمفردها بالألم؛ فلا يوجد جهادُ مطلقاً بغير ألم وبغير عناء. وجهاد المتصوف في حياته الروحية تجربة من أعمق التجارب الحياتية, ومن أعمق آيات الجهاد بإطلاق؛ لأنه جهاد يحول النفس من حال إلى حال وينقلها نقلاً من مراد إلى مراد.
إنّما الألم بالنسبة للنفس القويّة يعني الجهاد لأدرانها وآفاتها فهو في جميع الحالات موجود، ولن يستطيع الفرد المستقيم أن يتخلص من عذاباته النفسية إلا بوجود “إرادة ” مطواعة؛ فهناك ما يُشدُّه إلى أسفل, وهناك ما يجذبه إلى أعلى, وفي كلتا الحالتين هو بين الشدِّ إلى هنا والجذب إلى هناك في عذابات. لا شك كانت تلك العذابات تحتاج إلى جهاد، لأن النفس تعاني فيها أشدّ ألوان العناء؛ فالألم في جميع الأحوال موجود غير مفقود, لكنه ألم مقرون بالسعادة؛ لأن فيه مخالفة لهوى النفس على الدوام.
وجودُ الألم معناه أن الروح تطلب خلاصها, ولا يكون خلاصها إلا بضريبة مفروضة, ولا يحصل إلا بسلوب من النفس في أعز ما تهوى وتشتاق وتتمنى؛ فالذين يجاهدون نفوسهم يتألمون كثيراً, وبمقدار معاناتهم تجيء من فورها سعادتهم.
أي نعم ! بمقدار ما تعاني تسعد ..!
هذه حقيقة كبيرة من حقائق جهاد العارفين. هنا؛ وهنا فقط, علينا قبل أن نستطرد في شرح هذه الحقيقة أن نفرِّق بين نوعين من الألم. الأول : ألم السعادة. والثاني : ألم الشقاء. ألمُ السعادة قبل التجربة. وألمُ الشقاء بعد التجربة. أنت سعيد قبل أن تجرِّب المعصية, لأن المعصية شقاء. أنت سعيد قبل أن تجرِّب الرذيلة؛ لأن الرذيلة تعاسة محققة وخذلان بكل تأكيد. أنت سعيد قبل أن تجرب الخطيئة؛ لأن الخطيئة استعباد لا حرية بل هى موت ودمار. أنت سعيد قبل أن تجرِّب الغفلة؛ لأن الغفلة جناية كبيرة عند أولي العزم من أهل التحقيق. من أين يتأتى الألم؟ قطعاً يتأتى من ممارسة فعل ما نُهىَ عنه.
ولكننا مع ذلك نتساءل : هل كانت هذه السعادة تحملُ ألماً؟ والجواب يأتي بالطبع : نعم هنالك ألم ! إنه ذلك الألم النفسي, الباطني, الجُوَّانيّ : ألمُ الرفض والمقاومة, وهو ألمُ في البداية لكنه سعادة في النهاية, هو ألمُ يعتصر النفس عصراً قبل أن تجرِّب الرذائل والمحظورات, وقبل أن تقدِم على فعل الضرر الذي يلحقها, أفئن هى قاومت وانتصرت مع شدة الألم, نجحت. فينقلب ألمُها من فوره إلى سعادة مُحققة. فالألم الواقع عليها هنا هو ألم الرفض، أو نتيجة لفعل الرفض، هو ألم المقاومة، أو هو مصاحب لعملية المقاومة، هو ألم ناتج عن إرادة الامتناع؛ فأنت من هاهنا سعيد بألمك قبل التجربة، قبل ممارسة مثل هذا السلوك البغيض أو ذاك، حتى وإنْ كنت تتألم من أجله، بيد أنه ألم سعادة لا ألم شقاء. وعليه؛ فألم السعادة يكمن في تلك المجاهدة الدائمة والمقاومة المستمرة والمعاناة الرافضة لكل خنوع يمضي مع النفس في إتيان هواها. والرفض هنا شيء عظيم وجليل، هو الذي يُضفي على الشخصية الرافضة سحرها من جانب العظمة وإيهاب الجلال، هو أبدع إمكانيات النفس ضد طغيانها وضد هواها، وضد ما تسببه لصاحبها من عجز ومرض وبلادة وجهالة دائمة, حتى صنوف العجز والمرض والبلادة والجهالة يمكن رفضها من قبيل النفس المستقيمة، ويمكن التغلب عليها بفعل المجاهدة المنظمة الدائمة.
أمّا ألم الشقاء فهو بعد التجربة، أي الممارسة، بعد أن يخوض الفرد تجربة الشرور التي يقترفها. جرِّب إنْ شئت كل صنوف الضياع, وأترك لنفسك هواها كيفما شاءت، ودع عنك المجاهدة، ودع عنك المقاومة والامتناع، ودع عنك كل ما يقهر نزوع النفس لديك، جرِّب جميع الأفعال التي ترافق هوى النفس الطبيعي؛ فأنت إذْ ذَاَكَ في النهاية مع سعادة النفس بداية ستكون شقياً لا محالة, وفي الشقاء كل ألوان الألم بغير منازع.
ذلك هو ألم الشقاء الذي يأتي بعد التجربة؛ لأنه ألم يمضي بالنفس إلى اقتراف الضرر الذي يتحقق منه المرء من الوهلة الأولى، وهو مع هذا يجرِّبه؛ ليكون بتجربته سعيداً أو يتوهم ذلك! هذا الضرر لا يعود على أحد إلا على المُجرِّب نفسه, تماماً كما أن ألم السعاة لا يعود نفعه على أحد إلا على المُجَرِّب عينه، كذلك ألم الشقاء لا يعاني منه أحد إلا مُجَربه, وتلك جريرة النفس مع صاحبها : أن تودي به في طريق المهالك, وليس هذا بغريب :” فرُبَّ نفس عشقت مصرعها”. إنها لحقيقة كبيرة من حقائق جهاد العارفين مع أنفسهم، يصورنها من خلال معاناتهم لتكون هذه العبارة البسيطة عندنا ذات دلالة حقاً :
” بمقدار ما تعاني تسعد ..!”
لكنها حقيقة أبعدُ ما تكون عن التطبيق الواقعي والتنفيذ الفعلي إذا كانت النفس ضعيفة والإرادة خربة والعزيمة بالية والمثابرة فاترة والهمة ساقطة, لا تنتظر إذا كانت أحوال النفس على تلك الأوصاف أن تكون هنالك حقيقة تحتمها قوة العرفان في المعدن العارف، ولا يتأتى لك أن ترجو سعادة من وراء تلك المجاهدات النفسية حين تكون النفس فقيرة السعي نحو الأهداف العظيمة تتلاقى معها على استعداد واكتمال.
النجاحُ الحقيقي للإنسان يتلخص في عبارة واحدة :” ترويض النفس وحملها على المكاره”، حملها على المكاره من طريق الصبر؛ وما الصبر سوى حَبْس النفس على المكاره. فالصبر كله فضيلة كبيرة هو “عزم الأمور”. أتدري كم مرة وردت “عزم الأمور” في القرآن الكريم؟ في ثلاثة مرات فقط, هى نصف الدين حقيقة لا مجازاً.
الأولى : في آل عمران آية (186) :” لتُبلَون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإنْ تصبروا وتتقوا, فإن ذلك من عزم الأمور”.
والثانية : في لقمان آية (17) :” يا بنيّ أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك؛ إنّ ذلك من عزم الأمور”.
والثالثة : في الشورى آية (43) :” ولمن صبر وغفر؛ إنّ ذلك لمن عزم الأمور”.
انظر إلي هذه الآيات الكريمة وتدبرها جيداً تجد أن مصدر الأخلاق الجميلة هو “عزم الأمور” كما سمَّاه القرآن, هو مصدر كل خلق جميل حثّ عليه القرآن. عزم الأمور نية في القلب خفية وقدرة في المنع قوية, ورد للنفس عن بعض ما تشاء, لكنما نفوسنا الضعيفة نفوس خربة تشاء الكسل وتأنف من بذل المجهود, تشاء المتعة وتمتنع عن الإقلاع, تشاء الأكل الكثير والراحة والنوم وتمتنع عن الجوع والمشقة والسّهر, تشاء إتباع الهوى والشهوة والشيطان وتمتنع عن حظيرة الله والاستقامة والإيمان, تشاء الرذيلة وتمتنع عن الفضيلة؛ فلن يكون خيراً لها, ولن يتم, ما لم يردها صاحبها بعزم الأمور عن بعض ما تشاء. والأصلُ في ذلك كله هو الصبر جهاداً والتحلي تصبُّراً بأطيب الفضائل وأكرم الأخلاق.
حقيقة مصدر الأخلاق الجميلة هو “عزم الأمور” كما سَمَّاه القرآن, مصدر الأخلاق الجميلة هو القدرة على الامتناع, ورد النفس عن بعض ما تشاء, وضبطها بهذا القانون الأعلى الذي يجري على صفته الشمولية, التامة, الكاملة, مصدر الأخلاق هو أن يشعر الإنسان بالتبعة المسئولة, وأن يدين نفسه بها, وأن يساءل ضميره فيها, مصدر الأخلاق أن يكون الإنسان سيد نفسه, وأن يملك زمام أمره, وأن يتحلى بفضائل الجهاد.
كان إبراهيم بن أدهم يقول :” لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجتاز ست عقبات. الأولى : أن يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة. والثانية : أن يغلق باب العز ويفتح باب الذل. والثالثة : أن يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد. والرابعة : أن يغلق باب النوم ويفتح باب السّهر. والخامسة: أن يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر. والسادسة : أن يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت” (الرسالة القشيرية؛ ص 98-99).
تلك هى أهم الصفات الواجبة على الإنسان المُجاهد فيما لو عرف للجهاد معنى, وعرف له من ثم َّ قيمة نافعة في هذه الحياة .. فلم يبق إلا التطبيق.
أي نعم! الذين يجاهدون نفوسهم يتألمون؛ لأن الألم رفيق المعاناة إذا كانت ثمرة المجاهدة هو هذا العناء، ولأن المجاهدة تذكية، وفيها خلاصُ الأرواح من أدران الغفلات، وفيها كذلك ألمٌ وعناءٌ ومكابدة، هى الظواهر النفسية المُصاحبة لعملية الجهاد : أنْ تعرف كيف تعاني، أنْ تعرف كيف تتألم، أنْ تعرف كيف تكابد, حتى إذا ما عرفت كيف تعاني, وتذوَّقت هذه المعاناة كنت مجاهداً. وإذا عرفت كيف تتألم, وتذوَّقت هذا الألم, صرت مجاهداً. وإذا عرفت كيف تكابد, وتذوَّقت هذه المكابدة، كنت من المجاهدين حقاً وصدقاً. وما أطيبُ وصف شاعرنا العربي حين قال :
لا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إلا مَنْ يُكَابِدَهُ وَلَا الصَّبَابةَ إلاَ مَنْ يُعَانِيَها
يصف القشيري طريق التصوف في أربع خلال للمجاهدين في سبيل الله؛ فهم يجاهدون في سبيل الله على أربع حالات: الحالة الأولى : يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعات. والحالة الثانية : يجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات. والحالة الثالثة: يجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات. والحالة الرابعة : يجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود في دوام الأوقات).
فأنت ترى في نص القشيري أسس المجاهدة تتمثل في أربعة :
المجاهدةُ بالنفس، والمجاهدةُ بالقلب، والمجاهدةُ بالروح، والمجاهدةُ بالسِّر؛ فقوام الحياة الروحيّة كلها مجاهدة النفس أولاً موقوفة على دوام الطاعة، وهذه مجاهدة بدنية تتعلق بالظاهر، ثمّ يترقى العبدُ صعداً في طريق المجاهدة الباطنة ليجاهد ثانياً بقلبه فيقطع مناه من كل شيء سوى وجه الله فيما يُرضي الله؛ ليترقى ثالثاً فيجاهد بروحه بحذف أية علاقة عائقة؛ ليترقى رابعاً فيجاهد بسرِّه ليكون دائم الاستقامة في جميع الأوقات على منن الشهود. ويتبين من هذا كله؛ أن الجهاد هو أساس الحياة الروحية عند صوفية الإسلام لا يتخلف عنه متصوف حقيقي مطلقاً في جميع مقاماته وأحواله ووارداته ورقائقه.
ويفيدنا نص القشيري بمثل هذه الأسس مجتمعة في النفس، والقلب، والروح، والسر. وأساسها الأول هو مجاهدة النفس؛ لأنه بمثابة القاعدة ينبني عليها مجاهدات القلب والروح والسِّر؛ فإذا نحن عرفنا القاعدة الأساس عند المتصوفة عرفنا تباعاً مغزى قولهم بمجاهدة القلب، وما يتلوها من مجاهدة الروح، ثم مجاهدة السّر التي يعرفون فيها ما لم يعرفه سواهم من منن الكشف وعطايا الشهود.
ولمّا كانت المجاهدة مستندة على أساس شرعي عند الصوفية؛ فقد أسفرت عن اتصال بالله حقيقة ليس فيه مجاز؛ لأنهم يعتمدون كثيراً في مجاهداتهم على ما ورد في القرآن الكريم من آيات تحث على الجهاد سواء كان الجهادُ مُوجَّهاً ضد الأعداء أو كان منصرفاً للنفس لتكون على الدوام مملوكة لا مالكة, مركوبة لا راكبة, مغلوبة لا غالبة.
وبما أن قراءة الصوفية لتلك الآيات جاءت قراءة حضور ومعايشة، ثم عمل وتطبيق قبل كل شيء، ولم تكن في الوقت نفسه قراءة للعلم والمعرفة وكفى، ولكنها كانت للحياة كيما تُعَاش؛ فإن الجهاد لديهم يقوم على فقه الكتاب الكريم، وإذا هم يتخذون (تأسيساً) من سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، القوليّة والفعلية، (لا من مصدر آخر سواه) سنداً لما هم فيه من ممارسة وتجربة وحياة؛ أعني ممارسة الشرع وتجريب الحياة الدينية. فالأساس الشرعي – من ثمَّ – ظاهر كل الظهور في مجاهدة النفس عندهم؛ إنْ من مورد الكتاب الكريم أو من مورد الحديث الشريف، وأية محاولة لتخريج التصوف الإسلامي خارج هذه الحدود، فهى محاول محكوم عليها بالعبط العلمي. ولم يكونوا يجاهدون نفوسهم لهزال كان في باطن النفس فيهم ولا لغرض زائل من أغراض هذه الدنيا, ولكن كانت مجاهداتهم تهدف إلى الاستقامة، أو على حد وصف ابن خلدون (ت 808هـ)، كانت مجاهدة مشروطة بالاستقامة؛ إذْ قد نجد كثيراً من المجاهدين لأنفسهم من يجاهد لا لأجل الاستقامة كالسحرة والمرتاضين، أي تجيء مجاهدتهم في تلك الحالة ليست قائمة على أساس شرعي، بل لأجل كشف حجاب الحسّ الذي يحصل لصاحب الجوع والخلوة، وليست الاستقامة مشروطة به. فرقٌ؛ وفرقٌ كبير، بين من يجاهد وهو مستند على مضمون يشكل مجاهدته ويقوِّم منطلقاته النظرية والعملية، وبين من يجاهد من أجل أغراض دنيوية كسباً للصحة البدنية أو نيلاً لمآرب ليست قائمة على بواعث شرعية من صحيح الدين وصحيح الاعتقاد. ومن هنا؛ فليس من المبالغة أن نقرأ في كتب الصوفية الأحاديث النبوية الصحيحة الشريفة (كأن نقرأ تلك الأحاديث النبوية في الإحياء، ويقوم بتخريجها الحافظ العراقي في كتابه “المُغني عن حمل الأسفار”، في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، درءاً لوصمة ضعف الحديث التي شاعت عن كتب الصوفية، وبخاصة الإحياء!) يروونها باتصال السّند عن فضيلة الجهاد لتكون معتمدهم ومتكئهم وأساسهم الشرعي؛ كقوله – صلوات ربي وسلامه عليه – لقوم قدموا من الجهاد :”مرحباً بكم قدمتهم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”. قيل : يا رسول الله : وما الجهاد الأكبر؟ قال : جهاد النفس. وقوله صلى الله عليه وسلم :”المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل”؛ وقوله عليه السلام :”كف هواك عن نفسك؛ ولا تتابع هواها في معصية الله تعالى” (الإحياء؛ جـ3- ص64). وفي الحديث الشريف أنه, صلوات ربي وسلامه عليه، كان يواصل الصوم فأراد أصحابه رضوان الله عليهم أن يواصلوا كما كان يواصل؛ فشق عليهم ذلك, فنهاهم عليه السلام أن يواصلوا وقال عبارته الشريفة :” إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”. وفي معناه أيضاً “إنّ لي هيئة ليست كهيئتكم”.
ومن المؤكد أن هذه الهيئة النبوية المباركة، هيئة علوية لا تنهي عن الصوم الدائم إلا من باب الرحمة والشفقة على الهيئات التي لا ترقي مطلقاً إلى هيئته هو؛ صلى الله عليه وسلم, وليس هناك ما يمنع من قهر النفس على المكاره والمشقات، مادام في النفس استعداد علوي لتلقي أطيب الفيوضات الإلهية. فالحديث مانع لمن لا يستطيع، مبيحُ للقادر، والأمر كله مرهون بالنية القلبية. والمفروض هو تلك “الإباحة” لا ذلك “المنع”. ومن هنا؛ كان انطلاق الصوفية في مجاهداتهم : الأخذ بالأحوط في الدين والزيادة في فعل الجهاد، لماذا؟ لأن النفس لا تستجيب لك بسهولة ويسر؛ ولأنها أحياناً كثيرة تتصرف أو تجعلك تتصرف بطريقة آلية بغير تفكير ولا رويَّة, وذلك ملحوظ جداً في أداء العبادات كالصلاة والصيام وغيرهما, فحمْلَها – من ثمَّ – على المشاق والمكاره أكرم لها من التفريط في حقوقها وأهونها حق البقاء دوماً في معيّة الله (أعني النية الصادقة على ديدن الإخلاص) : النيَّة الصادقة, ولكن ما هى النية أصلاً؟ وما هو عملها؟
كان الحارث المحاسبي عرَّف “النية” فقال في معناها هى :” إرادة العبد أن يعمل بمعنى من المعاني، إذا أراد أن يعمل ذلك العمل لذلك المعنى”. وهو تعريف غزير الدلالة عميق المفهوم؛ فلا يمكن أن يكون للمرء قدرة بغير إدراك هذا المعنى ولو قلت قدرته الفكرية على استيعاب المعرفة واستخلاص مباحثها التي يعتمد فيها المرء على الفهم والإدراك والمعرفة؛ إذ شرط العمل أن تكون النية معروفة، وحاضرة، ولنقرأ عبارة المحاسبي مرة ثانية في هذا التعريف للنية :” إرادة العبد أن يعمل بمعنى من المعاني, إذا أراد أن يعمل ذلك العمل لذلك المعنى”؛ فهناك المعنى أولاً، وهناك العمل ثانياً، وقبلهما الإرادة العاملة؛ الإرادة التي لم تتحول بعد إلى عمل, هى نية قلبيّة ليس إلا. فمعرفتنا للنية معناه : قدرة الضمير على التوجه إلى ذلك العمل، أي معرفة الباعث الذي يتلازم فيه إدراك الإنسان لقواه العاملة مع قواه العالمة، فلو أنه أدرك قوته العاملة فقط؛ لأدرك السلوك قبل العلم, وعز عليه العلم الناهض للحركة الفعلية؛ أي العلم الذي يحفظ العمل من التحوير عن المقاصد العلية والتشويش عن المطالب النافعة.
والإرادة الإنسانية من بعدُ هى الضامنة للحركة الفعلية في الواقع العملي، بمعنى أنها هى التي تضمن قناتين : قناة العلم الحافظ للعمل، وقناة العمل المحفوظ بإحاطة العلم.
وأولُ ما تفرط فيه النفس هو حق الله كما ينبِّهنا إلى ذلك الحارث بن أسد المحاسبي في كتاباته النفسية التحليلية الرائعة، وأهمّها هنا كتابه “الرعاية لحقوق الله”؛ لا ترعى هذا الحق إلا بجهاد, ولربما أوهمتك أنها ترعاه، وأوهمتك أنها على العهد باقية، حتى إذا ما فتشت عنها وعن رعايتها لحقوق الله وبحثت مُخلصاً عن عهودها أدركت من فورك أنها في غِرَّة، وأنّ حظوظها أقوى الحظوظ، وأن أوهامها هى التي ترعي، وأن أهواءها هى التي تجيب وتسعى، ولا يكادُ أن يكون لحق الله ولا لعهده فيها نصيب غير نصيب القشرة الخارجية والسطح البَرَّاني : مصيبة كبيرة هى تلك الغفلة.
من أجل ذلك؛ صار لابد من قهر النفس على الاستجابة لأمر الله والانتهاء لنهيه، وأن أحسن الاستجابة تلك “القدرة المانعة للنفس عن بعض ما تشاء”. والمفروض أن تجهد النفس في القيام بالحقوق بمقدار ما تجهدها في القيام بالتطوع والنوافل، ففي هذا القيام نفسه قهر للنفس وحملها على المكاره والمَشَاَق؛ لأن المفروض هنا أن ما تقوم به النفس غير مفروض عليها وبالتالي فهو أدعى لأن تبذل فيه أحسن المجهود؛ ولأن المفروض كما تقدَّم أن النفس لا تستجيب لك بسهولة، ولابد أن تقهرها على الاستجابة “تلك القدرة المانعة للنفس عن بعض ما تشاء” : المفروض هو ذلك “المنع” لا تلك “الإباحة”: أعني منع النفس عن أن يكون لها حظ واحد من الحظوظ التي تتولاها طاقاتها وترعاها أهواؤها، مع التنبه الدائم إلى أن القوة القادرة على المنع هى نفسها القوة التي تجعل النفس كارهة لكل فضيلة من الفضائل النافعة في كل حين, اللهم إلا إذا كانت الأحيان التي لا تستجيب فيها النفس لتلك المزالق والمداخل التي تسوّل لها شرَه الرزيلة.
سرُّ النور المشرق الوضاء في عقول الحكماء وقلوب العارفين يرتدُ إلى جهاد النفس بقوة التجرد والصفاء، وهى قوة مستقاة من “عين الحقيقة المحمدية”, من الأساس الشرعي الذي اعتمده الصوفية؛ وللفيلسوف الصوفي البارع شهاب الدين السَّهْرَوَرْدي المقتول (سنة 587هـ)، مقولة تتمثل هذا الأساس الشرعي كل التمثل، وتكشف عن طواياه الدفينة في أعماق الباطن الصوفي حيث يقول :” إذا ما تجرّدنا عن الملذات الجسمية تجلى لنا نور إلهي لا ينقطع مدده عنا, وهذا النور صادر عن كائن منزلته منا بمنزلة الأب، والسيد الأعظم للنوع الإنساني، وهو الواهب لجميع الصور، ومصدر النفوس على اختلافها ويسمى “الروح المقدسة”، أو بتعبير الفلاسفة “العقل الفعال”.
هذا الكائن والسيد الأعظم هو محمد صلوات ربي وسلامه عليه، هو عين النور، هو نور الأنوار، وهو السّر الأكبر، والجوهر المصون. هو بشر .. نعم, لكنه لا كالبشر بل كالياقوتة بين الحجر. وأنت ترى في عبارة السَّهْرَوَرْدي أن شرط معرفة هذا السر الأكبر الذي يتجلى لنا خلال النور الإلهي فلا ينقطع مدده عنا، هو شيء واحد فقط : التجرد عن الملذات الجسمية، ولكن هذا التجرد لا يتأتى عبثاً فارغاً من دلالة, إذْ ليست مجاهدة النفس مجرد كلمة تقال, ولا هى باللفظة الفارغة من معناها؛ إنما المجاهدة حياة تقامُ على الإرادة. ليس ضعفاً أن يتعلق قلب الإنسان بخالقه, بل الضعف كله أن يتعلق قلب الإنسان بالمخلوقين، وليس ضعفاً أن يكون قلب العبد ذا سّر مع الله، هو بمثابة المؤشر الذي يحركه في كل اتجاه يرضى عنه الله تعالى، لكن رضى الله شيء, ورضى النفس شيء آخر. كلُ ما يرضى الله يسخط النفس, وكل ما يرضى النفس يسخط الله؛ والتوفيق بينهما من أمحل المحالات التي تقف عقبة أمام العقل البشري.
ولم يأتِ الشارع الحكيم بالحكمة السديدة إلا ليتمِّم محاولات العقول القاصرة, جاء ليكملها بعد نقص, ولو أن في فهم العقل البشري وحده قدرة لفهم مُرادات المشيئة الإلهية لاستغنى الناس عن رسالة الأنبياء، لا بل لو أن فيه قدرة لفهم العقل نفسه لنفسه، ولفهم ما أحاطت به علوم الدنيا لألتمس الناس في العقل وحده الهداية، وطلبوا المعونة منه دوناً عن سواه. وهذا ما لم يحدث قط في كل حقب التاريخ : أن يُعَوِّل الناس على العقل وحده دون وحي النبوة. ولو أن لعقول الناس إحاطة شاملة تامة لعرفوا الله تعالى بمقتضى عقولهم القاصرة؛ ولكانت حاجتهم إلى الرُسْل والأنبياء ليست بذي شأن.
إنّ الحكمة الإلهية لا تتمُّ بغير نور النبوة؛ أعني أن الحكمة الإلهية لا يمكن نقلها إلى الناس بغير معراج النبوة. ولم يكن مصادفة أن نقرأ في كتاب الله قوله تعالى:” قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله”. وقوله تعالى :” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”؛ فاستجابتنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه هى الحياة, لكنها ليست أي حياة ولا كل حياة بل هى الحياة على شرعة التوفيق والموافقة؛ هى هنا “إرادة الحياة”؛ وإتباعنا له هو عين محبتنا لله تعالى. ففي معراج النبوة كفاية الهداية لبني الإنسان. أما دورُ العقل, فهو الدور الذي يفهم عن النبوة سرِّها في نقل الحكمة الإلهية إلى البشر ليعرفوا معناها ولا يعرفوها من تلقاء أنفسهم التي تلوثها المطامع والأهواء، لا تزال تخفي وراءها القدرة، وهى عاجزة مسلوبة القدرة أو تكاد، ولكن يعرفوها لو شاءت من تلقاء نور النبوة.
هنا, وهنا فقط, يكمن دور العقل البشري : أنْ يتلقى من “نور النبوة” ما في طاقته أن يتلقاه، وأن يُبدع في غير حدود، يُبدع في مثل هذا التلقي من الوسائل والطرق ما شاء له أن يبدع ما دام مجاله في هذه الإمكانية مقرراً لا شك فيه. ومن ثمَّ قامت “رسالة المتصوفة” : التماس معرفة الحقيقة الإلهية من طريق غير طريق العقول المحدودة، من طريق الحرمان! أعني حرمان النفس الإرادي لما يُباح لغيرهم من طلاب الحقائق بطريق غير طريقهم. ومن هنا أيضاً؛ ندرك سرَّ تسمية القشيري كتابه في التصوف بـ “الرسالة”؛ لأن الرسالة الصوفية ليست كرسالة “العقل” لدى المتكلمين والنظار، إنها تشبه رسالة النبوة، أو لأنها تعبيرُ عن رسالة النبوة ومتضمنة لها, رسالة الصوفية خاصة بمنهج وبطريق.
أمَّا المنهج؛ فذوقيُّ تعمل فيه الإرادة البناءة عملها الفعَّال من حيث التطبيق والممارسة والمعايشة والحياة وتذوق الحياة الدينية والإحساس بها وتشرُّبها من الداخل. وأمَّا الطريق؛ فهو طريق المعاناة وركوب المتاعب والمقاومة العنيفة. هو كما قال الشيخ أحمد زَرُّوق في رسالته “الأصول” يتمثل في :” علو الهمة، وحفظ الحرمة، وحسن الخدمة، ونفوذ العَزْمة، وتعظيم النعمة. فمَنْ علت همته ارتفعت مرتبته، ومَنْ حفظ حُرْمة الله حفظ الله حرمته، ومَنْ حسنت خدمته وجبت كرامته؛ ومَنْ نفذت عزمته دامت هدايته، ومَنْ عظمت النعمة في عينه شكرها، ومَنْ شكرها أستوجب المزيد من النعم”. ثم هو بعد ذلك “فقهُ اللحظة الحاضرة”؛ الوصف الذي أجمع عليه قدماء علماء الإسلام؛ كابن قيم الجوزيّة في كتابه “روضة المحبين” حين عبَّر عن ذلك واصفاً الشجاعة بأنها صبر ساعة، فالشجاعة صبر ساعة، وخير العيش ما يدركه المرء بصبره. أو أن الصبر كما عرفه الغزالي هو :” ثباتُ باعث الدين في مقابل باعث الهوى”.
وخيرُ المرء كله في صبر تلك الساعة؛ لكأنما كان صبر هذه الساعة هو بالضبط “فقه اللحظة الحاضرة”. ماذا عَسَاكَ فاعلُ فيها؟ هل تتبع نفسك أم تتبعك نفسك؟ وليس من شك؛ في أن العلماء والحكماء اتفقوا – فيما يقول الغزالي – على أنْ لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات؛ فالإيمان بهذا واجبُ، ونهي النفس لا يكون إلا بطريق الرياضة، وحاصلُ الرياضة وسرّها أن لا تتمتع النفس بشيء ممّا هو موجود إلا بقدر الضرورة؛ فالمرتاض لهذا الطريق يكون مقتصراً من الأكل والنكاح واللباس والمسكن، وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة, فإنه لو تمتع بشيء منه أنس به وألفه, فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه, ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا مّنْ لا حظ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلا أن يكون القلبُ مشغولاً بمعرفة الله وحبه، والتفكر فيه, والانقطاع إليه, ولا قوة للمرء على ذلك إلا بالله (الإحياء؛ جـ 3, ص 67).
ولتلحظ قوله :” لا قوة للمرء على ذلك إلا بالله”؛ تجدنا نقرر مع الغزالي أن التجربة مع الله هى بالأساس توفيق. حين تقبل على الله بكامل الهمة فهو قبول توفيق، وحين يكون همك كله هو الله تعالى؛ فهذا في الأساس توفيق. لا تصدق أن الإنسان بمستطاعه أن يتصل بالله عن طريق إرادته هو، أو عزيمته هو، لا بل الله من وراء ذلك, الله هو الذي يوفقه إلى الله، إذْ لا قوة للمرء على معرفة الله وحبِّه إلا بالله, وصدق الغزالي, وصدقت تجارب المحبين معه في وصف الحالة وتشخيص النزوع.
Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *