Share Button

بقلم / محمـــــــد الدكــــــرورى
إنه الوطن الذي تألف أرضه وسماءه وبحره وبره، إنه المنزل الذي تعشق سهله وجبله وبرده وحره، فهو بكرة الطفولة، وأصيل الرجولة ولذا كان ثرى الوطن الذي تطئه برجليك: عديلا لنفاسة روحك التي بين جنبيك، كما قال تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم او اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به، لكان خيرا لهم واشد تثبيتا) (النساء: 66).

فجعل الله تعالى خروج الروح من الجسد: مساويا وموازيا لخروج الرجل من البلد وما جاء في فجر الاسلام، في مطلع بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، حين اصطحبته ام المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فقالت: (اي عم، اسمع من ابن اخيك.

فقال ورقة بن نوفل: يا ابن اخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآه، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي انزل على موسى عليه السلام، يا ليتني فيها جذعا، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: او مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وان يدركني يومك: انصرك نصرا مؤزرا) اخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.

فتأملوا كيف راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورقة في اخراجه من بلده، ولم يراجعه في اخباره بعداء قومه وأذيتهم له في جسده.

فلما اخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمكة: (ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولا ان قومي اخرجوني منك: ما سكنت غيرك) أخرجه الترمذي من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.

ولقد شقّ على الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين: الخروج من مكة بلد الله الحرام، فأصابتهم من لوعة تلك الاوجاع والاسقام، حتى خشي على بعضهم ان تتخطفه يد المنون وكربات الحمام، فقد اخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: وعك ابو بكر وبلال

وقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وامية بن خلف، كما اخرجونا من ارضنا إلى ارض الوباء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب الينا المدينة كحبنا مكة او اشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدّنا، وصحّحها لنا، وانقل حمّاها إلى الجحفة).

وتأملوا في موافقة الشريعة لعقول ذوي الالباب، فلما كان التغريب عن الوطن: من اعظم الابتلاءات والمحن، جعلت الشريعة الاسلامية التغريب من جملة العقوبات، كما جاءت احكامه في قضايا الحدود والتعزيرات.

وتأملوا في حكمة الشارع الحكيم، وكيف جمع في عقوبة الزاني اللئيم، ان كان بكرا بين جلده مئة مع التغريب، لما في الغربة من شدة الايلام والتعذيب، فلما لم يكن الجلد وحده كافيا في الزجر والتأديب، غلظ عليه بالنفي والابعاد والتغريب.

وكان امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد في الخمر ثمانين، ويحلق الرأس وينفي عن الوطن تعزيرا لشارب الخمر وعبرة للمعتبرين.

فتصادقت امارات النقول القويمة، مع علامات العقول السليمة، في الدلالة على ان الروح تحن ابدا إلى وطنها من الارض، لان الوطن قسيم المال والدم والعرض.

وهذه دلائل شريعة الاسلام، تكتنفها فطرُ وعقول الانام، في حبّ الوطن والسعي إلى جعله دار سلام فأين العيون الساهرة التي لا يأخذها الوسن، في حماية ورعاية مصالح هذا الوطن.

فالنفوس تبذل لاوطانها الغالي والنفيس وان ادرك ماء حياتها الاسن، فما ظنكم وقد حفكم الله تعالى في هذه البلاد الطيبة بوافر المنن؟

فتذكروا نعمة الله عليكم ايها المؤمنون، (واذكروا إذ انتم قليلٌ مستضعفون في الارض تخافون ان يتخطفكم الناس فأواكم وايدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) (الانفال: 26).

ومن كفر بهذه النعمة المسداة، وجحد وانكر هذه المنة المهداة: فستلبسه سنة الله تعالى لباس الخوف والجوع، وسيصير بعد العزة والمنعة إلى الذل والخضوع، (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بانعم الله فاذقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (النحل: 112).

Share Button

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *