Share Button

النزوع العملي والأخلاق الصوفيّة
(تثوير القيمة)

د. مجدي إبراهيم

يَغْلب على أكثر أقطاب الصوفية الكبار النزوع العملي والنزعة الإصلاحية، بمقدار ما يغلب عليهم هذا الطابع الخُلقي المعروف حقيقة في التصوف والدال عليه من أول وهلة، وحيث لا ينفصل الدين لديهم عن الأخلاق ما دامت الأخلاق تقويماً وتهذيباً في نقطة البدء، ومادام الدينُ في الأصل جاء ليتضمّن هذا النزوع الخُلقي في أوامره ونواهيه.

وسِمِة التصوف بالقطع هى سمة خُلقية : تهذيبُ في الأساس، من شأنه أن تتقوَّم به الحياة الإنسانية، ثم بعد ذلك تتأتى التطلعات الإشراقية فيه؛ فالإشراق قبل التهذيب مستحيل، إذْ يلزم الصوفي في البداية أن يتطهر من لوثة النفس وعكارة الضمير؛ ولأنَّ الإشراقَ يبدو مع وجود هاتين الصفتين من أمحل المحالات ..! 

لم يكن الدين، ولم تكن الحياة الدينية عند المتصوفة نظرية تجريدية فقط، ولكنها كانت ولا زالت عملية سلوكية تطبيقية، هى حياة تُعَاش وتختبر في الواقع العملي، تأخذ جانب العبادات فتمضي به إلى آخر ما يستطاعه المرء من المضاء حتى لا يمكن لنا أن نفصل متعسفين في شئون التعبُّد الصوفي بين الدين والأخلاق، فلا تكاد تخلو حقيقة التديُّن – لا في التصوف فحسب بل في شئون التعبُّد ككل : من عنصر عملي يكون حلقة الاتصال بين الدين والأخلاق، ويتحقق ذلك على الأقل في الجانب الإلهي من الواجبات الذي نُسَمّيه عبادة.

لكن طبيعة الفكرة المجرَّدة النظرية أن تَفْصل بين الأخلاق والدين؛ لأن عَمَلَها هو الفصل والمُباعدة بين الأشياء، فإذا ما تناولتَ الأخلاق بعيدة عن الدين حَكمتَ عليها بالنظر فصلاً ومُفارقة، وإذا تناولتها في قلب الدين لم تعد أخلاقاً بمقدار ما يتبطنها الدين ضمنياً خلال أوامره ونواهيه، فالفضيلة الخلقية هى الخير الذي يحث الأمر الإلهي على امتثاله، والرذيلة هى الشر الذي يحث النهي الإلهي على اجتنابه، فالنزوع العملي في الدين يَتَضَمَّن الأخلاق ويتبطن الفضائل.

ليس مطلوباً في الدين – على مستوى العمل والسلوك – أن تقول ما لا ينبغي عليك أن تفعل، وأن تفعل ما لا ينبغي عليك أن تقول، ليس هذا مطلوباً في الدين، لكنه قد يكون مُسَوَّغاً في حكم العلم بالأخلاق، إذْ الأخلاق من حيث كونها علماً شيء، والخُلق من حيث كونه سلوكاً وتهذيباً شيء آخر.

ليست الأخلاقُ هى في الحقيقة تنظيراً فقط يقوم على قلة التوافق بين ما يقوله المرء وما يفعله، أو يقوم على التباين الظاهر بين النظر والتطبيق؛ وليست هى بالشطط البعيد البعيد عن صورة الخلق الحسن القويم؛ لأن الأخلاق إذا هى كانت علماً نَافِعاً يفيد الفرد ويقوِّم من جهود المجموع، فهى من باب أولى قيمة من القيم الفاضلة والباقية يستطيع المرء أن يتحرّاها وينتفع بها ولا ينفصل عنها بحال؛ لأنها في الأصل صورة الخلق النافع للفرد والباقي كذلك لصلاح المجموع.

إنّما الأخلاق تنفصل عن الخُلق من جهة، وتتصل بالخُلق من جهة أخرى، وهى في اتصالها وانفصالها، ليست شيئاً سوى تلك القدرة الضابطة لحركة النفس من الداخل، أعني قدرة ضابطة لقوى النفس الباطنة في أعمق أعماقها. لكن شيئاً يبقى في التفرقة بين الأخلاق من حيث كونها تنفصل عن الخلق وبين الأخلاق من حيث كونها تتصل بالخلق، تماماً كالتفرقة التي نقوم بها بين المعرفة من جهة وبين نظرية المعرفة من جهة أخرى؛ فحين تصبح الأخلاق نظرية يصبح الانفصال عن الخُلُق تباعاً هو المقصود، تماماً حين تصبح المعرفة نظرية يصبح الانفصال عن المعرفة طريقاً آخر غير طريق المعرفة المُرادة هنا : المعرفة شيء، ونظريّة المعرفة شيء آخر.

ففي حالة الانفصال تَعُدُّ الأخلاق علماً قائماً بذاته : يحلل، ويُرَكّب، وَيُنَظّر، ويُعْطي الرؤية الشاملة للإنسان كيما يستطيع أن يرى العلم ثم يُرْدفه بالعمل، وكيما يستطيع أن يتهذب ولا يرى إذْ ذَاكَ فَرْقَاً بين الإدراك النظري والتهذيب العملي حين يتعلق الأمر بالسلوك والتهذيب، أو فيما لو كان العلم بالفعل خَادماً للتطبيق.

أما من حيث الانعزال أو الانفصال فهاهنا قد تكون الأخلاق من حيث كونها علماً منعزلاً مُجرداً أو مُنْفَصِلاً  مختلفة متباينة عن الخُلُق الذي هو هيئة النفس الباطنة تصدر عنها الأفعال؛ فكما أن المعرفة شيء ونظرية المعرفة شيء آخر، كذلك علم الأخلاق شيء والخلق شيء آخر، وهذا هو معنى الانفصال المذكور. ولكن مع وجود مثل هذا الانفصال هنالك اتصال يشي برابطة قوية بين الأخلاق بوصفها علماً، والخُلُق بوصفه حالة للنفس وهيئة ثابتة تَرَسَّخَتْ عليها القيم التي اعتقدتها ومارستها فعلاً في الواقع المشهود : حركةً في الحياة العاملة، وحياةً في عالم التجريب.

فإذا نحن نظرنا إلى العلم سنَجده في البداية قائماً على “الخُلُق” لا ينفصل العلم عن الخلق بحال، فلولا وجود الخلق الحَسَنْ ووجود الخلق الشرير لما وُجِدَ العلم الذي ينظِّر للعملية الفكرية من حيث إنها تُوَضّح الفرق الفارق بين الرذيلة والفضيلة؛ أو بين الخير والشر، أو بين السلوك الطيب أو السلوك الخبيث. فالعلمُ لا يقوم إلا على أصل يتكئ عليه، وبالتالي فإنّ هذا العلم الذي يدرس الأخلاق ويهتم بتفاصيل مفرداتها وموضوعاتها هو في أول مقام يقوم على “الخلق” كمصدر لهذا العلم أو كمادة أوليَّة يستطيع من خلالها أن ينسج خيوط هذا العلم؛ وكما أن الهيئة الباطنة مَصْدَرُ الخلق الطيب وأصل الخلق الشرير؛ فهى كذلك مَصْدَرُ العلم بهذا وأصل العلم بذاك.

فما العلم إلا تأمل ذهني عقلي فيما عَسَاهُ أن يكون “الخُلُق” عليه من حركة سلوكية كانت قائمة فيما تقدّم أو هى قائمة بالفعل، أعني هو تأمل في تلك السجايا التي عليها تكون النفس وعليها تصير : تأمل تنظيري للأخلاق فيما ينبغي أن تكون عليه.

يُجْمَلُ بالمرء إذن أن يتحرى مصدر الأخلاق وجذرها الأصيل في الطبع البشري. ومصدرها المتجذر في طبع الإنسان هو تلك “الهيئة” التي تصدر الخلق كما تُصْدُر العلم حين يقوم عليها؛ أعني تلك الهيئة الباطنة التي تُلهم علماء الأخلاق أن يقوموا بتوجيه المعارف التي يتكلمون فيها وبوجهة أخلاقية، ولولا وجود تلك القوة الباطنة لما صار للأخلاق علمٌ، بمقدار ما نقول أيضاً لولا وجود تلك القوة الباطنة لما عرف الفرق بين فعل الخلق الحسن وفعل الخلق الشرير.

وعليه؛ تصبح تلك الهيئة هى أكبر المنافع للعلم المجعول للنظر والبحث، وللعمل الهادف إلى التخلق والتهذيب.

إننا إذا رجعنا إلى تعريفات الجرجاني (816 هـ – 1413م) ونظرنا فيما عساه يكون مدعاة للتفرقة بين علم الأخلاق من ناحية والخلق من ناحية أخرى، وَجَدْنَاهُ يتكلم في نص عن الخلق باعتباره هيئةً نفسانيةً راسخةً تصدر عنها الأفعال. وكلمة “هيئة” تعني ما يكون عليه الإنسان فعلاً وطبعاً. هذه الهيئة هى التي يؤتمر من خلالها على الفعل، فيَنْصَاع لما عساه يؤتمر فيه، إنْ كان الفعل صادراً عن هذه الهيئة موافقاً لها عقلاً وشرعاً سُمىَ بالضرورة فعلاً حَسَناً، وإنْ كان الفعل غير موافق للعقل والشرع سُمىَ ما يصدر عن الهيئة فعلاً غير حسن.

وإذن؛ تأتي تفرقتنا بين علم الأخلاق من جهة، والخُلق الذي هو الهيئة الراسخة في النفس من جهة أخرى في إطار “تثوير القيمة” التي من خلالها يكون علم الأخلاق هذا هو العلم الذي يدرس هذه الصفة الراسخة في النفس أو يدرس هذه الهيئة بتمامها وبكمالها؛ لأنه يدرس تلك الصفة حيث تصبح علماً قابلاً للدراسة ليقوم عليه العمل، ولا تصبح علماً غير مدروس ولا معمول به.

غير أن هذا العلم هو الذي يُبَصِّرنا بالضرورة بكيفية الوصول إلى حقائق الأخلاق، لكنه لا يَزالُ ناقصاً كأشدِّ ما يكون النقص ما لم يقترن بالعمل والتطبيق؛ فنحن لا نصل إلى الأخلاق بمفردنا تلقائياً بغير تَعَلُّم يدفعنا إلى التجربة والاختبار والممارسة، ولا نصل إليها ما لم نُدْرِكْ أن التعلم هو السبيل إلى إدراكها من طريق الوَعي أولاً فيما لو كان الوعي هو العملية الإدراكية لهذا العلم بالأخلاق، ثم يأتي دور الخُلُق ليَقُوم على الإدراك، وعلى الوعي، وعلى المجموع منهما؛ ليَتَرَسَّخَ في الباطن؛ ولتتكوَّن الهيئة راسخة لا تتزحزح عن الكينونة الآدمية قيد أنملة، بل تلازمها كبياض الأبيض، وسواد الأسود، وطول الطويل، وقصر القصير.

نأتي إلى نَصِّ الجرجاني فَنَستدعيه كما استدعى هو نفس النص من الغزالي (505هـ – 1111م)، لنراه يقول في تعريف الخلق: ” عبارة عن هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورَوِيَّة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً بسهولة سُميت الهيئة خلقاً حسناً؛ وإنْ كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سُميت الهيئة التي هى “المصدر” خُلقاً سيئاً…” (تعريفات الجرجاني : ص 9).

فالهيئة إذن هى المصدر للفعل سواء كان جميلاً أو كان قبيحاً. غير أن هذا التعريف ليس للجرجاني حقيقة ولكنه للغزالي، منقولاً بلفظه وحرفه ونصِّه من “الإحياء” حين شرح الغزالي الفرق بين لَفْظي : الخَلق والخُلق؛ هنالك أورد نفس النص الذي ذكره الجرجاني وزاد :” وإنما قلنا إنها هيئة راسخة؛ لأن مَنْ يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يُقال خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة ويسر من غير رَويَّة؛ لأن مَنْ تَكلَّف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وَرَوِيَّة لا يُقال خلقه السخاء والحلم؛ وليس الخُلُق عِبَارة عن الفعل فرُبَّ شخص خلقه السخاء ولا يبذل؛ إمَّا لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل لباعث أو رياء … ولكن الخُلُقَ في رأي الغزالي عبارة عن هيئة النَّفْس وصورتها الباطنة، تتشكل بالتكرار والتعود والمران وبذل الجهد في الممارسة، هذه الهيئة هى التي بها تستعد النفس لأنْ يُصْدُر منها الإمساك أو البذل ” (الإحياء : جـ3، ص 8).

هذا التأصيل الذي يذكره الغزالي ويأخذه عنه الجرجاني بحرفه ولفظه، مطلب أساسي من مطالب اتصال الأخلاق بالمعرفة، يتأتى خلال تجربته الصوفية؛ فمرافقة الظاهر للباطن ضرورة خلقية بغير نزاع. وتأسيس هذه الضرورة على فاعلية التجربة الصوفية يلزم أن تكون القيمة الخلقية مؤسسة على المضمون الديني لا محالة. وأنّ الأخلاق بهذه الكيفية لا كيفية سواها عنصر جوهري فاعل في الحياة الدينية بغير خلاف، ولا مناص من تثوير القيمة في إطار فاعلية التجربة الصوفية، وأن غيابها غياب للدين وللتجربة الدينية من الأساس.   

فإذا نحن عدنا إلى ما كنا بصدده، حكمنا بأن الأخلاق إذا هى كانت في رحَاب الدين تضمنتها بالضرورة أوامره ونواهيه. وإذا هى كانت نظرية فلسفية صارت بعيدةً في الغالب عن العمل والتطبيق، وكانت مُجَرَّد رأي ودراسة ليس إلا.

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *