Share Button
 بقلم ابراهيم عطالله…. .
لقد كانت حرب أكتوبر 1973، بلا أدنى شك، أحد أهم، وأعظم، الأحداث التاريخية فى العصر الحديث، والتى غيرت العديد من المفاهيم والأفكار السياسية والاستراتيجية والعسكرية، ليس فى الشرق الأوسط فحسب، بل امتدت آثارها إلى العديد من مناطق الصراع حول العالم.
لقد بدأت وسائل الإعلام تناول تفاصيل حرب 73، بمجرد الانتهاء من أعمال القتال.. بدأت تتناولها من منظور مختلف عن التغطية الشاملة للحرب، فبدأت الأقلام تحلل هذا الحدث الجلل، من ناحيتيه السياسية والعسكرية. وفى البداية، كانت الاتجاهات الأكثر وضوحًا هى الاتجاهات السياسية؛ إذ تغير شكل الصراع فى منطقة الشرق الأوسط، بعدما كان أشبه بالجسد المحتضر، فى ظل رضا القوى العظمى باستمرار «حالة اللاسلم واللاحرب» القائمة آنذاك.
.. فالقوى الكبرى تنأى بنفسها عن التورط فى نزاعات أو صراعات مباشرة أو حرب لا يعلم أحد نتائجها، فى ظل وجود دلائل وشواهد وتقديرات عسكرية تشير إلى أنه لا أمل، عسكريًا، أمام المصريين والسوريين، فى إحراز أى نصر عسكرى أمام الجيش الإسرائيلى.. فى أى صراع عسكرى محتمل.
والواقع أن القوات المسلحة المصرية كانت قد بدأت، فور هزيمة 1967، فى عملية إعادة تنظيم، وتسليح الجيش المصرى، الذى كان قد فقد أكثر من 70% من أسلحته ومُعَداته، سواء عندما دمرت القوات الجوية الإسرائيلية الطائرات المصرية على الأرض فى المطارات المصرية، أو أثناء مرحلة الانسحاب من سيناء. وبدأ الجسر الجوى، الجديد، بين مصر والاتحاد السوفيتى، فى نقل الأسلحة والمُعَدات السوفيتية إلى مصر.
وشرعت القوات المسلحة المصرية فى إعادة تنظيم قواتها، فورًا.. وهنا يجب علينا أن نشير إلى الفضل الكبير، فى هذه المهمة، للفريق محمد فوزى، وزير الحربية، والفريق عبدالمنعم رياض، الذى استُشهد على الخط الأمامى للدفاعات، وبدأت القوات المسلحة المصرية، تحت قيادة الفريق فوزى، فى بناء خط الدفاع الرئيسى غرب قناة السويس، لمدة عام، اطمأن، بعدها، الرئيس عبدالناصر إلى أن الدفاعات المصرية، بتنظيمها، وتسليحها، قادرة على إدارة معركة دفاعية أمام الجيش الإسرائيلى، إذا حاول اختراق قناة السويس.
فى هذه الأثناء، كانت القوات المسلحة المصرية قد حققت عددًا من الانتصارات، التى كان من شأنها رفع الروح المعنوية للمقاتل المصرى، التى فقدها، للأسف، بعد هزيمة 67. كان من أهمها، معركة رأس العش، حين حاولت القوات الإسرائيلية، شرق القناة، التقدم فى اتجاه مدينة بورسعيد للاستيلاء على مدينة بورفؤاد، فتصدت لها مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية، وأوقفت تقدم قوات العدو، فكان نصرًا عظيمًا، تذوق المصريون حلاوته لأول مرة.
كما كان للقوات الجوية المصرية دور كبير، فى هذه الفترة، عندما أغارت على العدو، فى عمق سيناء، مما أعطى دفعة جديدة للجيش المصرى، وتأكد من قدرة قواته الجوية على التصدى لأسطورة جيش الدفاع الإسرائيلى، المتمثلة فى قواته الجوية. ثم جاءت الضربة القاتلة للبحرية الإسرائيلية، بإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، كبرى قطعهم البحرية، أمام سواحل مدينة بورسعيد. وطلب الإسرائيليون، آنذاك، من القيادة المصرية السماح لهم بانتشال القتلى والغرقى من الجنود الإسرائيليين، دون تدخل من القوات المصرية.. فى عملية إنسانية.
وسوف يتوقف تاريخ العمليات البحرية طويلًا أمام عملية إغراق المدمرة إيلات، بلنشات الصواريخ المصرية، صغيرة الحجم. وهو ما دفع مراكز الدراسات الاستراتيجية فى العالم كله، وكذا مراكز البحوث فى قيادات القوات البحرية فى كل الدول، على الفور، إلى دراسة، وتحليل هذا العمل العسكرى غير النمطى. ولم تمضِ شهور قليلة على حدوثه، إلا وكان العلم العسكرى البحرى قد شهد تغييرًا حادًا فى المفاهيم الخاصة بفكر تنظيم، وتسليح القوات البحرية. وفى المؤتمر السنوى للمعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية فى لندن IISS، تم الإعلان عن المفهوم الجديد لتنظيم وتسليح أى قوات بحرية فى العالم، والذى سيعتمد على الزوارق، ولنشات الصواريخ السريعة، بل أعلنوا انتهاء عصر بناء البوارج وحاملات الطائرات، وأصبح تطوير القطع البحرية يركز على تطوير الزوارق الصاروخية، التى حقق بها المصريون هذه المعجزة، والفرقاطات ذات التسليح العالى والمتميز.
وبعد مرور نحو العام من هزيمة 1967، أعطى الفريق محمد فوزى، وزير الحربية، «التمام» للرئيس جمال عبدالناصر، بجاهزية الخطة الدفاعية غرب القناة، فأصدر الرئيس عبدالناصر أوامره بالبدء فى التخطيط للعملية الهجومية لاقتحام قناة السويس وتحرير سيناء. فى هذه الأثناء، كانت حرب الاستنزاف قد بدأت على ضفاف قناة السويس، بين الجيشين المصرى والإسرائيلى، قام، خلالها، الجيش الإسرائيلى بتنفيذ عدد من الضربات والهجمات فى عمق الأراضى المصرية، إذ قام بمهاجمة مدن القناة، بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وقامت القيادة السياسية، آنذاك، بتهجير أبنائها إلى الدلتا، والتهبت هذه المدن بنيران مدفعية العدو.
فى هذا التوقيت، بدأت القوات المصرية فى التدرُّب على عبور الموانع المائية فى أنهار دلتا النيل، بينما كانت إسرائيل تبنى خط بارليف على الضفة الشرقية لقناة السويس. واستمرت حرب الاستنزاف نحو خمس سنوات، تعلم خلالها الجيش المصرى الكثير، واستغل مدتها فى بناء حائط الصواريخ المضاد للطائرات، الذى أصبح، بعد أكتوبر 1973، رمزًا من رموز تطوير الفكر العسكرى، فى العقائد القتالية حول العالم.
أذكر جيدًا وجودى فى غرفة القوات المسلحة، على الجبهة، أثناء حرب أكتوبر 73، وأنا أستمع إلى رسالة مفتوحة، غير مُشفَّرة، من قائد القوات الجوية الإسرائيلية، لجميع قواته «بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كم»، الأمر الذى أتاح حرية الحركة للقوات المصرية، دون تدخل من القوات الجوية الإسرائيلية، وهو ما يوضح مدى تأثير حائط الصواريخ المصرى على شل قدرة سلاح الجو الإسرائيلى من دعم قواتهم على الأرض، محطمًا بذلك أسطورة «اليد الطولى» لإسرائيل، التى طالما تغنوا بها بعد نجاح ضربتهم الجوية فى 1967.
ومع انغماس القوات المصرية فى التدريب على العبور، ظهر العديد من المشاكل أمام المُخطط المصرى؛ كانت منها مشكلة ارتفاع الساتر الترابى على الضفة الشرقية لقناة السويس، حيث كانت مخرجات تطهير قاع قناة السويس يتم تجميعها على الضفة الغربية للقناة، ووصل ارتفاعها إلى نحو 20م، وكانت إزالتها ضرورية للتمكن من عمل فتحات الكبارى للعبور! فجاءت فكرة المهندس العسكرى المقدم باقى يوسف زكى، باستخدام المضخات المائية، التى كانت تُستخدم فى بناء السد العالى، فى هدم ذلك الساتر الترابى. كذلك كان هنالك التعامل مع أنابيب النابالم، التى وضعتها إسرائيل على ضفاف القناة، فتم التخطيط لتخطى هذا العائق، بأن تتقدم مجموعات من الصاعقة المصرية، قبيل بدء الهجوم، لسد أنابيب النابالم أو تفجير خزاناتها. كما كانت نقاط خط بارليف الحصينة إحدى المشاكل أمام المخطط المصرى للهجوم، فما كان إلا أن تكونت مجموعات قتال خاصة لمهاجمة كل نقطة دفاعية من نقاط خط بارليف.
كانت تلك لمحات سريعة، من شاهد عيان، لما تم فى ميادين القتال، لكن ما لا يقل أهمية هو ما حدث فى مراكز الدراسات الاستراتيجية، وما قام به المحللون والمفكرون العسكريون، بعد انتهاء حرب أكتوبر 73، حيث عكف الجميع على دراسة وتحليل تلك الحرب والاستفادة مما قدمه المصريون، من فكر عسكرى متطور، سواء فى تطوير أساليب القتال، أو إعادة تنظيم القوات، أو فى حساب التوازنات العسكرية.
لقد كان من أهم الإضافات التى حققتها حرب أكتوبر، لمبادئ القتال فى العقيدة الغربية، مبدأ «النوعية»، بعدما اعتمدت مقارنة القوات، قبل حرب أكتوبر، على أعداد الأسلحة والمُعَدات (الدبابات، والمدفعية، والطائرات، والغواصات، والمدمرات)، ولعل أشهر هذه الدراسات التقرير السنوى الشهير لمعهد الدراسات الاستراتيجية فى لندن IISS، «التوازن العسكرى» The Military Balance، الذى كانت تعتمد مقارناته بين القوات العسكرية على عدد المُعَدات والأسلحة التى تمتلكها. وجاءت حرب أكتوبر 73، لتقلب هذه الموازين، تمامًا، خاصة أن هذا التقرير كان قد ظهر، فى نسخته السنوية، قبل حرب أكتوبر، مؤكدًا التفوق الكامل لإسرائيل، مما أسهم فى إقناع العديد بأن مصر لن تغامر بالحرب.
وأفرزت حرب أكتوبر عاملًا جديدًا، لم يظهر، من قبل، فى حسابات القوى، وهو الجندى المصرى. ذلك الجندى الذى يعود إله ولإنجازاته فى حرب 1973 الفضل فى أن تقوم معاهد الدراسات الاستراتيجية والعسكرية بإضافة عامل جديد لحسابات القوى، وهو «النوعية القتالية»، ويُقصد بها الفرد المقاتل. ذلك العامل الذى غاب، قبل 1973، عن كل الحسابات والتقديرات، مما أدى إلى نتائج مغلوطة عن تفوق الجيش الإسرائيلى.
ومازلنا نتذكر اليوم الأسود فى تاريخ إسرائيل يوم التاسع من أكتوبر عندما وقفت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، وبجانبها موشى ديان، وزير الدفاع، فى مؤتمر صحفى شهير، لتعلن هزيمة إسرائيل وأن الدولة تصارع الآن من أجل البقاء، بعدها بدأت الولايات المتحدة فى مساعدة إسرائيل بإرسال الجسر الجوى بأحدث الأسلحة العسكرية المتطورة فى الترسانة الأمريكية، ولكن عزيمة المقاتل المصرى حققت هذا النصر العظيم، ولاأزال أتذكر كلمات الجنرال شارون عندما سأله خبراء معهد الدراسات الاستراتيجية فى لندن IISS: «ما مفاجأة حرب أكتوبر لكم أيها الإسرائيليون؟»، حيث قال: «الجندى المصرى الجديد»!.
وختامًا، لا يسعنا إلا أن نقر بأن الانتصار المصرى فى حرب أكتوبر 1973 قد غيّر العديد من المفاهيم فى مجال الفكر العسكرى العالمى.. وأنا على يقين بأن ما يحتفظ به الجانبان من وثائق يحمل فى طياته العديد والعديد من العِبر والدروس المستفادة، التى من شأنها إضافة مبادئ جديدة إلى العلوم العسكرية. وتظل هذه الحرب عملًا عسكريًا عظيمًا حققته القوات المسلحة المصرية، بالتعاون مع شعب مصر العظيم، وبمساندة من كل الشعوب والجيوش العربية.. لترتفع هامات العرب جميعًا، بعد أعظم انتصارات العصر الحديث.
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *